من مجموعة

12 نصاً في قصيدة

"دار الفارابي" 1982

­ 1 ­

الإسطبل

يقودنا الضوء إلى الخارج
كما يقود خيطاً إلى إبرة
يتناولنا كطرف كلمة
تخيط عبارة شاهقة في خروم النوم
كوسواس يسرقنا
.....................
بينما تتخبط الريح بين الحفر

قبعة تلف بين الشموع
تلك الذاكرة المكفوفة
التي تتقدم في معرض ليلي
هل يخضر الجلد ثانية
أم تذكر اليد
ما تسرّب منها

هل نجلس في مشورة الخلاء
أم نتقبَّل ذلك العشاء البارد
في الغرفة الأخرى

الأسماك في السلة
النواصة في الممشى
نغسل أفواهنا من ضجة النهار
ومن الهواء
الذي في سعيه ليصبح كلاماً
تحطم على أسناننا

هل نبقى وحيدات في هذه القلعة
           التي غدت إسطبلاً
خائفات من لعبة منتصف الليل
مما تدبره المرايا المتقابلة طيلة اليوم
ومن الإشارات الدائمة
لحذاء مقلوب
وكأس محطمة

­ 2 ­

الضوء

الضوء الذي تكرر آلاف المرات
كغرزة في ثوب
والذي ينير داخل الأحذية والممرات
كما ينير عيون النساء

الضوء الذي ينكسر مع حركة اليد، ويلف
                     مع النول، ويعوم
                     على المجلى
والذي يدور في الصيوان، ويرتفع
           على عمود الملابس، وينتقل
               على درجات الرفوف

كأنه يرفو زوايا البيت
باذلاً للآنية جلستها المطبخية
للإطار الفضي سهوه المعدني
للمسوح المعلقة عظام قصة

إنه يدخل من ثقوب القبعة القديمة
بدون أن يزيح الظل الرمادي
ويدخل إلى المخدع
في هيئة النوم

­ 3 ­

نأخذ الوقت بجرعات كبيرة

السماء تتجور وتطلق ممراتها وطرقها الهوائية
والليل يهتز كبحر ملفوف بالجلاتين

نأخذ الوقت بجرعات كبيرة
تنخفض الأرض ويبرد اليوم
بينما تتحرك الأرض بملاحيها المنومين

­ 4 ­

الساعة ترتجل

في الخزانة رجل دفن في الهواء
كان الضوء رصاصياً كأنه في ظل أيقونة
الضوء الذي تسرب يوماً من زجاج نظارته
وربما من عينيه
حينما كانت أصابعه وفمه
حتى طرقة عصاه
مرئية

رجل محفور في الغبار وفي بخار الصباح
الذي لم يعد سوى مرآة تحطم عليها
وها نحن نخفي أعيننا لنبصره
ونخفي أناملنا لنتنسم يده المطبوعة
                    على فضاء ما
جانباً، الكتابة حية على ورق الرسائل
الأزرار حية على السترة
الأعشاب حية على الخشب
كل شيء يموت من حياته
كالبحر الذي يموت من ملوحته

ضجة أشعة وقرص شمس على كرسي
مقعد منهار على قوائمه - ربما هناك أصابع
جذع مقطوع من قاعدته - ربما هناك ظل قامة
طبق من أظافر مقصوصة وأعواد ثقاب
أعقاب
(النار تفنى من جذورها، النار وحدها لا تترك أعقاباً)
الساعة في الدرج
الغليون والولاعة في المحفظة
بينما نرتجف
كما لو كنا نصطدم بأضلاع
ونخشى إذا تأملنا في عمق الخزانة
أن نرى رأس ثور وحد
          يحدق من قائمتيه المقطوعتين

المئذنة تنقل ظلها كل برهة
الساعة ترتجل

­ 6 ­

كومة قلوب في منشفة

فجأة تكت كومة ساعات قديمة في ذلك الصندوق
الحديدي
مفاتيح باتت عمياء عن أقفالها. أطباق محطمة
دفناها تحت الشجرة
معطف يختلج قليلاً، ربما تدق ساعة في جيب سترته
آلة كاتبة مسجاة،
الهواء يغط في مجراه، فجأة تنغل كومة قلوب
في منشفة

الأعمى بين عشر طرق، وبدون أن يبصر الأسهم المحيطة، بدون أن يسلك طريقاً، يصبح خارج المقبرة

