عرفت عباس بيضون بعد قراءتي لقصيدة "البحر" وبدافع من هذه القراءة.
كان ذلك قبل نشرها ضمن قصيدة "صور" بأكثر من عشر سنوات.
نشرت "صور" عام 1985. بينما سبقتها إلى النشر قصائد لاحقة، وبينها "مدافن زجاجية" التي نشرت في مجلة "مواقف" عام 1983، ثم صدرت في مجموعة "زوار الشتوة الأولى..." عام 1985.
قصيدة "البحر" كانت مفاجئة: نشيد يفتح المشهد واسعاً على الجموع والعناصر من خارج مألوف اللغة الشعرية وتاريخ الشعر، مقيماً التوتر بين تلك العناصر وبين إيقاعية نشيد التكوين ونفَس التدفق الملحمي والدهشة التي تتولد من ذلك اللقاء.
هي ولادة وعي للمدينة تنهض من البحر، ويخترقها البحر مثل إعصار أسطوري، دونما أسطورة تُستعار أو يُجَدَّدُ نبعُ معانيها. ولا أثر هنا للذهنيّ أو للتعليم الذي لم تنج منه مرحلة في تاريخ الشعر العربي كله. لا تعليم لأنه لا ذهنية ولا تقديم لمثال.
فتنة النشيد تتولد من الإيقاع المتدفق وموكب العناصر. يتقدم المنشدون وتتوالى مشاهد التكوين، بحشود وعناصر وعرة فجّة رثّة مشعّثة بدئية، لم تتألق من قبل في ذاكرة شعرية. تحضر حضورها الخام بكثافتها البصرية، بعينيّتها المتمردة على المجاز المنفلتة من التأويل والتصعيد. تتلاقى هذه الغربات المشعثة، تغتسل بضوء البدايات وعناق الأضداد وتكتسب حضوراً إنشادياً وقدرة على الإدهاش.
عالم يلتمع بجدة الخليقة. وفيما يبني ما يمكن أن يكون سياقاً زمنياً، لا يتوقف عن كسر الزمن كامتداد وتعاقب، حتى تتداخل اللحظة بالبدايات وتتمسرح "صور" أو المدينة - الجسد كفعل، كآن، كنشيد يكسر الزمن، يخرج من المعقول ومن المؤسطر. وإن كان البحر سيحضر ككائن غائل هائل يتغلغل في المدينة التي ولدت منه.
ومع أنّ الحركة تنطلق من غربة الأنا، "من أنا؟" فإنّ "الأنا" لا تلبث أن تقتحم الجوقة المنشدة مندغمة في الحدث تخترق الأزمنة وتخترق الحدود بين البحر - الرحم والمدينة، ويتقدّم منشدون لم يعرفهم أي نشيد:
"من أنا حتى أقف بين المنشدين، صانعي النعال الذين جاؤوا على خيول هزيلة من الوعر. الحطابين...صبيان الفرّانين الذين أشعلوا في الأحياء المستديرة أكياس القشّ والخيش وحشرات الجدران. الفلاحين الذين حملوا نساءهم وأطفالهم على أكتاف الحمير المسنّة..."
نصّ يتصاعد بلا توقف، بنشيد للمدينة في خروجها من الغمر الوحش في أطوار هياجه وارتداده واستنقاع مياهه، في أفعال تعجن البشر بالموج والصخر، بأزقّة المدينة أدراجِها والقناطر - التي، في عملية رفع للزمن التعاقبي، كأنها ولدت اليوم ومن بدء الخليقة؛ أفعال تعجن الليالي والأسمال ومياه البحر الذي استنقع وأسن تحت الأدراج وحبال الغسيل في جرفٍ متصاعد يدفع المدينة في متاه الاحتمال، في زمن يتداخل فيه حاضر وتواريخ: بل يتداخل ما قبل المدينة والتاريخ وما بعدهما، وما قبل الرؤية والتأويل. يرتسم ما قبل انفصال الإنسان عن مهده وقبل أن ترفع صور رأسها من البحر:
"من أنا لأدلّكم على الأحجار التي ولدنا عليها كالسحالي، حين كانت المدينة ترفع رأسها من البحر. تَغذّينا بالشمس والملح، وأكلنا على الراحات أسماكاً حية. وكانت المياه تتناولنا من على صخورنا ونحن نتعلّم الكلمات والأفكار كلّ يوم".
إنها عين الشعر تجمع الزمن الأول والأخير. ما دام ضمير الجموع المتكلّمة يروي في سياق حكائي - ليس حكائياً إلاّ في النسق والنغم - عن تداخل الأطوار والأزمنة والحالات في مغامرة مفتوحة مجهولة الختام:
"نحن" المولودون من رحم البحر والقادمون من الوعر والعائدون من القفر إلى البحر البارحة واليوم وغداً. "نحن"، شعوب الرحالة والصيادين والمدن الآبدة المرتمية في حضن البحر والشعوب التي توالت وإليه عادت ومنه ولدت من جديد. "نحن" الزمنُ الموجُ الرجراجُ العاصفُ في الاتجاهات كلّها:
...ثمّ شربنا من دم كبد الفجر، ودم قلب الليل، فاعتكرت أعيننا ونحن في نقيع الماء الأخضر، وخرجنا نلمع من بيضة فصح البحر وفضة الأسماك، ثمّ نجّم علينا الرمل، وترقرقت جلودنا كأوراق الذهب... وفاضت أوراقنا فاكتسينا حراشف وصدفاً.
