من مجموعة

إلى بسام حجّار

"دار المطبوعات الشرقية" 1985

من جهتين في الظلام
ذكرى ع.س

حين قتلوا الصديق استردّوه. كذلك سيعيدونني إلى أهلي. الذكريات خالات ينشغلن بتطرية مراياهن ولا يشبهن سواها. كنت أنتظر زياراته. نوره أو صمته أو رائحته، كما كانت نظرته تصادف وجهي مراراً ونحن نحدِّق من جهتين في الظلام. حين نعود لا نخشى من اللاشكل. يمكن لكثيرين أن يقفزوا من محطة إلى غيرها. في الأرق الموصول لا ضرورة أو لا نهاية للمصابيح. فقط نور متساو واحد. أحياناً أفكر أن الفلاحين نفخوا الأرض من أمامنا.

الندم مهنة الآخرين
ذكرى ع.س

قتلوا أبناءهم بالغلظة ذاتها التي قاتلوا بها أعداءهم. مع ذلك، الأسرة بكاملها تتزين في الداخل. أحياناً لا أصدق أن القطعة الأكبر تثير صخباً. كل هذا لم يخلف شبحاً. الندم بالفعل مهنة الآخرين.

الأيدي

كنا ننظر إلى بضعة سجناء معصوبين، يتقدمون وهم يمدّون أيديهم في الفراغ. كانوا بالتأكيد يبحثون عن أيديهم.

المائدة

حين وصل البرابرة صادفوا عصفوراً واحداً، ومأدبةً باردة، قلبوا المائدة وساقوا العصفور. وضعوا الطاولة بينهم وبين الناس. صنعوا صمتاً يكفي لتربية الأعداء.

ارتفاع

إننا نشاهد قلاعهم ومراصدهم وانتصاراتهم. نعرف أن ذلك تماماً ارتفاع آلامنا.

ذكرى ز.د

ز.د كان طويلاً. لم يكن ممكناً بقامتي أن أوازيه. حين ذهب، أحسست بذلك أكثر. وحين أتذكّره الآن أعرف أننا لن نتساوى أبداً. لم يكن على أحد منا أن يعتذر.

مسافة

الدبَّابة تسير والسيارات في إثرها. مسافة مفرغة دائماً بيننا وبينهم لا نتزحزح عن طرفها. الذين يتقدمون أكثر، نراهم بوضوح، وهم يسلمون الرزم. مسافة فارغة دائماً تحت نظرنا.

الصمت في جانبنا

العسكري يطل من البرج ولا ينظر إلينا. لقد ركّز كل ما يعيقنا وصعد إلى مكانه. مصابيح الدبابات مسلّطة واللغط المعدني يتدفّق من الانتينات. إننا تحت أنوارهم. كل منا يحاول أن يجتذب الصمت إلى ناحيته. نتساءل هل هو كلمتنا أو فكرتهم. قلاعهم وأبراجهم لا تشبه الشهور. إنهم يتنفّسون تحت الأنتينات. الفضاء رطب بمغناطيسهم والقوة التي تتدفق من محطاتهم. إنهم يضاعفون الصمت وهؤلاء الممسوسين الذين يهربون أمام إشاراتهم.

ألم يفعلوا كذلك حين طوردوا على طول أحلامهم، قبل أن تُقَدم بلادهم كقمر خلوي.

الصمت يصبح أكثر في جانبنا. إنه الآن منجمنا.
العداوة الكاسرة تزوّج الوجوه وتفردها. إنها المغناطيس الذي في جهتنا. القوة التي تنتقل من أعدائنا.

أمام مقبرة جماعية

ذكرى المقبرة الجماعية في صيدا

رتّبوهم في حفرة وسوّوا الأرض. لم يتركوا جرحاً. فعلوا ذلك بمجرد أن قاموا وحدهم وغادروا دون أن يتميزوا الفحم الذي تخلّف على قمصانهم. كانوا مشغولين بنسيان مادتهم. الدم والحرارة لا يزالان حرّين هناك، حيث غدت الجدران خفيفة علينا. الأنتينات اللاغطة تصحِّح زفيرنا. لم ننتبه إلى أن القوة التي عبرت جوار راحتنا استمرت في مرورها تمدنا بالحركة والشكل. إننا نعطي جسداً لكراهية معذبينا. نقف حيث اخترقتنا الطاقة والجو الذي يتوجه بثقلها. نحن الحفارين أدرنا ذلك المساء وجوهاً مقلوبة. عدد واحد في قلوبنا وأفواهنا التي تَبْيَضّ بالسر والحاجة، بالعداوة نفسها.

