كثر منا لا يعرفون جيداً من يكون محمد ديب. بعضنا يراه روائياً وبعضنا الآخر شاعراً من الجزائر. أما هو فيريد أن يكون الشجرة التي يستطيع والده رؤيتها من بعيد. ليس من مغالاة إذا اعتبرناه أحد الشعراء والكتّاب القلائل الذين انتمت إليهم اللغة الفرنسية بقدر ما انتموا إليها. بل هو أحد كبار الآباء الفرنكوفونيين في العالم إلى جانب كثر بينهم جورج شحادة وكاتب ياسين وليوبولد سنغور وآخرون. إنه صاحب أدب لافت ذي منازل كثيرة: فبين أناه الشعرية وأناه الروائية، أبحر محمد ديب في خضمّ السوريالية والرمزية والباطنية والغرائبية والصوفية والإيروسية والكافكوية والواقعية واللاواقعية والفردية والجمعية، ليترك عند كل ميناء من هذه كلها كتاباً أو كتباً تتوزع بين الشعر والرواية والقصة وأدب الأطفال والمسرح، حتى ليمكننا القول إن جائزة نوبل للأدب خسرته أكثر مما خسرها هو. توفي محمد ديب قبل نحو من أسبوع في باريس عن إثنين وثمانين عاماً (1920 - 2003) لكن أدبه سيضطرنا دوماً إلى أن نستحضره ونستعيده محرّراً من عالمه الآفل، لأنه ينتمي إلى حديقة البقاء الكثيفة. زميلتنا جمانة حداد قرأته رواية وشعراً وكتبت هذا المقال وأتبعته بترجمة لبعض قصائده. أما الصور المرافقة فهي لتلمسان، مسقط رأس الشاعر الكبير.
"هل ثمة عودة ممكنة لمن رحل؟ لا أعتقد، أو بالأحرى أظنّ أن ذاك الذي رحل ليس هو نفسه هذا الذي يعود".
"شجرتي هي أنا. هنا نمتْ جذوري، وسأكون هذه الشجرة وسأظلّها حتى النهاية. وحتى عند موتي سأبقى الشجرة نفسها، منتصباً في مكاني هذا، سأكون الشجرة التي يستطيع والدي رؤيتها من بعيد من حيثما ينطلق عائداً إليّ ، إليّ أنا شجرته الصغيرة".
محمد ديب
قدرُ الكبار أن يشحذ الموت سكّين حضورهم فينا، أن تكون ظلالهم الراقدة أكثر هيبةً من قاماتهم المنتصبة، وأشدّ سطوعاً، أن يصلنا صوتهم من مملكة الصمت المطبق فاتحاً مخترِقاً لا يُكتم، كما لو أن الغياب يعيدهم إلى الفردوس الأول، إلى منطقة الولادة اللامتناهية، أي إلى رحم الوجدان والذاكرة والحلم والنوم الجنيني الذي لا خروج منه إلى الفناء. وآخر العنقود في سلالة الغائبين "المولودين" أولئك هو الشاعر والروائي الجزائري باللغة الفرنسية محمد ديب، الذي توفي أخيراً في باريس عن 82 عاما بعد صراع طويل مع المرض، ف"رحل إلى الغابة البعيدة بعينين مغمضتين" ليكون "قشة تغذّي النار" وليحلّق حرّاً طليقاً "بين ذراعي شجرة".