هو "عنف" شعري، "تشعّث" شعري، يرجّ الصورة التي ألفناها ويخلع بديهياتها. عنف يذكّر باللوحة التي توالت عليها الحركات الفنية في اتجاه مزيد من تهشيم البلاغة وقتل التأويل وعلم جمال السحر والرمز والإشارة. أي في اتجاه اللوحة التي تقول ما بده وما خفي وتحيل إشاراتها اللونية الشكلية إلى ما قبلها وما وراءها. العنف هنا قائم في العري والصور المباغتة، في "جمالية" تخرج من مفهومات "الجميل" ويمكن وصفها بالبدائية، بالوحشية، بالمعنى الذي وُصفت به الحركات الفنية، أي بمعنى مناقضة المحاكاة والمثال الأكمل والترف والتصنّع والتزيين.
القصيدة تستحضر العنف في التصوير، ليس في التكعيبية لأنها وإن كانت تفكيكية فهي مؤسلبة وملتزمة بحضور ما للشكل مهما قوّضت مألوف الرؤية ومفهومات "الجميل". الأحرى أننا ينبغي أن نسائل الاتجاهات الوحشية التي منها "التعبيرية". ولا أعرف إن كان عباس بيضون في زمن قصيدة "البحر" قد تعرف إلى بيكون وتبناه إعجاباً. (قصيدة "بابا بيكون" مجموعة "الجسد بلا معلّم").
واعياً أو لاواعياً، يبني عباس بيضون القصيدة بروح اللوحة. حيث الفنية تولد من السياق المختَرَق وحتى من بدائية العناصر وخشونتها. كما تولد جمالية لوحة من ضربات خشنة لفرشاة عملاقة أو كتلة سديمية فظة فوق مساحة هائلة تتوالى عليها المؤثرات. إذ إننا لا نقدر ألاّ نرى بدهشة التراسل بين هذا الشعر وفنّ اللوحة "التعبيرية". نكتشف سرّ هذا الغياب لأي ترتيب زمني. لا شتاء في قصيدة البحر ولا علامات للشتاء، لا فصول، لا نهار ولا ليل، لا بداية ولا توالٍ، بل كما تقدر الأنا في اللوحة أن تعلو على زمان مصوَّر وكما تقدر الأزمنة أن تلتقي في اللوحة:
يرتفع البحر ويرفعنا على أطراف أصابعه إلى الصواري، يمتلىء البحر نسيماً وماء فينتفخ ويكبر صدر اليمّ. نقف تحت أنفسنا، تحت المحيط، وخشخشة الموج تنجرّ على عوارضنا وأرضنا الخشبية، ها نحن نتبدّد في الأمواج الشربينية التي تنهار من جذوعها كالأشجار، ونبقى على حلقات الزبد الطافية.
هنا ولدنا قبل أن نولد وبعد ولادتنا. هنا على صخرة في البحر، كما ولدت كائناته. "نحن" - أي كائنات البحر والموج، الملح والشمس. ليس الزمن هنا هو المتسلسل الذي يتعاقب يغيب بعضه ليظهر بعض بل هو أطوار البحر تلد المدينة المرة بعد المرة وترسم تحولاتها. و"نحن" لسنا هنا بداية تركض مع التقاويم، "نحن" البداية التي لا تتوقف عن البدء.
في قصيدة "البحر" تحضر حركة الفعل، عنف الفعل. حركة شاسعة، قرائن مفاجئة تتلاقى كما تقدر أن تتلاقى في اللوحة ولو فصلت بين عناصرها آلاف السنين. فاللوحة فضاء يطوّع الزمن، يخرقه أو ينقضه، يعلّقه أو يجسد حركته في المتحرك:
"إذ ذاك كنّا نقف والبحر يصخب فينا. نتأمله وهو يتسلّق كحصان، ويطير كجناحين مقبلين من غير ما طائر".
ولا نكتشف روح البحر أو بعده ككائن وكحياة هائلة، وحتى كمولّد للبعد الأسطوري والحسّ الأسطوري إلا في النهاية. وهو اكتشاف سيرتدّ على ما تقدم ويغمره بالمبهم السحري، لكن بعد أن صار ملكاً للذاكرة. وكل ما في الذاكرة قابل للأسطرة.
ابتعدنا وابتعد البحر، نزل عن أدراجنا وشرفاتنا، وعاد الماء إلى بيته تحت عنق موجته السوداء. يجمّ بفم بطيء صفحة الأرض ويجفف اليابسة.
وشيئاً فشيئاً ينمو البحر في اتجاه الألفة، وبعد توحّشه يلين، وكأنما يقترب السديم الأسطوري من شكل، لا ليشَبَّه البحر بغيره أو بالإنسان وإنما ليرتسم من السديم ككائن خرافيّ فرد يتخلل المدينة ويعايشها ويساكن الناس:
نفقأ الأمواج الكبيرة، فيتجمّع البحر في الأحياء، تحت ذباب البرك الواسعة، ينام تحت البيوت وفي الآبار، بلا حراك. يدخل إلى غرفنا فيتمدد بيننا، سجيناً تحت زرده وحراشفه.
وها هو عشيرنا الأبدي الغامض وبطانةُ أجسادنا:
يهمهم البحر حول بيوتنا، ويخرج من جيوبنا وقبعاتنا، ولا يبقى منه بعد أن يغطس، سوى صرير بحري يملأ الرحب. إذ ذاك تجفّ أسرّتنا وتجفّ نفوسنا كالسواحل، تبقى المدينة بلا أحضان...