الآن لا يتوقف أحد. فعبثاً يلتمس المرء شبحاً هنا.
والذين لا يحسنون سوى مخاطبة الحدائق لن يبالوا.

للذين لا أعرفهم أعطي وجه أبي. الصمت الموصول الذي يحلّق هنا ينهض بعبء نسيانهم وهو وحده يعطي للذين يرثهم، للذين تداعوا عنده، شخصاً.

النرد

القمم مملوكة يا سيدي. الحقول للأقزام. أشعر أنني أحتاج لعدد أكبر منها كي أرتب مكتبة أبي. أفرِّق أخطائي وحين أفرغ منها لا يعود سوى ذلك النرد وحده في قلبي. لقد صنعوا دون أن أدري الدقيقة الكاسرة.

رقصة لم يشعر بها أحد

المرأة تحمل الحسون. حين تمر قرب الجندي تغطّيه. الطفل يلعب بقطعة نقد. حين يمر قرب الجندي يرميها، والجندي لا ينتبه. حين يبتعدان، تنظر المرأة إلى الحسون، ويلتفت الطفل إلى القطعة التي خلّفها. شياطين كثيرة تحرّكت في الهاوية، لكن الرقصة لم يشعر بها أحد. مع ذلك بضع دقائق من التأخير عن الموعد الجهنمي.

نقد الألم

صنعوا درجاً في الضباب، أوقفوا عليه عشرات. فتحوا نوافذ في النسيان، أعدموا منها أشخاصاً. بنوا قلعة في الصمت ملأوها بالجنود والمساجين. رسموا بالأقذار كهولاً وبلهاء، وبالدخان نسوة، وبالبول نفسه مقبرة جماعية. هبطوا صعدوا، ساقوا مراهقين ورموهم على وجوههم. تمّ ذلك في حجرات من الحبر وحدائق تتبدّد ما أن يتخايل المشنوقون. تمّ ذلك بكلمةٍ، وبكلمة تدفقوا إلى الطرق، رفعوا أعلاماً وخرقاً واختفوا في الكرة البلورية. الذي رأى ذلك بعينين سقطتا كقطعتي ماء. تصحيح الأحلام ينقضي وبالسرعة ذاتها يجري ترتيب الحجرات ونقد الألم نفسه.

اثنان لهذه الخرافة

التمسنا الأهمّ: السمّ أو الشعلة. كنا نحفظ خطواتنا في الفساد. نشعل الرطوبة. نخفي شبحاً في الفجر، نودع فهارسنا في العزلة. كانت الشمس ماضينا. وكنا نسرع لنرى النار تنشقّ من اللسعة. الشرارة والدخان يفوحان من البذرة والجرح.

طلبنا الأهم: منجماً لراحتنا، قمة بلا نوافذ. اشتغلنا كل هذه الوحدة، حيث يبقى اثنان: الرجل وكسارته، يصنعان الأدوات المعبودة، ويتنازعان على السفح تاركين طقوساً بعدد خطواتهما. يبقى اثنان يشتغلان كلّ هذه الخرافة، حيث لا يزالون يتراسلون بالنار. الحجر الذي يصبح اثنين حينما تفلقه الشرارة. القمة التي تنشقّ عند الفجر.

طلبنا الأهم. تركنا الأهم. من النسيان لم نلتمس سوى أن تنشقّ أبوابه. لم نطلب شيئاً، كنا كلام القوة التي لم تصل.

لم نعط شيئاً. كنا خارجاً ألم الأشياء ونكهتها.
لم نسمع حساً للصوت الذي كوّر آذاننا. كنا حيلة هذا الصمت... أيتها الحرية أنت أرملتنا.

حقيقة العبور

عصا أبي تقودني إليه. نلتقي عند نظارتيه، ومنهما نعبر إلى السماء، يداً بيد. الأرض والكتب والأصدقاء دقائق ماضينا. دع حدوتك في قلبي يا سيدي، ساعدني على هذا الحقد.