القصيدة كمون الرواية
يميل معظم النقاد إلى ايلاء أهمية كبرى لنتاج محمد ديب الروائي على حساب أعماله الشعرية، آخذين في الاعتبار المعيار الكمّي الذي يغلّب الفئة الأولى على الثانية، ومتناسين بذلك واقع أن رواياته ليست سوى استمرار لشعره، وهو القائل إن "القصيدة هي كُمون الرواية". فنثره يعبق شاعرية، لا بل يترنّح حتى الإغماء على حافة البئر الشعرية. كأن لغته، التي تحدّت على مرّ ثلاثين مؤلفاً في الشعر والرواية والمسرح وأدب الأطفال والقصة، قيود الأنواع الأدبية وقواعد الكتابة التقليدية ذات الخامة الأحادية، كأنّ هذه اللغة إبحار متواصل بين الشعر والنثر، على نحو "يشعرن" النثر و"ينثرن" الشعر في عملية تهجين وتلاقح وتناضح مُسكرة. فنرى كيف أنه كتب مثلا رواية في جسد قصائد ( "نشوة لوس انجلس" ) أو كيف تطالعنا في قصصه جملٌ وتأملات شعرية كثيرة على غرار هذه : "الظلال التي تضيّعها الغيوم على الطريق تهيم في الحقول، تهيم في حيرة هائلة. نحن نهيم أيضا، ولكن ظلال أي غيوم نحن؟"، ناهيك بالأبخرة الحلمية والغرائبية التي تتصاعد من بعض مؤلفاته (على غرار أجواء "من يتذكّر البحر" و"سيمورغ" وغيرهما). ولطالما أصر ديب في الواقع على "مواطنيته" الشعرية فكان يردد باستمرار: "إنني شاعر في الجوهر وقد أتيت إلى الرواية من الشعر، لا العكس". وإذا كنتُ قد ارتأيتُ شخصياً أن أنطلق في قراءتي له من موقع الإصرار على شعريته في شكل خاص، فلأن هذه الشعرية هي في رأيي سمة جوهرية موحِّدة تلفّ كل عالمه وتترقرق كمياه الجدول في تربته الروائية الخصبة وهو الذي وصفه الطاهر بن جلون ب"الصوت المسكون بالشعر".
بدأ نجم محمد ديب، الذي يُعدّ من آباء الأدب الفرنكوفوني في الجزائر إلى جانب مولود فرعون وكاتب ياسين، في السطوع مع ثلاثية "البيت الكبير" و"الحريق" و"النول"، وهي روايات نشرت بين عامي 1952 و1957 وتتمحور حول معاناة الشعب الجزائري، والطبقة الفلاحية خصوصاً، أثناء الاستعمار، عبر شخصية بطلها عمر على امتداد مراحل حياته المختلفة بدءاً من أواخر الثلاثينات وصولا إلى عشية اندلاع حرب التحرير. ولم يكتف ديب بوصف المعيش اليومي التقليدي في المدينة والريف، بل نقل خصوصاً يقظة الوعي السياسي لدى الشعب الجزائري أمام الاستعمار، وعالج معنى الالتزام الوطني ولكن بعيدا عن الجزم التبسيطي والخطاب الأيديولوجي والنضالي الرنان. وقد تكون ربما من أبرز أسباب شهرة تلك الثلاثية ما تتضمنه من رموز القضاء على النظام الاستعماري ووقعها الثوري في نفوس الناس، ناهيك بتحويلها مسلسلا تلفزيونيا في السبعينات. وقد أدّى محمد ديب فيها دور المراقب - المحرِّك بامتياز، فأطلق العنان لنظرته النافذة الرحّالة وتأمل، بنبوغ البساطة وبواقعيةٍ فجة، بشاعة الفقر والبؤس والاضطهاد والظلم والاستعمار، وطرح قضايا وجودية كالخوف من فقدان الهوية والمواجهة بين الناس ومصائرهم.
المكان بين المنفي العادي والصوفي
بدءا من عام 1959، أي تاريخ ترحيله من الجزائر بسبب نشاطاته النضالية، اختار محمد ديب أن تكون فرنسا بلد المنفى، فأهدته اللغة بذلك إلى الأرض بدل أن يحصل العكس. الا أنه لم يمنح المنفى يوماً طابعاً دراماتيكياً، بل شكّل هذا بالنسبة إليه محض "قطيعة مع مشهد" بحسب قوله، وجسّد عبوره من ثقافة إلى أخرى، وهو عبور يغني جميع الذين يختبرونه في رأيه لأنه يدفع الإنسان إلى التوغل في جحيمه الداخلية. وغالبا ما عبّر ديب عن سروره بالإقامة في باريس، والحقيقة أن مفهوم المنفى لديه ليس مسطّحاً بل متعدّد الوجه والمستوى، إذ انه يفصل بين المنفي العادي وذاك الصوفي، فيسأل مثلا:
"هل يعيش المنفي الصوفي والمنفي العادي التجربة نفسها؟ بالطبع لا. فرغم أن الاثنين يغذيان قلبيهما وافكارهما بالحنين، الا أن الشيء الذي يعاني الأول حنينه ليس هو نفسه ما يعذب الثاني. الصوفي يحيي خساراته بالنار الإلهية، أما المهاجر فلا يحلم سوى بالتلاقي من جديد مع بلده المفقود، وبالانبعاث الذي قد يعنيه ذلك اللقاء له".
