من مجموعة

توزيع "مؤسسة الأبحاث العربية" 1985

­ 1 ­

البحر

من أنا حتى أقف بين المنشدين، صانعي النعال الذين جاءوا على خيول هزيلة من الوعر. الحطابين الذين خنقوا بالكلس النيران الصغيرة. صبيان الفرانين الذين أشعلوا في الأحياء المستديرة أكياس القش والخيش وحشرات الجدران. الفلاحين الذين حملوا نساءهم وأطفالهم على أكتاف الحمير المسنة وعبروا بها تحت بدر الحقول ودياناً كالخدوش الجافة.

من أنا حتى أتقدم هؤلاء تحت القناطر التي تحني المنازل من خواصرها المعقودة بحبال الغسيل، لتبقى فوهة ما للفضاء والنجوم. هنا أكتاف المدينة وفقراتها، وعلى هذه الجسور تتجعد أوراقها السميكة، وتلتف على ضماداتها وعروقها المقطوعة، وأسمالها الحجرية الشهباء، فتبدو تحت قمر لا تراه وردة مداخن ومعدن. تلتم على الآبار والشقوق والأقواس. وتتحرك كعين ميتة وفوهة مروسة، إذ ذاك تهبط المدينة، فننتعل ظهرها الأحدب بأقدام خفيفة نحو ظهيرة ضيقة.

من أنا لأدلكم على الأحجار التي ولدنا عليها كالسحالي، حين كانت المدينة ترفع رأسها من البحر. تغذينا بالشمس والملح، وأكلنا على الراحات أسماكاً حية. وكانت المياه تتناولنا من على صخورنا ونحن نتعلم الكلمات والأفكار كل يوم. كنا رمليين حين أوينا إلى الشطوط وتركنا أنفسنا لغاسلي الرمل فحفّونا بالزبد الذي اختمر في نسيم الليل، وخرجنا من بيوضنا تحت موجة.

مرت علينا ليلة في مجرى العبير البحري، وليلة في ناحية السرو وأكواز الصنوبر تحت أوراق الزعفران حيث تمتد مراعي البحر، ثم شربنا من دم كبد الفجر، ودم قلب الليل، فاعتكرت أعيننا ونحن في نقيع الماء الأخضر، وخرجنا نلمع من بيضة فصح البحر وفضة الأسماك، ثم نجَّم علينا الرمل، وترقرقت جلودنا كأوراق الذهب، فبتنا تحت ماء أنفسنا كالرمل المقيد. وفاضت أوراقنا فاكتسينا حراشف وصدفاً. ودخلنا إلى حضن البحر بين أبنائه الكثيرين وبتنا يخفق تحت صرّة قلبنا، وعلى براري سهرنا، البحر.

يرتفع البحر، ويرفعنا على أطراف أصابعه إلى الصواري، يمتلىء البحر نسيماً وماء فينتفخ ويكبر صدر اليم. نقف تحت أنفسنا، تحت المحيط، وخشخشة الموج تنجرّ على عوارضنا وأرضنا الخشبية، ها نحن نتبدد في الأمواج الشربينية التي تنهار من جذوعها كالأشجار، ونبقى على حلقات الزبد الطافية.

ها نحن نضيع في أنفسنا، كلما علا البحر المسن على سلالمه البطيئة، تخضر العين، ويمتلىء البصر بالماء، كلما اتسعت حراشف البحر، ونجا الماء من دواماته المتربصة. فأبحر على دفة الهواء السكران إلى جهاته الأربع سابحاً على عرف زرقاته الماسية. إذ ذاك كنا نفق والبحر يصخب فينا. نتأمله وهو يتسلق كحصان، ويطير كجناحين مقبلين من غير ما طائر.

ابتعدنا وابتعد البحر، نزل عن أدراجنا وشرفاتنا، وعاد الماء إلى بيته تحت عنق موجته السوداء. يجُمُّ بفم بطيء صفحة الأرض ويجفف اليابسة. إذ ذاك يظهر البر بمسلاته الصخرية وروابيه المنحوتة، حيث تخرج كل لحظة مداخن وحجارة ملطخة وحيث يبقى البحر وراء الساحل حشرجة واسعة لغابات مطحونة.