­ 7 ­

كان هناك وقت

كان هناك وقت
لنشرب بملاعق صغيرة
لنفرغ حفر البول، وعلب الصدقات
ولنترك الكتب واللحوم المدخنة على الرفوف

كان هناك وقت
لنغربل الرمل من فصوص الزجاج، وشعيرات
                    الذهب
لنثقب الخرز ونواصات الليل

كان هناك وقت
لنجلس بين الركب المقطوعة لجمل وحيد
حين يعوم الشارع بزيت السردين
حين تلتمع قرية كقرص روث ملتهب
حين يصبح للسماء لون الإسطبل

كان هناك وقت لننفق الهواء ولنقترض نجوماً أخرى

كان هناك وقت
لنجمع أعقاب الشموع
لنزيت جدارية الحصاد
لنسوِّي ياقات الموتى وقبعاتهم، وربما أعناقهم
                              المائلة

كان هناك وقت
ليمكث الهواء زمناً آخر في الأنابيب والأكمام
لتبقى شعرة ساقطة في الإناء
لنحفظ خلية أوكسجين واحدة في رئة الميت
ولنسكب نقطة خمر في عينيه

كان هناك وقت
لنعمل وفي آخر النهار
تسقط اثنتا عشرة ساعة من عيوننا قبل أن ننام

كان هناك وقت
لنجمع عن الشاطىء القريب
السمك اليابس
والأحشاء التالفة للمياه

كان هناك وقت
لنجد وجبة أسنان
وجرة رماد. نعرضهما على المجلى

كان هناك وقت
اثنتا عشر ساعة تسقط من العيون
اثنا عشر تلميذاً ---- مع من مات منهم
يصبون على أيدينا
حين كان البصر الذي تخ في الفضاء
والهواء الذي اعتكرنا جميعنا فيه
يرتسم على بصمات أصابعنا

-11 ­

الخادم

الأسرة مرتبة من جيل
الشمعدانات ملمعة من هنيهة
الزهور جديدة في الإناء
الملح ندي من أمس

إنني أحل شعري وأدخل
متفقدة في الظلمة حبلاً من التحف الخشبية
على طول العارضة
التاج الصدفي للكرسي الكبير
الكتب التي كنا نشم سطورها
                    قبل قراءتها العاشرة
وأوشك الآن أن أقرأ عناوينها بأصابعي

أفتح عيني على آخرهما
حتى يتسعا في كل وجهي
عند ذلك أسمع بؤبؤي ينبض كعقرب الساعة
وأنا أشخص من زاوية إلى أخرى

يظهر الليل مسناً على المقعد العالي
حيث كانت سيدات يحكمن من وراء عدسات مكبرة
الشبابيك المطعمة
الخادمات ذوات الفوط
الحمالين الذين يجرون الخزائن
شريط السعي الصباحي

أحياناً كان شعري يشتعل كعليقة
بينما عيناي تغيبان في نفق من القبعات
                    والوجوه الجانبية والأكاليل
كان ثوبي يسحب على الردهة الخضراء
وأنا لا أدخل كعاشقة بل كفتاة برج
حيث كانت الملكات ييبسن عالياً
وحيث كان الانتحار تاجاً
الإزار، وكوز الماء، وكتاب الصلوات
الماء بارد بدون ذكرى
العينان تأكلان الوجه
الليل ينفرط إلى تكات بطيئة
والثواني تنتقل بلا توقف على الأنامل
العمر عمر الخشب
والوقت ينطفىء في عقد الجسد
حتى لحظة سقوط الرأس

لم أكن أدخل كعاشقة ولكن على أطراف ثوبي
(كنت أحب أرفع رأسي في حلقة، وأتعلق
                    بين الأجراس)
(كنت أحب أكون مفرقاً)
أمشي على أطراف ثوبي كما لو أمشي على نفسي
وأتوقع النسيم يتنفس بصعوبة أيضاً
وحين ترن حلقة المفاتيح في وسطي
أفكر كم هي طويلة خدمة الليل
وأتذكر أنني لم أوقد شمعة على المدخل
وأن المماشي، بلا شك، عميقة الآن