إلا أن هذه "العقلنة" لواقع المنفى والمصالحة معه لم تكن مرادفاً لحصانةٍ انتمائية لدى ديب، تنبع من اللامبالاة أو من الانشقاق الراديكالي عن الأرض الأم، بل كانت على الأصح تجسيداً لرؤية شمولية شبه طوباوية عن مفهوم "المكان" والهجرة والاغتراب، وهي رؤية تنمّ على ألم وانسلاخ ومعاناة عميقة. في رفض ديب إذاً لصفة المنفيّ كبرياءٌ بقدر ما فيه من القناعة، ونستشف أهمية ذلك من خلال الكتابة غير المنفصلة لديه عن المكان ، ومن هنا بعدها الحيزيّ ، لكنه بُعد فقدان الأرض لا الانصهار بها. فاللغات والحدود ليست بالنسبة إلى الكاتب سوى أقنعة، وقد آثر أن يتبنّى هذه الأقنعة وطناً جامعاً شاملاً، وهو الذي "عولم" جزائره وتجاوز مفهوم الهوية الواحدة وجعل كل الدروب تؤدي إلى بلاده ودربَ بلاده تؤدي إلى العالم اجمع:
"ربما سيأتي يومٌ يتوقّف فيه ذهاب الغرباء هذا وإيابهم. آنذاك سنلتقي جميعاً أينما كنّا. ولن أعود في حاجة إلى معرفة ما إذا كنتُ من هنا أو من أي مكان آخر. لن يرفض أي مكان أن يصبح ملكي ولن يعيش أحد في بلد مستعار. حتى الصحراء ستستقبلنا بحفاوة وتمد لنا عري يدها المفتوحة. وحين تعود الأرض إلى وجهها الأول، سوف تكون ملك أول الوافدين".
ولم تكن علاقة ديب بالمكان منوطة بتجربة المنفى والتيمات الجزائرية فحسب، بل كانت تتبلور كذلك في أفقه المفتوح على عوالم أخرى. فهو كان رجلاً كثير الأسفار، وقد نشل مادة أدبية غزيرة من أمكنة سفره على غرار فنلندا التي كتب حولها ثلاثية أخرى ("شرفات اورسول" و"نوم حواء" و"ثلوج مرمرية")، ولوس انجلس التي أقام وعلّم فيها ("نشوة لوس انجلس"). الا أنه حمل الجزائر معه في جميع ترحاله: جزائر الضوء والصحراء، جزائر شجرة التين والزيتون و"الثلوج الرملية". وقد فعل ذلك بحنين لصيق بنوع من "الحقد" النبيل الخلاق، من نافل القول إنه حقد مبرر، إذ في حين تُرجمت مؤلفاته إلى لغات كثيرة منها الايطالية في العام الماضي مع نشر دارAiep كتابه "صيف أفريقي"، وبينما تستعد فرنسا اليوم لإصدار كتبه في سلسلة "كتب الجيب" ولعرض أعماله في الخريف المقبل في المكتبة الوطنية الفرنسية في إطار سنة الجزائر التي تحتفل بها، يروّعنا أنّ حضور هذا الوجه العربي في اللغة العربية شبه معدوم، إذا استثينا ديوان "إسماعيل الفجر" الذي صدر مترجما في الجزائر عام 2001، أي بعد نحو نصف قرن على صدور "البيت الكبير" في فرنسا، والجائزة الأدبية التي أنشئت بإسمه في مسقط رأسه تلمسان.