ها هنا تربض مدن قاتمة كهياكل حيتان وزواحف بصقتها الضفاف، ترقد كالرتيلاء المتحجرة تحت عرش البحر. تنطبق عليها عقودها وقناطرها وجريد رخامها، وتغص بمائها السري، فتنقبض كثمرة جافة وقلب متغضن في الرماد.

حين ترتخي السواقي كالأفاعي الميتة، ويبقى البحر في الأسواق مبنّجاً راكداً، حين يرجع الماء عن وجوهنا نبقى كمغاسل الرمل وغرابيل الماء. نرفع ثقوبنا الكثيرة التي صبت البحر في كل النواحي، وحين يتركنا المد الأول كحلقات الموج وخواتم الزبد على الشط. نبقى بين الأشرعة والجيف حطاماً بحرياً، وبقية موجة سرقوا قلبها. ننقب عن البحر تحت الجلد، لكننا ننفض رملنا ونجومنا، وننطبق على نفوسنا كالصدفة الفارغة.

نشعل خواتمنا في الماء، ونحرق الماء حتى الضفاف، نفقأ الأمواج الكبيرة، فيتجمع البحر في الأحياء، تحت ذباب البرك الواسعة. ينام تحت البيوت وفي الآبار، بلا حراك. يدخل إلى غرفنا فيتمدد بيننا، سجيناً تحت زرده وحراشفه.
هذا الماء عليل ينزف في الساقية، وسينزل عن الرحى مجلوداً، اقتلعت قوته السنديانية، ليظهر بعد ذلك تحت أسرّتِنا كالسمكة الميتة.

تتمرمر مياهه في الليل، وتنخلع أخشابه فنجده كالحية الذكر تحت المواقد والأحجار، يهمهم البحر حول بيوتنا، ويخرج من جيوبنا وقبعاتنا، ولا يبقى منه بعد أن يغطس، سوى صرير بحري يملأ الرحب. إذ ذاك تجف أسرّتنا وتجف نفوسنا كالسواحل، تبقى المدينة بلا أحضان، وتتقوس عظامها المغبّرة، بينما تصطك مبانيها الداخلية كبيوت الخلد، ويرتفع الهواء عن الغرف.

تبقى الأواني على الرفوف، والساعات الكبيرة معلقة على الجدران. المطابخ على نيرانها، والأطفال حول البرك. تتحرك من الشمال والجنوب أشجار. لكننا بين قليلين، نعلم أن الأحذية ملطخة جنب الموقد والأواني مدبوغة. والذين عادوا تركوا الأنهار التي بصقتها الأرض مبقورة على الطريق. تركوا الرمم والسراطين الحية تحت المعاطف المبقّعة. فلا يحاول أحد أن يهزهم بعد أن طارت أصابعهم وأسنانهم وثقّبهم المطر.

نعرف بين قليلين أن الناس لم يتغيروا لكنهم يبدّلون دفة أحلامهم والليل ليس كافياً. أن هذا الصباح المرجوم كالوردة الناشفة ليس لنا، والهواء الفولاذي قاس على البصر والشعاع. أن الأفواه محطمة على الوسائد، والقبل مقصوصة من جذورها، والوجوه ملفوحة بالبرق، أن الأعمار تتجمد والناس يبيعون المستقبل بثمن الموت الهادىء على شرفة، وأن الكلام يحرك النسيم تحت المائدة كموت يستيقظ.

تمددنا على أحجار طويلة كالأخشاب ملفوفين بالأشرعة، في حجر حاضن نمنا متعانقين وتعلمنا الحب، وعلى طبق صواني جاءنا الحظ وتناولنا فاكهتنا القليلة، لكن يبقى للصوان ما على الصوان. تجلّلنا بالبرق الهابط على المراعي الصخرية وكبرنا تحت أمطار الليل. وكنا نعرف أن أحلام حجر الكلس وحدها لا تختبىء، وقلب الصوان وحده لا يخدع.