حين يلتوي عودي - كما عن غير قصد - على الباب
ويسقط صدري على صحن
تنفجر للحظة حقيبة من الممرات السريعة
تسرع عربات البريد وتتفرق الخيول السائبة
ويلوح السقاة بصواني الكؤوس على الشرفات
للحظة ترتجف شفتي، وربما تطربن كنقطة خمر
على الرخام
وربما كثقب حديث

أتقدم رافعة رأسي
ناسية حتى الغياب أين فمي
ليس سوى عيني تلمعان كلوزتين مجمرتين
وربما تلمعان على قميصي

أتفقد عشر شموع على الشمعدان الرئيسي
وخمس كؤوس فوق المكتبة
ولوحة بثلاثة أوسمة وعشر حراب مشكوكة في الوسط
ثلاثة ندوب في تمثال العذراء
وثغرة مملوءة شمعاً في برج القوس
... كيف تترقم الأشياء عند كل خطوة
عندما تتحول الذاكرة عداداً
.........................
ليس سوى نهار ضخم لا يتزحزح
....................
لكن من يسمي لي الأشياء التي ضاعت والتي
ليس لها في ليل الحسابات
سوى عيون مغمضة

أشم حافة المائدة حيث أريق على توالي أعوام
حساء ونبيذ وشاي
كل هذا يشيخ في خلايا الخشب، فلا تبقى سوى
                    رائحة الشيخوخة
أشم الأغطية. كيف يسن الغبار؟
هل أجرؤ على أن أستلقي على هذا السرير
الذي يعلو بي
ليكون لي للحظة عمر الملكات

ماذا أفعل
حين أجثو تحت قوائم المقعد
                    وأرقد تحت السرير
حين تفترس العينان - لا الوجود كله - ولكن
                    حتى الدموع
التي نبتت كشوك الأبدية
وحين لا يبقى سوى تلك النظرة التي
                    تجوفني من وسطي
وتقلبني على الأرض كشمس معكوسة
والشعر الذي يطفو فجأة من الأحشاء المظلمة
ولكن من يراني
هذا العالم يسقط مني بغتة كقلعة في بئر
ويتركني مجردة

ماذا أرى بموازاة الشمعدانات والتماثيل
سوى حبل من الحفر
هل أبقى هكذا مسجاة أتنفس ذلك الخلاء؟
هل أبحث عن جرس مفقود بين الحياة والموت
أم أنقل نبضي إلى أسلاك مقطوعة

ماذا يبقى لي حين يحترق الزغب على جسدي
وحين أفرغ كمحارة من حيوانها المرتعد
ماذا يبقى لي سوى مكافأة الخادم
بينما ترتفع الأيقونة
          والتماثيل
          والشمعدانات
إلى سماء مثقوبة

­ 12 ­

الانتحار

كانت الحقيبة تثقل في يده كلما مشى

وعندما صعد
أحس بالسلم يطوى وراءه
ولم ينظر

أضاء الحجرة ورأى شمعة واقفة
فتصورها مغروسة في رأسه
بعد ذلك
شعر أن الحقيبة تثقل بضجة كبيرة
كأن مدينة تتكلم فيها
طيلة النهار بقي يلف
          كأنما يبحث عن ثقب في داخله
فمن مكان ما
كانت تسيل فوضى ونقاش طويل
كانت الحنفية في المطبخ أيضاً تتكلم

رأى الضوء الأخضر والطريق مفتوحاً للمارة
أضاء الأخضر في رأسه
رأى الضوء الأحمر وانقطعت الطريق
أضاء الأحمر
الأحمر الأخضر الأحمر الأخضر الأحمر الأخضر
انكسر البلور
أغلق النافذة
وأطفأ رأسه

طيلة النهار كان يشعر أن أشياء
                    تتسرب دون قصد
إلى ثيابه وحقيبته
كان غالباً ما يلتقط فكرة عن الطريق
أو يتناولها من الهواء
كان أيضاً يخسر أشياء لا ينتبه لها
كثوب ينسل خفية

ثم أحس أنه لا يستطيع أن يجمع نظرته
                    من الفضاء
وأن أشياء منها تبقى في رمشه
ككلمة على طرف اللسان

كان النسيم ساخناً
     والبنايات
     والمدينة
     تتتالى
لم يكن يتذكر، لكن الأشياء تهب عليه
كأنها تخرج من فتحة في الزمن
.................
كان يفسح في الطريق لشارع يتقدم من بعيد
ولأبواب تلمع فجأة في الظلام
...................
كان يسمع من كل جانب غمغمة
لشهود يتعرفون عليه
....................