لم يتوقف شعراء الحركة الحديثة عن استدراج الشعر إلى قارات جديدة. وهنا تريد اللوحة أن تمثُل بجسدها. أن تدخل مع القارىء في حركة صراع. يريد القارىء أن يقرأ (ويستقرىء) لأنه لا بدّ أن يقرأ بكل معاني القراءة. وتريد له القصيدة - اللوحة أن يعاين بأكثر من حاسة، أن يُسلم حواسه للمشهد، لهجوم العناصر وهي تزعزع المراجع. مع أنّ المرجع هنا وحيد واحد ولكنه ملتبس وقائم في البدء: "البحر كرحم لصور". صور لا كمكان جغرافي - سياسي، بل كلحظة أو حالة أو فعل ولادة. ولادة من البحر وسيمياء البحر.
القصيدة الثانية التي أدهشتني وتوقفت إزاءها مرات هي "مدافن زجاجية". وفي كل مرة لم أستطع الامتناع عن مقارنتها بقصيدتي "البحر" و"صور" (مواقف، العدد 52). وإذا كنت سابقاً قد توقفت إزاء ما بين القصيدتين من طباق، على مستوى موقع الأنا في كلّ من النصين، حيث الأنا - نحن فاعل ومنتم في قصيدتي" صور"، بينما هو محلّ للفعل، مُشيّأ ومغيّب في "مدافن زجاجية"، فلا بدّ من القول إنّ القصيدتين تلتقيان على مستوى العلاقة بالتصوير. لأنه إذا كان نشيد التكوين في "البحر" ينكسر في "مدافن زجاجية" حتى ليغدو المكان ضد تكوين أو ضدّ ولادة، وسلب حضور بل سلب ذات، كما يعلن العنوان، فإن الاتجاه نحو القصيدة - اللوحة يترسخ من قصيدة إلى قصيدة.
صحيح أنّ موجة الملحمية الطاغية في "البحر"، ونشيد الأصول في "صور" قد انكسرت في "مدافن زجاجية". أو لنقل إنّ قصيدة التكوين البدئي الهادر الفائر في "البحر" و"صور" قد صدّتها قصيدة الخراب المؤسلب. إيقاع الولادة الفوّار وسديم التلاحم والتداخل والتشكل والحركة في الأولى، تقابله على نحو صارخ حاسم "مدافن زجاجية" حيث النظام الشكلي خطوط ومساحات هندسية، والتوقيت حديدي والإضاءة معدنية باهرة لا تسمح بظلّ، والآلية هي سمة الحركة والإجراءات، في مقابل غياب كامل للذاتية وعلامات الحياة لدى السجناء والسجانين على السواء. كأنما القصيدتان لوحتان - عالمان يقف أحدهما في وجه الآخر.
إذا كانت قصيدة "صور" و"مدافن زجاجية" تقدمان الحضور الأعلى مشعّثاً وعراً عفوياً وثّاباً، أو تقدّمان الحضور الكلي في بعد بصري، من حيث كونه كلي الاندماج والتداخل (المتكلم، الجماعة والإنسان، البحر، المكان ومكوّناته، الأزمنة والتواريخ)، فإنّ قصيدة "مدافن زجاجية" وإن قدّمت عالمها في بعد بصري، فإنها تقوم على تشكيل علاقة نقيضة: هنا تطالعنا الأسلبة العليا للمكان مع السلب الأقصى والتقنين وذروة تحويل العالم إلى مساحات بلون واحد وخطوط مستقيمة وحدود وهياكل متحركة ذات أشكال هندسية أو ضوئية أو تصويرية. وحيث الإنسان في موقع الموضوع بل هو مشيّأ على مختلف المستويات: مشيّأ كموضوع رؤية ورقابة وتقنين، كموضوع تعقيم وإحصاء وحصار. رؤية تلغي الذاتية إلى درجة تغيّب أية مشاعر حتى مشاعر العداء أو الرفض. هناك تغييب لأي خلفية إيديولوجية. بل إنّ اللوحة صمّاء ولا تأخذ المشاعر بالاعتبار لأنّ الرائي لا يراها ولا يتعامل إلا مع مرئيات. وحتى المرئي بدوره لا يرى الذوات في الطرف الآخر. لايرى في حامل الكشّاف الضوئي إلا الكشّاف الضوئي،
كشّاف ضوئي يترجّل من البرج ككائن فضائي
(مدافن...ص 105)
ولا يرى في جنود الحوّامة إلاّ مقاعد طائرة.
أمّا الخفير على التلة فهو:
الهضبة التي تتطلّع برأس رجل
(ص 89)
وتتكرر الإشارة إل الجنود عبر تقديم الصورة:
"الملتحي الراكع"
"ملتحي البرج"
"ملتحي السرداب"
(الصفحتان 87 و89)
السّحَرة والمقنّعون
(ص 105)
الرجال والآلات متعانقين على الشبابيك
(ص 109)
وليس تشييء المساجين بأقلّ من ذلك بل هو أشدّ عنفاً كما سنرى. إننا هنا إزاء عالم من الأشياء والكتل المتحركة الملحقة بالأشياء.
هنا يتقدم الانشطار ممثَّلاً بغياب الإنسان أو تشييء الإنسان. هنا الفرصة أكبر لوضوح ملامح اللوحة التي يستدعيها شعر عباس بيضون أو الخصيصة البصرية في شعره. لقد خرج الشعر - اللوحة يتقصى سلب الحضور وسلب الكينونة، - لا بمعنى الغياب بعد الحضور، بل بمعنى نفي الحضور أساسياً - خرج من الرؤى إلى ثِقَل الحضور الشيئي وغياب الأنا والنحن، بل غياب أفعال الوعي والإرادة والحلم وحتى التمني.
هنا تهشّم المشروع الملحمي الذي أعلنت عنه قصيدتا "البحر" و"صور"، ورواية "التكوين" سرعان ما أجهضها تفكك الخراب. خرجت القصيدة من الأنا - نحن، وشُيِّئت الذات.