كثيرون بعيون قليلة

كانوا كثيرين لكن بأسماء قليلة، وعيون أقل. توجهوا مع فائض الدخان وفائض الربيع والقليل الذي سرقوه من بذور العطلة، دخلوا بين طبول الليل وهو يبدّلها، وغدت الأرض بكتبهم وقياثرهم جرداء أكثر. لكن الريح ربحت درجاً.

سمّوا الشقيق والبلبل والعذراء ولم يعد لوسطائهم نهاية.
هكذا اندمج الناي بالصحراء، والعيد بالغابة. الذين اشتغلوا ذلك الحجر غدوا أرق منه، وصاروا عجلة للضباب والدوامات. لكنهم جميعاً وجدوا لطختهم الكبيرة هناك.

كانوا كثيرين لكن بشرارات نادرة، صنعوا الحجر الذي لم يعد لبّاً ولا لقيطاً للسماء، والذي بلا شكل نوم الحيوان، سيكون ذات الثمرة القاسية للشرف.

كان جدودهم مستيقظين، الأرق أقدمهم. النور الذي لن يعود لتعذيبهم، رفعهم قليلاً إلى لسان العاصفة التي لم تستطع تعليقهم والبرد الذي لم ينصّبهم.

دخلوا إلى الغابة وكانت الجذور برصاء، فأكلتها الخيول. العصفور الذي لم يصادفوه وسّع الغابة. الأشجار التي استقبلتهم كانت قد شفيت. لقد استعاروا روحاً من أدنى الجهات، وعيونهم بقيت بهذا اللون من تلك الساعة.

كان أسهل عليهم أن ينتسبوا لعدائي الجدران وأن يتسمّوا بأقرب سراج، بدل ذلك الطلاق الذي فرض عليهم شُهُوده.

بنوا طرقاً حسب الهواة والمتسلقين. مع ذلك لم ينجوا من يأس المارة. لم يعد هناك خطر أبيض، والذين خرجوا من الوعر لم يكونوا متشابهي الأقنعة. الحجارة لم تصنع لهم آباء. لكن نقاوم بدون أن نطالب بذلك الإرث. الإهانات التي تلحقنا تبتعد في الكثرة وتعود أكبر. أية شموع تجتهد لتشبهنا. نرد الشرف الذي لم ينكسر، القدم تغدو مقدسة حين تنزل على الوجه الإلهي.

فساد الخرائط

الغيمة والعصفور لا يحضران معاً. قولوا للبنان الذي ينتظر. الأرق وحده في الحديقة، الأصدقاء والكتب أنوار هناك. لم يَتَضح بعد جسد للدخنة أو الدم. زواركَ يسقطون من الخرافة لا الحريقة، مسلوبين بعيون استولت على غموضهم وتركتهم هكذا على طريق الأسرار، قريبين جدّاً في الخفاء. يفتضحون من نومهم. أنهم معذِّبونا بدون أن نسمع أصواتهم. خسوف وجوههم وحده على حدقاتنا. تقلّ رسائلهم، وحين لا نعود نتذكر، يرشقوننا ببوصلتهم. الشهور الجاهلة بهم واقفة دون أن تحمل خطواتنا، إنه فساد الخرائط. قولوا للبنان الذي يتألم من كل مزاياه. لا تخرج شرارة من الطاعون.

الوباء ينشر ذكوره. الأخطاء بلا إخوة، كذلك السعادة التي تحطّمت في نومها. كن نسياناً ليكون لك كوكب. إلهي لا تقل أين سترسل غيمتك.

لا لزوم لتقفيه الجدران. إنها الحرية التي تنغلق بضربة نرد. النواة فقط. الشرف الأصلب لخسائرنا.

النور يزورنا على الطاولة

نستحقّها مرة ونخسرها كل يوم. نضع أهدافاً أقصر، لكن الغيم يسبقنا إلى الخاتمة. وكل مرة نكتشف أننا خلّصنا بريئاً من الماضي. ندرك فجأة أن لا جبال في صدورنا. المحطات تغدو خفيفة أكثر لأننا نسينا في الازدحام أكثرنا سلوى. منذ تواروا مع حراسهم، سقطت أكبر القلاع سواداً في مخيلتنا، وها النور الأقل حبكة يزورنا على الطاولة، ويضع ترتيباً مختلفاً لجروحنا. الحريق لن يحصل. الشجعان يوجهون الصاعقة بحسب راحتهم. تحت ترتيب زهرات ثلاث: الندم يأتي أوّلاً. من أُرسلوا إلى حديقة المجانين حرّروا الأطراف ولم يعد من سبب لهذه القوة التي تتدفّق. رغم ذلك نستمر نلعب في ثياب أمهاتنا.