كان يمشي في أمس
أمس بلون العصر
غيمة من غبار كلمات وغبار أفكار
                         تصعد إلى عينيه
.... أنهم يتناقشون وهو في السهو يلتقط
أطراف ما يقع من أصواتهم
ولا يستطيع أن يرفع رأسه من هذا البخار

كان يمشي في أمس
...كانوا يتحدثون وكان يغص بالكلام
الكلام المهجور
وقد فقد نطقه
كان يمشي في ذاكرة
كأنما يسير في معرض
لا يملك فيه شيئاً
كان عليه دون جدوى أن يبدأ من تهجئة اسمه
ومن الرصيف المقابل
لكنه كلما بدأ
ضاق حتى بظل قبعته
وكلما أحس أن حركاته تسقط وتتكرر
وأن عليه أن يمسك نفسه
كي يمنع عموده من أن يرن كلما انتبه
ويموج في الصدى
لم يكن ذلك عارضاً دون شك

لم يكن عليه إذن أن يفعل شيئاً
كان عليه أن يتسلق إلى طرف الطريق
تاركاً وراءه حبلاً من الخطى التي فكها عن قدميه
وأن يقف هناك كالصاري
(ذلك يذكر ببحر لم يعد قريباً)
ويترك المصابيح تظلم بالترتيب
خلف كتفيه

في الصباح كان ممدداً
ونظارتاه محطمتين
لكن عينيه كانتا تفوحان بياضاً
على الطاولة عدد من جريدة، وكتاب مفتوح
زجاجة وكأسان فارغان
قرصا منوم
رسوم صغيرة على ورقة، ومحاولة
                    لكتابة كلمة بالحرف الكبير
وكان على الطاولة أيضاً
مسدسه ملمعاً
كان حذاءاه مهيئين
وقميصه مطوياً
وساعته على كرسي

كان يرتدي ملابس للنوم والخروج
ومن الواضح أنه كان متردداً بين أكثر من أمر
حينما أطلق على نفسه
على صفحة عبارة ---- ربما ---- لينتشه
"الحياة ---- أننا ندعها لخدمنا
يعيشونها عنا"
كانت الغرفة إجمالاً مرتبة
وكان الزمن بطيئاً
كذبابة تتسلق الزجاج

على الطريق كانت موجة تتدحرج من الطبيب
                    والشرطة والرفاق
الشرطة كانوا جد متضايقين
لأنه لم يترك لهم شيئاً
الطبيب لم يجد دليلاً على مؤامرة
الرفاق بدأوا يحاكمونه
مع أن انتحاره وصل إلى أوسع الجماهير
كانوا يواصلون حديثهم على جثته
ويتلون - ربما - من شعره
قصيدة عن المستقبل

***

جناز لصافي شعيتاني

­ I ­

هل يحق لرجل مثلي
يتسخ صوته وترج عيناه
أن يدثرك بهذه العبارة
أن يسجيك
في جرن نظرته وفي قاعة الأسئلة.

هل يحق له ما دامت المرايا تبتسم
                    تحت التراب
والصواني الملمعة تسهو خلف الزجاج
والشمعة التي تحوك كمسلة من قصب
الغرفة المعلقة
تضيء طريق البزاق اللامع كدرب المجرة
هذه الإبرة التي ترعى في الحواشي
                    والشراشف
                    والأطراف
وتنفش الأحشاء المظلمة
لليل الممرات
والجزمات الطويلة
والقراني

حيث تسقط عيناي أحياناً
كقطعتي ماء طافيتين

هل يحق لرجل مثلي، لامرأة مثلي
أن تغطس على النجوم،
                    وحبال القنب
                    والأسماك
أن تجر الفتات والدموع كحبات قمح ناشفة
                    إلى المأوى
حيث أسعى كنملة تجوس كلمة، كلمةَ
                    مؤلفاً ضخماً
تحت الشمعدان الذي يهز العالم
               في أرجوحة الضلال المتقاربة

مسرعاً بألسنته العشرة كمسلات مسنونة
تخيط الأحاديث
     والكراسي
     وأعشاش الحشرات، والطيور
تعلق حرفاً بحرف.
ونقطة بنقطة
هذه العين التي تغزل
كلسان الشمعة
جملة طويلة كغطاء
على نقالة الموتى