فمدافن زجاجية أكثر من اقتراب من الحضور البصري للأشياء. إنها سلب الذات وتحويل كل ذات إلى موضوع، حتى الذوات العدائية أو العدوة. حيث يَضمُر اللمح ويتّخذ الموقف الاستعاري أو التحليلي وجهة مختلفة نحو فجاجة البصري وغفل البصري وغياب الذوات. إنها محاولة لإسقاط المحمولات القيمية: المَشاهد بلا عمق. فقد ألغي المنظور ومعه العمق التاريخي. المكان بلا بعد رمزي أو ميثولوجي. هي محاولة لكتابة لوحة - نص زجاجي معدني؛ يلغى فيه كل بعد تأويلي وكل ولادة أو تفاعل أو حياة.
التكسرات قائمة في المشهد، في العلاقة، في الحركة، في الحضور. تكسّرات خفية تلغم المشهد، تدلّ على الأوصاف وتوالي الأصوات. في البدء لم يكن النشيد. هنا في البدء كان المرئي. فكأنّ اللوحة سابقة على الوجود. كأنّ اللوحة ليست كتابة بصرية لوجود سابق. اللوحة هي البدء وكل نصّ سيصدر عنها.
مع ذلك فإنّ "مدافن زجاجية" قصيدة رائية. هي بشكل ما صورتنا في العالم منظوراً إليها من الخارج أو من طرف العالم، أو على الأقلّ من طرف عالم ما. نحن هنا موضوع. الذات تتقدم كموضوع. ومع أنّ القصيدة غريبة عن التعليم والإيديولوجيا، فإننا في هذه البنية التي تتقدم كلوحة يمكن أن نرى خلاصة فلسفة الاستعمار والاستيطان. ليس عالمنا بكل ما فيه سوى موضوع: موضوع للرؤية، للدراسة، للإحصاء، للرقابة، للتأويل، للتحكّم، للاستثمار، للنهب ولإطلاق الأحكام. علاقة ووضعية أبعد من الصراع والسجن. كأنما ينظر إلى عالمنا من الفضاء. نحن كمرئيين، نحن منظوراً إلينا كأشياء كموصوع كمحلّ للأفعال: ذروة العدوان.
هذا ما صوّره الشاعر في لوحة يطغى فيها المرئي من حيث هو محلّ للأفعال من قبل فاعل لامرئي بدوره. المرئي هنا في ذروة شيئيته بل في حضيض شيئيته. القصيدة اللوحة تقول ذلك بلا أي تعليم سياسي ولا أدلجة. المرئي بدوره ينظر إلى الرائي كشيء، كمنظار، ككشاف ضوئي، كآلة، كغياب
ك-أعماق مؤثثة كالمكاتب.
هذه القصيدة - اللوحة نوع من تأثيث مقلوب العالم أو مقلوب الوجود. (والأصح، مقلوب الوعي السائد): تأثيث يترك للتداعيات وغرائب الصور أن تجرح الذاكرة، أن تهدم المقاييس أن تلغي ألفة المألوف، أن تستدعي من تاريخ آخر نظام الأشياء وفنّ النكوص. تستدعي الصور وقد عراها الإبدال، والقيم المتّفق عليها وقد دُكّت أسسها. هنا تصوير عالم بلا إنسان. لأن الإنسان فيه مجرد شيء، ركام أشياء. الإنسان غائب لا يُعلن عنه إلا فضلاته "سطل البراز" و"رائحة زيت الإنسان". في هذه القصيدة لا أثر لما نجده في سائر شعر عباس، من نشيد البدايات أو من فتنة الحضور في الغياب. هنا يقوم غياب الحضور تحت وطأة الجسدي المُشَيّأ. حيث كلّ شيء معلّب مؤسلب معقّم متساو في الشيئية.
في هذه القصيدة نشهد دمار المكان. المكان الذي يموت يصير بلقعاً إذ يُشَيّأ إنسانُه، يُختَصر إلى نجاسة تُرَشّ وتُستأصل كأنما يُرشّ تاريخُه بالمبيدات. المشاهد تمتدّ كمساحات بلا عمق، بلا منظور، مكان زجاجي؛ وعدوانية الآلة فيه حادة إذ لا يظهر محركها. الآلات تتحرك كأنما بالتسيير الذاتي. والصور تتوالى لتكشف التكسّرات في اللوحة:
"صفّان:
عراة على الجدار
الشرطة والأطباء يقفون بمرشّاتهم
يرشّون أيضاً في المراحيض والبواليع وعلب النفايات".
"أيضاً" هذه، تعطف وتضمّ الضمير المضمر في "(نحن) عراة على الجدار"
على "المراحيض والبواليع". إذ بعد أن رشّ الشرطة والأطباء "العراة على الجدار" يصلون ما سبق بالرش في المراحيض.. الشرطة أولاً ثم الأطباء. لا شيء هنا من حكمة "الحكيم" التي جعلت عندنا "للحكيم" منزلة غامضة شبه دينية أو سحرية. الطبيب هنا شرطي بتقنية مختلفة، لا أكثر.
لو ذكر شيئاً عن إحساس السجين بالبرد مثلاً، عن الذلّ، عن عدوانية التعرية واغتصاب الحميمية الجسدية، أو أي شعور آخر لتغيّر المشروع ولانت القسوة أو الحدة، وأيضاً لانتهت اللوحة بكل دلالاتها.