"أصبُّ اختلافي في قالب اللغة"، كان ديب يقول متحدثاً عن علاقته باللغة الفرنسية والتحامها بلغة صوره الذهنية، أي بعربية بلاده. ولطالما ردّد أنه يشعر حين يكتب أو يتكلم بأن لغته الأم تتلاعب على نحو غامض وسرّي بفرنسيته. ولكن ليس هذان الاختلاف والتلاعب اللذان يشير اليهما دلالةً على اغتراب وطلاق بين هوية الكاتب واللغة التي يكتب فيها، بقدر ما هما علامة على المسافة الفاصلة بين وجدان هذا وجسد لاوعيه من جهة، والصوت الخارجي الذي اختاره من ثانية. وهما اختلاف وتلاعب أثريا تعبيره بدل أن يفسداه إلى حدّ دفع اراغون، الذي قدم لمجموعته "الظل الحارس" الصادرة عام 1961، إلى امتداح قدراته اللغوية وفرنسيته الصافية المتقنة المنزّهة عن أي اكزوتيكية لفظية، فقال عن الكاتب المعجون بميتولوجيا الشرق والغرب على حد سواء: "هذا الرجل الآتي من بلاد لا علاقة لها بأشجار نافذتي ولا بأنهر ضفافي ولا بحجارة كاتدرائياتنا، يتحدّث بلغة فيّون وبيغي".
ورغم أن ثلاثية الجزائر مصدر شهرة محمد ديب ، الا أن أعماله في مرحلة ما بعد الاستقلال هي الأكثر أهمية في رأي عدد كبير من النقاد. فقد كان الجسد الأول لكتابته واقعياً ، " شاهداً " على اللحظة، وسرعان ما أعاد الكاتب النظر في ذلك الجسد الأرضي الناقص فتخطّاه وصعّده وأوجد لغة دائمة التجاوزات على غرار الهلوسة. لغة متطلبة على قلق، معرّاة على كثافة. لغة الغوص في الأعماق والتساؤل الهجسي عن الحياة والموت والحب والهوية والكتابة وقدراتها، لغة اللاوعي المحموم والخيال الايروسي والباطن الصاعق العنيف الذي لا يرحم ولا يكلّ في محاولة إثباته عجز الكلمة أمام العدم ونقيض ذلك في آن واحد: لغةٌ هي في اختصار وعلى أكثر من صعيد زواج بين النار والثلج، ومن غير المبالغ القول إنها صنعت الكاتب بقدر ما هو صنعها.
أدب بمنازل كثيرة
وإذ يحلو للبعض تقسيم مسيرته مرحلتين أو ثلاثاً بناء على محور الاستقلال الذي سجّل تحولا جذريا في كتابته، الا أن هذا التقسيم غير دقيق بسبب عدم وجود فواصل جذرية في رحلته الأدبية، التي تتداخل فيها السوريالية مع الرمزية والباطنية والغرائبية والصوفية والايروسية والنفحة الكافكاوية، حتى ليبدو ديب كمحارب يقاتل على جبهات متعددة في آن واحد، ناهيك بالعلاقة المعقدة والمتشابكة بين أناه الذاتية وأناه الروائية التي لا يختفي فيها بل يتخفى وراءها. بذلك تتجلى علاقته مع الكتابة علاقة قاتلة ومحرّرة على حد سواء، علاقة هروب واصطدام متعاقبين. إنها عملية صيد للقبض على المعنى، لكنّ الصياد يصبح فيها الطريدة. وهي أيضا سهر وانتظار وتأرجح لامتناه بين الواقع واللاواقع، بين الفردي والجماعي، بين السيرة والخيال، بين المعنى وضدّه، بين الواقع والرمز، في نَفَس لاهث راكض إلى حد الدوار، فلا يسعنا إلا أن نلهث وراءه:
"سوف تظل هناك حلقة سوف تظل هناك نملة سوف تظل هناك نجمة وسترفض الكلمة على الصفحة أن تنكتب وستعيدون تركيب الأحرف في كل الاتجاهات وستولد منها كلمات مقنّعة ستتضخم معها معرفتكم حتى البدانة وستتربّع البدانة على العرش".