هل يحق لرجل تعوّد من عامين
أن يقف في فك الرافعة
أن يرى الأبواب المسجاة
وأن ينام بين الأبواب المسجاة
أن يضع يده على الحلقة الباردة
وأن يسمع صوتاً يحبو على الحجر
وأن يخطو بدون خوف
على النَفَس التي يتلبث في الحفر
وأفواه الأنابيب

هل يحق لرجل عاش كحية المياه
                    في الأرض
وسقطت عليه القبعات والأعشاش الزرق
أن يخرج بكنوزه
طاسات وحلقات مفاتيح ونظاراتين شاغرتين
أن يترك عينيه تحترقان
                    كمسمارين محمرّين
أن يترك الفئران تقرض المرايا
والزهور تنزح على الزجاج

هل يحق لرجل مثلي، لامرأة مثلي
أن يلتف من جديد في عرق البارحة
حيث الندى والنقود والملح
تلمع في الشعر وعلى الوسادة

هل يمكن لرجل مثلي، لامرأة مثلي
أن يثير جوقة من المنتحرين
أن يشوش الكلمات
أن ينام بين الأبواب
                    وأن ينوم الأبواب
لكي لا نرى
صوتك يقع ويرن
كصرة من نحاس
والملاعق، والأبواق، والحراب
ترن وتغفو
وحتى الغبار والدموع
تتلألأ ككومة من السيوف والمعدن الأصم تحت الشاهدة

­ II ­

المرايا تبتسم تحت التراب
الصوت معلق في صنارة
سمكة نحاسية
الصوت مدفون في ريشه
عرق الذهب

المنابت البعيدة... البذور البعيدة
حيث صف الدمع
والسلام البعيد لمنكسي الرأس

المنابت البعيدة... البذور البعيدة
صف من الطاسات الساخنة
               والأزرار المنزوعة
حيث النساء تحت الأواني المعلقة
في حديقة الدمى
حيث المطبخ بيت الجسد
والأمهات يقعين كأقدام الدلب
مشققات بالدموع

حين ينزل الصوت عن السارية
الصوت المطروق، الصوت المنكّل بالفضة
المار حيث تنطفىء الحجرات
وتسحب الأبواب
حيث تنعقف الأيدي على هيئة الكلمات
ولا شيء سوى الماء الذي يجرف العرى والبذور
          والأعصاب والصنوج
والكلمات ليست سوى أزهار نعاس

هل يحق لرجل يتكلم بلسان شمعة
أن يتبع على طريق البزاق
وأقمار القنب
والعشب الجاف
طريق نوم الحشرات
والإيماءات التي تواعد حجراً بحجر
وتترك مفتاحاً قديماً
               مغروساً على مدخل الشاطىء
بينما أسمع في الحجرة الرطبة
في الحفرة الرطبة
احتراق المناشير والكتب والحبر
والأعشاب ذات الرائحة

هل يحق لرجل مثلي يتكلم بلسان شمعة
ويتنفس رائحة الشاي والنعناع
          تحت الإبطين الساخنين
أن يحرك قليلاً في مغلاق العام
أن يقترض أياماً أخرى
بتلك التي اقتتلت من قبل
حين سكتت الساعة على صدره
                    من عامين
هل يحق لتلك الإبرة المتعجلة
أن تنبش جلده غرزة غرزة
للصوت الذي يخاطبنا من أعلى
أن يعس في جرار الرماد
أن يتدفق مع العيون، والفك الأخضر
بينما يقف صوتك كشلال متجمد
- ونحن نتلمس كل لحظة كنارات حناجرنا -
يقف كنافورة محطمة

كلمة تفك وتغلق
سحاب العمود الفقري
ماسة تنطبق على الحنجرة
حجرة مفرغة
وأيضاً دخان، دخان أبيض،
               قفازات بيض،
               للصمت والذاكرة

­ III ­

هل كان ضرورياً أن ندقه في التراب
               كالبئر
أن نغمر الحجر بالمغارة
هل كان ضرورياً أن نصغي لخشة الوقت
والشرائح على الطاولة
بينما يسندونه من ركبتيه المكسورتين
إلى المائدة
بين شخوص أصحابه ورسومهم
وعقد الدمع في لحاهم المجعدة