نحن أيضاً كانت لنا بلاد

ونحن أيضاً كانت لنا بلاد. تقلّ الأشجار أو تهرب الحيوانات، ولا يبقى جار لطفولتنا سوى الشمس. الشمعة المخبّأة يمكن أن تستدعي زواراً أكثر، لكننا أسرفنا في أسرارنا. ولقربنا من النور لم نخرج أكبر من المياه. لم نملك بوصلة الغابة ولم نتراسل بالدم، لذا ظهرت جلودهم وبلطاتهم على دفاترنا ولم نعرف كيف نخرج من تاريخهم. أشغال الدم وأشغال النور على التوالي. الصاعقة لا تذكر كيف عبرنا.

الجدار

أخرجوا 13 أسيراً ووضعوهم عند السور. بقوا بلون الشاي على الجدار والذين مرّوا كانوا يلحظون جدراناً كثيرة تقف مع أسرها. ربما بقي على جدار الملجأ ذلك الرجل الذي نزل قليلاً. بعد ذلك كنا نرى علو رجال على الجدران أو ربما زيتاً. اليوم لوحة عبرية. المعلمة تمسك الجرس على المدخل وتستقبل الصغار الواصلين في أوتوكارات. لم يخرج أحد من السور. لا شيء سوى أن الموتى ذهبوا إلى استراحتهم.

لعبة الأخطاء
إلى كاظم جهاد
شتاء 1984

­ I ­

ليست الحجارة وحدها تتكلّم عنا
ليس القمر وحده
يبكّر بنا للنسيان
حين عبرنا لم نكذّب القمة
لم نغيِّر
سؤال الريح
--------------- --------------- --------------- ---------------
--------------- --------------- --------------- ---------------

كان وداعاً كاذباً
لم نكن سوى أخطائهم
وابتعدنا في ندامتهم
التي لا حدود لسيطرتها
كنا أيضاً من السهو
الذي غلبهم إلى الأبد
--------------- --------------- --------------- ---------------
--------------- --------------- --------------- ---------------
ذلك الخيال الذي قادنا إلى الشرفة

­ II ­

كانت وساوسهم المدرّبة
المكيدة التي تفرّغت من طاقتها
ننزل من أعمار ضيقة علينا
إلى حيث الجريمة نفسها
بلا حَيْل
ننزل في جوار القوة الناصتة
مبعوثين من جهلنا
التيار الذي يخرج منا
والأسرار التي تتحلّل
إلى سموم
--------------- --------------- --------------- ---------------
--------------- --------------- --------------- ---------------
كانوا هناك أقزاماً
الهواء والقصر والدوامات
ونقلونا أسرع من الطّيف
إلى حيث العقاقير الفتية

­ III ­

إنه قنص الآلهة
والأحفاد المتأخرين
إنها المطاردة داخل الأبدية

كانوا يخزنون الحرارة
وينقلون معهم أكبر الأطياف
كانوا الغرباء
مع ذلك تركوا للجبل توأماً
ألقوا روحاً في الموقد
النار كانت تتخفّى معهم
--------------- --------------- --------------- ---------------
--------------- --------------- --------------- ---------------
هم الغرباء
مع ذلك تركوا رجالاً
في الكتب
وتفاحات جوفيّة
تركوا محطة للساعات
وفجراً دون حربة
--------------- --------------- --------------- ---------------
--------------- --------------- --------------- ---------------
يدخلون بشراع أكبر
يلمحون بسمة
حيث لا يسمعون صوتاً
ومن حكمتهم
يصنعون دسيسة في الصمت
وبرحيقهم الخاص
قبل أن تتم الخرافة
ونعود إلى كتبنا
يعطونه عيونهم
وسخونة دمهم
ليحلل قوتهم وينشرها
--------------- --------------- --------------- ---------------
--------------- --------------- --------------- ---------------
الخواص الخفيَّة
توجّهنا الآن