لكن مدافن زجاجية لوحة بصرية مشهدية قبل كلّ شيء، وإن كانت لوحة لغيابٍ ميت، لموت في الموت، لغياب أصمّ بلا قوة استدعاء ولا ذاكرة. لوحة تنتمي على مستوى ما إلى السريالية. فيها يُستحضَر الخواء والتشييء لا الغياب ولا السحر. ولا حتى الموت. هنا العالم مكسور. مكسور واللوحة بلا أي خلفية. والموسيقى الشعرية قائمة لا في الصوت، بل في إيقاع الصورة والعلاقة. في عنف غامض، في جموح موؤود لا يقال، حيث هندسة المكان تخنق براري الحدوس.
في هذه المرحلة الأولى التي يتواجه فيها منحيان سادت فنية اللوحة الوحشية بمعنى البدئي الخام والفج. وإن قدمت كل من المرحلتين (صور ومدافن..) عالماً ينقض الآخر.
أتوقف عند نصّ لا يتمثل فيه كل ذلك التعارض بين "صور" و "مدافن..."، نصّ يمكن وصفه بأنه نموذج لهذه الخصيصة التصويرية التي لا نملك حيالها إلا أن نقرأ القصيدة قراءتنا للوحة:
النص مأخوذ من قصيدة "لصوص الوقت يسلّطون سمعهم" (مهداة إلى عبد اللطيف سعد)، تقترب من فنية "مدافن زجاجية" على مستوى الحياد وغياب الذات، بل ترد ملحقة بها في المجموعة وإن كانت تحمل تاريخاً سابقاً لها، هو (1981):
"كلّ ما وجدناه
كان قبل خطّ الأفق
حيث بقي معطفه مكوّماً
لم يكن هناك أمارات على السماء
سوى أنّ أعلى الكراسي
ارتفع قليلاً
فوق حلقات الكراسي التابعة
(...)
كان السلّم مسنداً إلى حائط السماء
والمعطف يختلج على سور الأفق
الأرض بيضاء
والكومة مرفوعة على الجدار
متّجهة إلى القمة
حيث كان أعلى الرعاة ينصت
والبدو على أطراف العالم ينصتون
والمعاقون المعلَّقون كالقرود الحجرية
على البوابات
ينصتون
(...)
هذه اللوحة أو اللوحة المكتوبة تقدم مثالاً وإن كان استثنائيّ الحدّة، في شعر عباس نفسه، على السمة التصويرية التي حضرت في نتاج المرحلة الأولى من شعره:
المعطف الذي يتوسط اللوحة هو الحدث أو جسده أو بقاياه وعلاماته. يستند إلى الأفق كوعد بحياة أو كذكرى حياة، كمستقبل، كفضيحة، كصرخة من غائب، لأن ما يتكلم هو الغائب، لأنّ من كان حاضراً أُفقد القدرة على الكلام.
مركز اللوحة هو المعطف الخالي الذي بقي بعد القتيل. هو علامة حياة كانت وموت أغار. علامة الغياب الذي يحضر هنا كحدث. معطف مكوّم عند سور الأفق. الأفق الذي حضر طويلاً في اللوحات حاضر هنا. لكن الأفق هو عادة الانفتاح والوعد. وهو هنا في اللوحة "سور" وهذا ما يخرج اللوحة على الفور من الفنّ الذي ينقل الطبيعة. ليس الأفق هنا لنداء البعيد والإشارة إلى ما وراء. والسماء "جدار". وعلى حوافي السماء رعاة وقرود. لا شيء من الملائكة ولا الغيوم ولا من تاريخ السماء في اللوحات. أقصى الكتامة وصمت التآويل. رعاة لا يرعون شيئاً وقرود تفاجىء بحضورها في غير مكانها ومرشحة لكلّ التآويل.
مركز اللوحة هو المعطف المكوَّم. الكومة متجهة إلى القمة. الكومة تختلج، وهذا اختراق لحالة الموت وحالة المعطف الذي لم يعد معطفاً بل كومة، وكومة تختلج. والعالم ينصت.
لوحة بقدر ما هي بصرية تستدرج إلى الكلام والتحليل. لوحة لا تشبه "بيكون". الحركة هنا انكسار حركة. لاتشبه بيكون إلا في المعطف المكوّم، المعطف - الكومة الذي ينبض ويفور- رغم غياب الجسد القتيل. المعطف في الصورة أشدّ عنفاً من الجسد.
لوحة تقول الكثير لو تابعنا. على غرار لوحات ماغريت، طبعاً دون أي قرابة مع ماغريت. فقط لأن لوحات ماغريت تتكلم كثيراً. كما أنني أذكر بيكون وماغريت كسلالة خارجين لا كمعلّمين. إذ لا يشبه أحدهما الآخر ولا يشبههما عباس بيضون وإن استدعاهما. لكنه يكتب قصيدة بصرية أو تستحضر قصيدته اللوحة بقوة.
إذ إنّ هناك تراسلاً قائماً بين المستوى التصويري والمستوى الشعري. لا نقدر أن نقرأ اللوحة إلا عبر القصيدة ولا نقدر أن نخترق القصيدة إلا في ما بعد اللوحة أي مروراً بها. والبعد الشعري بدوره سيلقي ضوءه على اللوحة، وهي دأبها الاستدعاء. إنها حركية التراسل بين المستوى التصويري والمستوى الشعري. المعطف المسند إلى سور الأفق يختلج، يحتضن نبض الغائب، يبثه، يواصله فيما يكشف غيابه كشفاً فاجعاً حاداً يذكر باستحضار النائحات إذ يخاطبن الميت كأنه حي.
الكراسي فارغة وممتلئة؛ فارغة لأنه لا أحد هنا ليشهد، وممتلئة لأنها حيث حضرت ورُتّبت عُيّنت لجمهور حاضر ما دام منتَظَراً، وغائب لأنّ مكانه مشغول بالفراغ باللاحضور، بالانتظار. مشغول باللاقول وبصمت القصيدة عنه فهو حاضر كغيبة.