هل كان ضرورياً أن نعود غباراً
لنؤنث الأزهار
ولنؤنث أيضاً الآنية
               وفناجين الشاي
               وطاسة الحساء
هل أجول في مرقعتي أقشش الكراسي
وأجمع الكسرات
أراقص عمود المكنسة والبرتقالة
- خداً بخد -
وأرطب هيكلي بالبخار الذي يلفني
وأنا على مقعدي آناء النوم

هوذا جدار ومدفأة وشراب
في المطبخ حيث سر الخبز
                    وبيت الجسد
هل كان ضرورياً أن نرضع ثانية،
من قمر حزيران
ونتبادل الكرات في الغابة
أن نمشي بيدين منكّلتين
وفقرات مطعمة
حاملين - حيث نحفى - صرة البذور
هل كان علينا أن ننقر على حناجرنا
لنجد الغرغرة إياها كل دقيقة
بينما نبتعد
ويطلع العشب على القضبان الحديدية

هل كان ضرورياً أن نراه وفي فمه وردة
كحصان مكسور من صدره
هل كان ضرورياً أن يهوي في الظلمة
حيث لا قرار للذاكرة
كقصر يهوي في بحيرة
هل نفرط الزهور على كأس الحليب
               أو المئذنة
بينما نكسر الدرع على صدره
الساعة على صدره
ونخيطه بالدموع
هل يحق لرجل مثلي، لامرأة مثلي
أن يرد كلماته إلى الخلف كما يرد شعره
أن يسرح الغيوم والهواء إلى الخلف
وينثني إلى الوراء كالشعلة
وأن يتفرق من منابت خصله كالدخان

هل يحق لرجل مثلي، لامرأة مثلي
أن أقف بينما يلقى الرجل ذو العين الذهبية
شيئاً من وراء كتفي ويمضي
هل كان ذلك رنين قطعة ذهبية
أم دعوة إلى جوقة للمنتحرين
دعوة مضى عليها التاريخ إلى مأدبة للحيتان
948... 1936... 1967... 1900
أدفع العام إلى الخلف
حيث أجد الزائر السري نفسه ذا القبعة
               الرمادية
وكأس الكونياك على طرف المطبعة
يتناقص مع الزمن

رجال بقبعات رمادية كانوا ينتظرونني كل يوم
قبل أن أفتح غرفتي
لم أكن أجدهم
ولكن الأشياء التي لا تزال غريبة من نظراتهم
والكأس الناقصة
كان عليّ أن أبحث عنهم وهم ينتقلون
بين آلاف الغرف
كما كان عليّ أن أعرف أين حل الكلام
والحمل بين آلاف الخوابي

لكن عودة إلى المساء
إلى الأمهات
إلى الدخان
إلى وصلة النسيان وتأتأة الذاكرة
حين نشغر تحت نظراتهم
وتنكمش الأشياء تحت عيوننا الغريبة

أين وصلت الدعوة؟
ومتى بكيت
ومتى خرجت الطرق التي كانت مغروسة كالسهام
في جسم الطريدة
أو كالدلاء في قرارة البئر
وها هي تلتف كالحبال على أعناق الخطى
إنهم يفخخون الجمل والأسنان تشتبك بالألفاظ
وها رأس عبارة يسقط من على الكتف
بينما يبقى جذعها معلقاً
عندما يصل الزائر السري، ويبدأ الألف الثانية

ادعوا الجوقة، والطرائد، والنائحات
ورتبوها على السلالم كالعثرات
فالساعة تصيح
وها هم ينيخون في الساحات أحمال الوقت
والريح تطري وجوهنا بذلك القش
الذي كان في أعشاشنا

ادعوا الجوقة
فالاستعارات تصلنا حزماً
والكلام الكبير يرحل كقبيلة مهاجرة
وسنرى كلمة تدور كمفتاح صدىء
في مغالق أخرى
وسنلتفت إلى الخلف لنرى أين حلت الروح
ما زال السبت يعيد الأحد
والرجل يعيد الرجل
والدخان يعيد العمر

ما زال الفضاء يأتي كخادم
وفي فوطته البيضاء
يوزع الربيع الساخن، والبذار

المفتاح يتجه إلى الشاطىء
وعما قليل يحفر في الرمل
بينما الأمواج تدفع الأبواب

.. يتبع