بين الحجر والماء ترقرقنا كفولاذ متبلور.. وكنا نرى دائماً أحلامنا التي لا ننكرها تقتل.
ونبكي على الضفاف
بقلب حجر حقيقي

***

­ 2 ­

صُوْر

يا صور.. حين نزلنا إليك انتزعت من حناجرنا الوتر الفلاحيّ، وها نحن بالكلمات التي تعلمناها منك لا نستطيع أن نصفك.

لا نصفك لأنك ما زلت تبحثين في جلدك
                    عن فمك المندمل
ولأنك تنطقين بزفير ساخن
على وجوه مخاطبيك القليلين
لأنك بلا صوت تحكّين يابستك ورملك
وتلقين بلا تحية يدك
                     على شمال البحر

هذا هو جسدك يضيع ولا مصباح على جلدك
                    يقرع فوق طرقك الهاربة
ستتآكلين وستتجمع حجارتك كل عام
بعد أن تهبط أوتادك ستصبح لك كل عام
                    جثة حجرية

ستقعين عند البحر
بينما تلمع مطابخك من بعيد

لقد قامت خصاص سريعة
                    تحت سقوفك الساقطة
لكن النوافذ التي تفتح في رمتك
لا تدعو المتنزهين ولا التلاميذ

رأسك بين كتيك وأكتافك تنحني
ولن تستطيع النسوة المنتظرات تحت الأدراج
                    وفي الغرف العالية
قدوم الأبناء والأزواج المتخلفين في الحانات
لن تستطيع الكلاب الجائعة
ولا أرضك التي تغلي بالفئران
أن تمنع طرقك من السقوط في الخنادق
                    ودورات المياه
والتجول في الأدغال الداخلية
أنفاقاً حرة
أن تنزع النجوم من عيون الثقوب
                    وعيون الحشرات

وتفك الشوارع
من عقدة إبهامك الضيقة

ستقعين أيتها الأم المسنة
ولن تقوم مدينة بعد الآن
ستزلين على أضلاعك كالمدخنة الهاوية
وترقدين على الشاطىء ورأسك في الرمال
                    ككلب البحر

لن يكلمك أحد فمن يحدس أنك تتكلمين
وسط نسمتك المتعثرة
ووسط مصابيح السيارات المسلطة على حدودك
من يحدس أن حرفاً أصغر من جناح ذبابة
ينزل مغبرّاً بالبارود
وسط الرصاص الذي بدرز نوافذك
ويصمت في الدم الذي يلطخ الأبواب
من يحدس أن فمك الذي ضاع في جوفك
كخاتم في بئر
ينطق في عاصفة رعديّة
وموجة ترفع السواحل

لن يكلمك أحد
ولن تتبدل مياهك بعد الآن
ستكونين في طرف العالم
وسيرجع الجميع قبلك
الحدائق التي ترافق البحر
لن تجرؤ على اقتحام أحجارك السود
والطيور المهاجرة تخشى أن تعتقل
                    في غيومك المدخنة
سحابة أزهار الليمون التي تصحب المسافرين
ستهبط على تخومك القريبة
ولن يصل المسافرون
ولن تتبدل سماؤك

سيبقى لك الهواء الذي يتلكأ
عند مداخل الأزقة
يفور دائماً بالملح والرمل والذباب
ينزف على الأواني والسواقي والأنقاض
ساقطاً هنا وهناك،
بطيئاً،
مذ دوخته ملوحة الضفاف
ويترك في عقود العرق النازفة
ثقل دموع البحر
......................
......................