وما هو حاضر (الرعاة، مثلاً على أطراف السماء) يمثّل إشارة غياب.
الحاضر الفاعل المتجدد في مركز اللوحة هو "معطف" الغائب الحاضر. والمعطف يعلّق ولا يسند؛ لكنه هنا يُسنَد كأنه مكان إقامة. المعطف لا يحضر إلا بلابسه؛ لكنّ لابسه رحل تاركاً دمه الفوّار ليعطي المعطف قوة الاستحضار. المعطف شيء، غير أنه ليس مغلقاً على ذاته. لأنه ما من شيء له موقع في اللوحة إلا وله علاقة. لذلك لا تقع عليه العين ويبقى مغلقاً على ذاته. وأقول هي القصيدة اللوحة لأن العين لاتفارق عناصرها. لأنّ القصيدة ليست مبنية على التوالي بل على التزامن وشراكة الحضور. وإذن على الاستدعاء المتواصل أو التراسل.
ربما أمكن بمناسبة الكلام على هذه القصيدة الالتفات إلى مجموعة "لفظ في البرد" التي تبدو على شيء من المفارقة والغربة قياساً إلى مجموعات مثل "خلاء هذا القدح" أو "لمريض هو الأمل" وما جاء بعد ذلك.. فمع "لُفظ في البرد" (2000) يستأنف عباس بيضون مغامرته في "مدافن زجاجية" والقصيدة - اللوحة، في الاتجاه الوحشي الذي مثلته الحركات الفنية: "التعبيريون" ثم بيكاسو ولن أنسى "بابا بيكون". مغامرة الخروج من مفهومات "الجميل" الراسخة المتواصلة عبر تاريخ طويل.
جمالية الغياب والفقدان التي حضرت في مجموعات (خلاء هذا القدح، نقد الأمل، لمريض هو الأمل) استحالت هنا ندامة وخروجاً ونكراناً. حتى أننا لا نقدر أن نسميها "جمالية" الدمامة أو الوعورة؛ فهو هنا خارج مبدأ المعيارية أساساً. يخلع النظارة الثقافية. يخلع عادات الرؤية وثقافة التأويل. يلتقي "بابا" بيكون وسائر عباقرة النقض.
ولا شك أنه بهذا الإحساس اختار للغلاف مقطعاً من لوحة لأسادور الذي تتميز أعماله بعناصرها المتشظية..هنا في "لُفظ في البرد" يصبح النص مغامرة، خطراً، جرحاً. إنه البحث عن ظلال ورؤى لم تدخل ساحة الرؤية. حيث يتوجب لملء هذا العتم الغامر أن نستحضر ما نسينا وما جهلنا أو عرفنا.
النص هنا إثارة، تحدٍّ للنقيض، تمزيق لمفهومات مستقرة. لكن هل الكتابة الشعرية تفترض حقا ذلك الحلم الوثير؟
ولا يعني هذا أنّ لعباس بيضون دعوة أو منحى مستقرّاً أو نظرية. هي لحظة. إحساس بوجع متكبر وعالم مموّه. يريد أن يعلن: افتحوا الأبواب لا على الهذيان وحده، لا على الصدمة وحدها. افتحوها على كلّ مجهول وغير منتظَر.
لن أحاول عقلنة الانتقال من ملحمية "البحر" و "صور" وسريالية "مدافن زجاجية" إلى صيد الغياب في المجموعات التالية. لا أعرف جواباً. وليست كتابة الشعر خاضعة بالضرورة لمسار عقلاني أو سببي. لكنني أتأمل في ما أستطيع وصفه بانكسار الرؤية والأحرى انكسار "الرؤيا" الكلية واكتشاف العالم المبعثر وأرخبيل اللحظات. وهو اكتشاف وصل بعباس بيضون إلى الخروج، لا من "وحدة الموضوع" وحسب، بل من "الموضوع" أساساً. الخروج هنا من "وحدة الموضوع" وحتى قصيدة الموضوع هو أكثر من خروج من الإيديولوجيا مهما كانت شخصية رؤياوية. إنه خروج على ما اعتُبر، منذ البداية، ركيزة في الشعر الحديث. إنه دفع للقصيدة في أفق المغامرة، فتغدو شبكة لصيد الومضات، صيد المبعثر المشتت واقتناص الغياب كحقيقة باقية. فليس حضور الومضات هنا إلا فاصلة بين غيابين، لذا كان "المريض هو الأمل". هكذا فالشعر قائم في ذلك الحيّز حيث ما لم يكتمل حضوره بعد وما لم يعد كائناً. وحيث العالم يبتكر بدءاً من ذلك الغياب. حيث الغياب هو ما يتبقى. و" ما يتبقى يصنعه الشعراء" كما يقول هولدرلن. ويا لدهشتنا إذ نلتقي هنا بأصداء بعيدة من عبث الوقفة الطللية، التي هي أيضاً كانت صيداً للغياب وكان الشعر "حصاداً للأثر" وابتداعاً للعالم بدءاً من فقدانه.
كأنما بين الولادة "صور" وسلب الإنسان وتشييء المكان في "مدافن زجاجية" خرج الشعر يتقصى الكارثي، يحصد الأثر، يلملم شظايا الغربة، يقنص الهارب والمابعد والحلمي. إنه خروج من الرؤى والنظر الكلي لمعاينة الشتات: شتات الروابط والمنطق والحضور، فاكهة الغياب. فعباس بيضون يبقى بالنتيجة ابن البحر، حيث ما يظهر ينوب عمّا يخفى ليعلن العمق.