وقد اتاح التقاء أساليب الكتابة المختلفة هذه مع امكانات القراءة المختلفة لدى ديب استنباطه نهج بناء محيّراً، إذ ما أن يظن القارىء انه وجد الدليل الذي يرشده إلى "اللب" حتى يضيّعه من جديد ويغرق في العتمة. وما هذا التزاوج بين الأنواع في نظره سوى محاولة لإنقاذ الشعر من الارتخاء والخدر بواسطة واقعية الرواية، ولإنقاذ النثر من الجمود والمحدودية بواسطة حلمية الشعر، فتبدو لنا معانيه متكاثرة متطايرة كشظايا حارقة في كل الاتجاهات. إنها بداية دائمة وعودة إلى نقطة الصفر، فيتوجّه إلى الشعراء بهذه الكلمات:
"لم تقولوا كل شيء، مثلما ظننتم، ولا قلتم ما أردتم قوله كما يجب. الخيبة تنتظركم دائما في آخر الطريق".
وشعر ديب الذي بدأ شفافاً وازدادت لغته هرمسية مع الوقت هو شعر الأسئلة التي لا جواب عنها، شعر الحياة الواقفة على شفا الكلمة، شعر الخيال المتحرك ذي القدرات المتعددة والفلسفة الصوفية التي تتعالى من ضجيج الواقع وعري الحقيقة : إنه شعر لا يسلّم كل مفاتيحه لكنه طالع من الينابيع، وليست هرمسيته الا قشرة ظاهرية تعقّد عملية العبور إلى الجوهر من دون أن تجعلها مستحيلة. قصائده تقع في منطقة البين بين، فهنا صمت وهناك بوح، هنا غموض وهناك استسلام، هنا تصادم وهناك انسياب. وهو مسكون خصوصاً بالحساسية الإنسانية وبهاجس الفراغ الذي تنبجس منه كيمياء اللغة التي يصفها بالمرأة لأنها على غراراها "مثل فجرٍ يظل ظلمة مثل فراغٍ يتكوّن فيه المصيرُ الإزهرارُ الخاطف الربيعُ الذي لا سنّ له".
كان محمد ديب رجالا كثيرين في رجل واحد. ولقد عمل حائكا ومحاسبا ومعلما ومترجما وصحافيا قبل أن يكرّس نفسه كلياً للكتابة. وحاز نسّاج الحقيقة والحلم هذا جوائز أدبية كثيرة في حياته على غرار جائزة مالارميه الشعرية على ديوانه "الطفل-الجاز" والجائزة الكبرى لمدينة باريس والجائزة الكبرى للفرنكوفونية من الأكاديمية الفرنسية عام 1994 على كتاب "تلمسان أو مناطق الكتابة" الذي يستكشف فيه تجربة الشعر متقاطعاً مع الصورة، وهو عبارة عن نصوص للكاتب مضفورة مع صور لفيليب بورداس: نصوص وصور تروي مدينة تلمسان مسقط رأس ديب والعاصمة الثقافية والدينية لغرب الجزائر، وتقدّم خصوصا تأملات حول علاقة الشاعر بالأفق والطفولة والمشهد، واحتكاكه الأول مع رغبة الكتابة. إلا أن الجائزة التي لم ينلها محمد ديب رغم تداول اسمه فيها هي جائزة نوبل للآداب : ويمكن القول إن هذه هي التي فوّتته على ذاتها لا العكس، ولا خسارة حقيقية على هذا المستوى للشاعر صاحب الصوت الخفيض والكلمة الطاغية الذي لطالما كره الاحتفاءات ونبذ الأضواء بتواضع العارفين وكِبَر الكبار.
رحل محمد ديب بعدما روى للعالم ومضاته وجماله وكسوره. رحل بعدما صرخ "عينه الدامعة حتى الاختناق". هبط عليه الظلام ف"جاءت الشجرة إليه وأغمضت عينيه". أوى الشاعر إلى صمته وفضّل أن "يحفظ الكلام لأمور أخرى".
******
الشجرة
كانت الشجرة تنتظر
ثم هبط الظلام.
ظلت واقفة هناك
والولد ينظر إليها.
قال: إنه الليل
ثم دخل.
هم تعشّوا وسهروا.
والشجرة؟ قال.
والشجرة؟ تساءل الولد
تحت ضوء القنديل،
الولد الذي جاءت الشجرة إليه
وأغمضت عينيه.
بلد
التحف ببلده
ونام، على أمل
أن يدرك أعماقه.
وجد الطريق أخيراً.
بثقة تعرّف إليها.
كل شيء هنا، قال، كل شيء.
حتى الناس.