كنت جزيرة وحصناً
وخاناً للمسافرين
لا يتسع نهارك للبناء
ولا يكفي ليلك للأحلام
لم تكن نجومك كبيرة
ولا قمرك لامعاً
لذا كان بحارتك يسقطون على السلالم
وجنودك يجفون في الأبراج

على القوارب المبتعدة
كنا نرى السماء الواسعة
ونغني ونتناسل
كحشرات الكروم
نرقص في النسيم الخفيف
ونرفع قصائد وحباً
للوات لا يصعدْنَ إلى الشرفات

تكفُّ الرطوبة رياحك
لذا لا تشتعل على سفوحك النيران الكبيرة
لك قلب سمكة وروح طير بحري
لذا تتركين موتاك على الصخور
وتسقطين من ضربة المجذاف

أنت حذاء البر المندسة بين شقوق الموج
تحمل طرق البر المزارعين إليك
وتحمل طرق البحر الغزاة
فتطفح السلال بعيون الفلاحين

يمر عليك الجنود الفارون
ومن نوافذك
يطلقون على الناس في الأسواق

هكذا مر علماؤك وقضاتك ورؤساؤك
تحت السلاح
بينما فقراؤك يثقبون الأسماك الميتة
بحثاً عن ملح المائدة

حين نزلنا من القرى
أفرغوا بنادقنا من كل حبة باقية
أوقفونا على موائد
وعرضونا على السكارى
قطعونا على صخرك
بعيداً عن نجوم الحقل
ربطونا إلى السفن
حمالين وعبيداً
على الحبال عصروا القلوب المدوَّرة
                    كتفاحات الجبل
وأطلقوا الأمواج الصغيرة على جثث الغواصين

هكذا كنا في أسواقك نرقص بين الطلقات
نمشي وعيوننا في الأرض
كأنها تبحث عن زر ضائع ورأس إبرة
هكذا بتنا بقلوب خصية
          ووجوه كالنعال
نخشى أن نبتعد فيك
إلى الحد الذي تصل إليه جرذان الليل
ننكر أصوات البرق والريح والمطر
لنتعلم كل يوم
لهجة سرطان البحر
المتعفن في المياه
..........................
..........................

هذه أحلامك تجمد
حالما تخرج من ثقوب رأسك المدببة
وها هي تتكاثر كحجارة رمادية
في حوضك الضيّق

تبتعدين عن يد البحر المعانقة
وتغتسلين من الزبد
لكن تبقى مشاعل بحارتك
تخطو على الأمواج

هل تهمسين بكلمة... حل تحطمت
على فمك صدفة؟ هل ارتعشت عظامك
لحظة، أم الدمعة الأخيرة تقرع في
حجر القلب

أنت صور التي سقطت
من جيب التاريخ
كيف تبقين على الرمال
كالعلبة الضائعة

من يدفعك ثانية إلى البحر
من يحمل شجرة إلى شوارعك المسقوفة

ما زال الصيد متصلاً على جبينك
وجبينك ينتن من رائحة الصيد
والدماء الباردة
ما زالوا يخوِّفون التلاميذ من البحر
والصيادين من الكتب

نحن الذين نتكلم من جثتك
نفتح نوافذنا في رمّتك المتصخرة
نرى الدماء تنزل من العصي
          والسكاكين
          وورق اللعب
لكن نبقى إلى أن يصل التيار
إلى أن يلامس قلبك

لا نفارقك كأمراء البحر
ولا طيور اليابسة
فنحن لسنا شيئاً سوى قناطرك
          وصخورك
          وأسماكك
وأنت مركبتنا ندفعك للجبل والبحر
لكن نسقط تحت عجلاتك
في نهاية اليوم
نغني حيث نعمل
لكن الوقت يمر علينا
ويغادرنا أعمدة ورخاماً
والوقت يتوجع وهو يكمل لمسته الحجرية

أمامك نحن نصطفّ جزراً متباعدة
وأنت تنقلين علينا قدمك إلى المياه
في الليالي تسرع القوارب والفصول
          ولن تموتي
ستحلقين أيتها الأم على جسورك
ستحلقين
بينما تهبط جسورك إلى الأودية

.. يتبع