هكذا تنفرط رؤيا العالم إلى ومضات تفلت من نظام التأويل واللغة السافرة، ليلتقط الشعر وهجها ونثارها ويصطاد الاحتمالات. يصطاد ما قبل الفعل وما بعده. يصطاد الشوق وحسرة ما لم يكتمل، ما لم يتحقق ما لم يُقبض عليه وما لم يرتوِ. هنا نجد احتمال الفعل، ما قبله، ما بعده، ظلّه وظنَّه وذكراه:
"كان وجهكِ دانياً وبقيَ فيؤُه في يديّ"
(من "نقد الألم" قصيدة "الفجرُ يُراق في الانتظار")
الفعل مغيّب منفيّ بين ما "كان" وما "بقي". والانتقال مباشر بين ما كان وما بقي. إذ الحركة الشعرية هنا لا تقوم في استعارة الفيء للوجه، "بقي فيؤه في يدي" بل في الغياب بين ما كان وما بقي.
وفي السطر التالي الفعل مفترَض على وشم أو رسم مفترض:
"حيث لا نزال نياماً على وشم غابة"
(المصدر نفسه)
في هذه القصيدة كما في عديد غيرها يغدو الأثر والافتراض والمتخيَّل أشهى من الفعل وأبهى وأكثر حقيقية أو يغدو الكينونة ذاتها. بل يبدو الفعل كأنه يولد من الأثر ولا يولد الأثر منه
"لم يكن النبع ولكن ذكراه. الجسد خطوط بلا نهاية لفراشات وأحلام طيران".
("نقد الألم" ص 84)
"تثرثر الدرجات خطواتك كثيراً حين تغادرين، ولن نعرف بعد الأمسية في أي ريح ستنام. لا تغلقي. أغمض عيني قبل آخر الممشى لكي لا أسمع نهاية لوقع قدميك. الليلة تأتين بلا خطوات، لقد نقلتها الريح إلى أبعد".
(نقد الألم ص 89)
"لم نشعر حين صرنا أمساً للعصافير"
(نقد الألم ص 90)
"أيتها الحرية أنت أرملتنا"
(نقد الألم ص 22)
فليس الحضور إلا فاصلة بين غيابين، أو هو غياب على ضفتي حضور هارب.
وفي هذا التأرجح بين الحضور والغياب يولد مستوى آخر من العالم، تولد صور مفارقة للكيان والكائن مقيمة في الاحتمال، حيث الاحتمال نبع لعوالم بلا حدود.
فجأة يفتح الغياب متاهاته البليغة. ويغدو الحضور اللغز الأبدي، تغدو الحياة الغائبَ المطارَد، الوعدَ الدائم الذي به يتكاثر العالم ويتسع، ومنه تتوالد الصور. عباس بيضون هنا يطارد السرّ الذي يجعل الغيب ساحة الحضور الأعظم ومحجّة الخيال ومنبع الافتتان بل جوهر الأنسنة.
"لمريض هو الأمل" (1997) يشهد بدوره على فرار الأشياء من الغاية ومن أسر الحاجة وروابط المنطق. هنا تغدو عين الشاهد ملتحمةً بأشياء العالم، تستسلم العين للمرئيات وتستقيل من أبعاد الشرح والتأويل. يواصل الشاعر التحرر من الشعر العارف، الشعر المعلّم الذي ينقل معرفة مهما علت في الحدس. لا خلاصات ذهنية ولا حِكَم. أحاسيس بلا عبر؛ فالعبرة دواء، حُكْمٌ وقرار؛ بينما الأحاسيس تُسلَم للمتاه. الشعر هنا نزهة في الحلم لا جذر لها، لا ترتدّ إلى وقائع ولا تترجَم إلى معرفة، سوى معرفة أننا لم نخلق العالم ولا نرتبه أو نترجمه لحاجاتنا، لا ننظمه في خيط المنطق؛ وأنّ عين الشاهد شيء بين مرئيات العالم. وأن العنوان لا يقود إلى الحكمة ولا إلى العبرة، وأنّ القصيدة لا تُحفَظ غيباً ولا تُضاف إلى خزانة الحِكم ولا النوادر. القصيدة تبقى حيث هي خلف وعينا وعلينا في كل مرة أن نزورها ونجدد الدهشة. ونتعلم أنّ الحكاية - القصيدة نزهة القلب وأنها تحكي حالها كما تريد، وأننا نقرأ كما نشتهي حتى لكأنّ الشعر
"حياةٌ لم تعشها"
(لمريض هو الأمل)
أو أنّ
"الحياة جارتي"
أرقبها من ثقوب الكلام
(لمريض هو الأمل)
وقد
"أُسِلمُ للسَّحَرة حياةً لم أداوم على سكناها
(لمريض هو الأمل)
غير أنه
ثمّة ذكرى لا تزال تتعذّب هنا"
(لمريض هو الأمل)
بينما
"اسمي يُعدَم خلف الباب
نفسه، ص 26).
هكذا يتأرجح كل شيء بين الحضور والغياب، بين ما كان وفات ولكنه منتَظَر:
"العصافير عمياء في المنزل
إرفعي الغيمَ عن وجهك
(...)
"تهدي مدينة للماضي، وتموّته بذكريات لا شخصية، وحين يغدو العالم ماضيك، تجلس وتتذكر الحياة التي لم تعشها.
(لمريض هو الأمل، ص 74)
هل نجد أصداء غريقة لذلك الانتظار الميتافيزيقي للمعنى الراحل - العائد الذي قاد البشرية في تاريخ التطلع إلى الغيب؟ أهو ارتعاش لاوعي البشر واصطدامه بمعضلة الزمن والموت؟
تراودني هذه الأسئلة حين اقرأ:
"منذ اختفت حياتي في هذا المكان وأنا أتتبع علامات الصيادين"
)لمريض هو الأمل، ص 72).