تعرّف إلى نفسه أيضا.
التحف أكثر ببلده.
كانت الطريق أثراً
سوف يدرك عمقها
وكل وجهات النظر.
إلى بلدي
حين تعطيني وجهاً
من أنهارك ونيرانك
وتكسوني بالوقت
وتدلني على علامتي
وتهرقني كدماء
آنذاك سيبرق فيّ
جليدكَ وصمته.
الباب
هل من يفتح لي الباب؟
يقول الولد.
ثمة شيء هناك
في القريب
من يريد أن يفتح لي
هذا الباب؟
من ؟
ذاك الذي اسمه المشّاء
من ذاك الذي يصدر الأوامر
ويترك دماءكَ تصرخ؟
لا تسلْ.
السكاكين تطعن في الظهر،
تقتل من خلف،
وأنتَ
تذهب إلى الغابة البعيدة
بعينين مغمضتين.
آثار
أغلقن أبوابكن أيتها النساء،
النوم المرّ
سوف يملأ أعصابكنّ،
المياه والرمال محت
آثار خطواتكنّ.
أنتنّ لا تملكن شيئاً.
قشّة
أن نكون قشّة
أمام الشعلة
أن نغذّي بها النار
النار الجميلة.
الشاعر
أن يجلس
مثل رجل مجهول
أن يضع يديه
على الطاولة
أن يطلب
بعينيه فقط
مأوى
وإذن استخدام خبزٍ
ونار
لم يصنعهما بنفسه
أن يجمع الفتات
في الختام
ليحمله إلى العصافير
ألا يقول من هو
من أين أتى
ولا لماذا
أن يحفظ الكلام
لأمور أخرى
ويضع الكرسي
أمام النافذة.
القلب المبدّد
أُصرخْ وأصرخْ أيضاً
رشدكَ الضائع
أمواج عناقك
الجاهزة للسقوط
اصرخْ سماءك المدمّرة
أفرغْ منها العصافير
ملء يديك
أصرخْ عينكَ الدامعة
حتى الاختناق.
الضفاف المراهِقة
سوف يكون المشهد
في مكان آخر
أنا انتظركِ
هناك
سيكون الجو صحوا
على الضفاف المراهِقة
وأنت جميلة ستكونين
أتعرفين؟
المجنون
هذا المجنون، قال الولد،
هذا المجنون الذي يجول
باحثا عني.
أنا هنا، قال،
هنا، وهو يبحث عني في البعيد.
أتراه فقد نظره؟
يبحث عني في البعيد.
ولكن ما خطبه؟ قال الولد،
ألا يرى أني هنا؟
وظل الإله يبحث
كما لو أنه لا يرى.
كما لو أنه لا يعرف.
النائم
كانت حيوانات ذهبية تجيء،
تحدّق فيه، عينها في عينه
وتمرّ.
هو نام في ذاك البستان
هي تابعت طريقها.
ثم عادت، أو عاد غيرها
ونظرت إليه.
وهو، منظورا عينا في عين،
ظل نائما في تلك الحديقة الكثيفة.
ترجمة جمانة حداد
********
أعماله
في الشعر
الظل الحارس (1961)
صيغ (1970)
النار الجميلة (1979)
إسماعيل الفجر (1996)
الطفل - الجاز (2000)
في الرواية
الجزائر ( ثلاثية مؤلفة من البيت الكبير 1952، الحريق 1954، والنول 1957)
صيف أفريقي (1959)
من يتذكر البحر (1962)
رقصة الملك (1968)
الله في بلاد البرابرة (1970)
معلّم الصيد (1973)
هابيل (1977)
شرفات اورسول ( 1985)
نوم حواء (1989)
ثلوج مرمرية (1990)
شجرة الأقوال (1998)
نشوة لوس انجلس (2003)
سيمورغ (2003)
في القصة
في المقهى (1956)
التعويذة (1966)
الليل الوحشي (1995)
في أدب الأطفال
بابا فكران (1959)
قصة الهرّ الحردان (1974)
سالم والساحر (2000)
في المسرح
سلام مستديم (1964)
ألف صرخة لصعلوكة
(1980)
ملحق النهار الثقافي- الأحد 11 أيار 2003
إقرأ أيضاً:-