كيف نقرأ هنا؟ هل نقرأ علامات الصيادين الذين ربما اصطادوا حياتي؟ هل أتتبع علاماتهم لأستعيد الطريدة ألبسها ثانية وأعيش، أنا الواقف هنا بانتظار حياته؟ هل هي حياتي التي وُجدت قبل القبل فلما جئت لم أجدها؟ أم أنني ما كدت أقبض عليها حتى اختفت، أو اصطادوها؟
اصطادوا حياتي لكنني خدعتهم واسترجعتها كسرّ؟ أم حياتي هي دائماً الطريدة المغرية للصيادين؟ أم أنّ حياتي ممزقة بيني وبين الصيادين؟ حياتي هل ألبسها وأنهض؟ هل أحملها على كتفي كما حمل أطلس الكرة الأرضية؟ هل أمتطيها كفرس الريح؟ هل أخذوا حياتي كما أخذوا حياة المسيح لكنه نهض من القبر دون أن يتتبع علامات الصيادين ولم يسترد حياته تلك لأنه لم يعد بحاجة إليها، تركها للناس وبدل أن يلبسها لبس الأمل والشعر؟ أم كلّ طريدة هي حياتي؟ أم الطريدة هي كل لحظة هاربة؟ أم لا علاقة فعلية بين "منذ اختفت" وبين "وأنا أتتبع"؟ ولا بالصيادين؟ أم يكفي أن نضمر أو نحذف المتعالقين؟
لكنّ الشعر سؤال للسفر لا للجواب.
هكذا تؤرجحنا العبارات والصور. نسائلها نطاردها كأحلام تهرب وتراوغ.
نخرج من قراءة المجموعة ونحن نسأل، كيف نقبض على ما انقضى مع أنه يقبض علينا في الغياب؟
هكذا لا يكتب الشاعر ليرسم عالماً بلا معنى. يكتب ليكشف اللامعنى في عالم مدجج بتعاليم تقبض على كل شيء. أو يكتب ليصطاد آثار المعنى الغائب:
"أجلس محاطاً
بكل هؤلاء
الذين جعلوني
وحيداً"
(لمريض هو الأمل، قصيدة "هؤلاء"، ص 93)
وتختتم المجموعة هذه القصيدة المكونة من سطر واحد:
"الختام، كرسيٌّ وحيد متروك لمريضٍ هو الأمل".
في "الجسد بلا معلّم" (2004) يعود مناخ "لمريض هو الأمل" وحتى "نقد الأمل" لكن على مسحة مأساوية. هنا يواجهنا التضاد بين وعي الديمومة وشرخ الجسد المعطوب والعمر المخطوف. ديمومة الاشتهاء وعطل المشتهى؛ زمن الحلم المديد وومضة الفرح العابر والملء الهارب.
تضادّ يواجهنا عبر استقصاء تقلبات الصور وأحوال الإنسان في تصدّعاته، في المزيج المأساوي من الرقة والعذوبة والعنف.
هنا الصورة تداخل بين الآسي والمشرق، الحنون والمدمّر. يحضر منطق الكتابة على الرمال. وعي الوجود العابر وحلم العزاء.
"حركات العاشق العسراء"
والرسالة التي لا تصل.
...من الهواء
صُنِعَت تلك الورود
ومن اللاشيء تلك الرقّة
الفانية
(قصيدة زيارة الموتى ص 49)
...
"الهباء الذي تصنعه الروح
قبل أن تغدو فراشة
(الجسد بلا معلّم، ص 50)
كأنّ الجسد حاضر ليختبر الغياب، ليذوق الكلام الذي يذهب هدراً.
تلمس القصيدة العالم بالإشارة بالروح. حيث كل شيء يرمم هويته بغيابه وهروبيته.
إذ النوم القرير قرب
فكرة عظيمة هو وحده تسلية الشتاء
(الجسد بلا معلّم، ص 61)
تدريجياً قوّض عباس بيضون نظام المرجعية وفجّر الموضوع. فارق الصورة الأليفة وبالتالي فارق بالضرورة إيقاع جمالياتها.
النظام الجمالي هو ترجمة للصورة الموروثة للعالم. وهي هنا صورة مطعونة ومهَتّكة. صورة مخلخَلة ومهزومة. وكلّ نظام "جمالي" يحيل إليها ميت وفائت وخاوي الرنين.
وهو فارق الرواسخ ودخل في المنتَهَك وفي الخطر. فقد مضى الوقت الذي كانت فيه الحقائق وراءنا، مقيمة في زمن ما قبل السقوط، في ما قبل ما، في مطلق ما. و"الجمال"، حتى قبل مفهوماته الحديثة، هو المغامرة والخطر وغير المؤكّد. هو المجازفة والتأرجح فوق الهوة. لأنه مثل روح اللعب وجماليات اللعب: التأرجح فوق الخطر. والكلمات أشياء ترتمي على مساحة اللوحة. النغم لا يُلتَمس في الصوت بل في نسق توضّع المسميات في المشهد. إذ الشعر علم المستحيل، علم المندرس الحي الباقي، هو ممكن اللاممكن واجتماع الزمن المتفرّق. لغة الأجسام الخرساء، قراءة الأشلاء وبلاغة الغياب.
وأنا طفت حول شعر عباس بيضون وما جرؤت أن أحلّله.
أردت فقط أن ألبي دعوة هذا الشعر للتغرّب والسفر، وأتأمل في قوله:
"حياة لم تعشها".
ظني أنّ الشعر هو الحياة التي لم تعشها.
*مقدمة الأعمال الشعرية الصادرة عن "المؤسسة العربية للدراسات والنشر" في مجلدين.