­ IV ­

تلك كانت أطياف حيواناتهم
الهندسة الدارسة لولائمهم
تلك كانت أيقونات أرقهم
اللسعة التي ننزل في خبرها الأبيض
إلى حيث يفصدون الصباح
--------------- --------------- --------------- ---------------
--------------- --------------- --------------- ---------------
--------------- --------------- --------------- ---------------
الطرق تدخن خلفنا
تلك دسائسهم
وعليها نعود
إلى حاضناتنا
سجناء الورد والكوكايين
النسيان شراع الحبيس
وربما يده
التي لا يراها
حين كان الفجر أول من سقط منا
كانت الظلمة باتت أرملتنا
ولم نكن كذلك
حين تقدمنا بعيون الغياب
والسراب
يفكّر في أعيننا

وداع صور

إلى "أبو حسن" فرَّان
شتاء 1985

وهكذا مشينا من شوارع لا أسماء لها، إلى شوارع لا أسماء لها قطعناها بالذاكرة، وحين نخرج لن يدري أحد أن الحاضر بقي هناك

الحجارة التي تكوَّنت منها طفولتنا لم تعد ضخمة منذ دخلت القلاع إلى مخيلتنا. كنّا نقفز على الصخور، انقضى وقت ونحن نقفز على الصخور، وحين توقفا لم تعد هناك حجارة لقصصنا

لعبنا بعد ذلك بأعمدة لا وجود لها، وبفؤوس قدّمها أقارب مزعومون، كنا دائماً جاهزين لعودتهم، وحين نسيناهم أخيراً سقطنا في غيابهم. مع ذلك بقي من الخرافة التي لم تصل بعد، نور يكفي

عشنا قريبين من الشمس، هناك بددنا على مهل تاريخنا ولم يعد لنا ماضٍ أبعد منها

أقمنا فوق الجرار المطمورة والنواويس، ومن سبعة شعوب توالت فوق بعضها لم نجد تاجاً

لم نرض الأرواح التي تقطن في طبقات الذهب والنحاس لكننا وقفنا درجاً للريح، وبمسالمتنا باتت قزماً. خدعنا الصاعقة بسعادتنا. ولأن البحر لا يخبر بوضوح، لم نجد ما نؤرخه سوى أن الجرذان التي تسرح في المجد المخزون في سبع طبقات كانت دائماً حولنا

غادرنا من ضاحية إلى ضاحية، شيّدنا منازل جوالة. لكن كنيستنا بقيت هناك

تركنا الغبار يروي وأعطينا للصُّدفة موعداً آخر

لم يعهد كهول المراكب يرفون ما تمزق من ركبهم. هل فعلت ذلك غزّولات الماء؟ هل أخذوا الجزيرة بعيداً؟ حلمنا بذلك على لوح الصف أو رصيف المقهى، حين ظهرت على مريول الساقي نقود أثرية وتطايرت قلاع في هباء الشمس، أو انتقلت على وجوهنا بقع من هجرات وصلت أخيراً إلى النور.

ظهر أجداد مرحون حيث كانت الأعمدة. جاء رجال وبشَّروا الأسماك. كانوا دركاً مضحكين قبل أن يتساقطوا من علبة البريد، قبل ذلك كله دخلت إلى المخيلة فراشات كبيرة.

أقمنا في منازل جوالة. وحين خلت أرواحنا من الأحجار كنا لا نزال هناك، تحت إبطها، حيث كانت الأسرار تصنع بأول نار، وحيث لا نزال نلاحق السخونة تحت الحصطى. كنا هناك نصطاد البحر بالفوانيس ونخفي في جلده أعشاشنا.

ما زال الأنباشي يصعد إلى علية الست المبودرة التي يسكت عصفورها حالما يراه. لا يزال السائق يحيّي بزموره المرأة وبنتها. لا يزالون على التلّة يعدّون الغرف التي تصبح جمرة ما أن تنطبق شبابيكها.

لا يزالون بخشب وجوههم، يتناولون الكأس والمرأة وورق اللعب. يمرون مسرعين حيث أتلفوا صباهم، وحيث التجربة التي لم يكبروا لها، تركتهم هناك إلى الأبد، مراهقي جريمتهم الأولى، ألا يروي* الدم الذي أصبح زَهْريّاً بعد أن برد الانتقام، ولمعة النصل نفسها هل اختفت من الفضاء؟ هل برد اللغز أخيراً؟ هل نفونس الأشباح هذه الليلة، أو نلامس جرحاً في السماء له سخونة أعشاشنا الأولى.

* من الرواية.

متى أصبحوا هكذا غفلاً. أية صاعقة لمستهم. من لبس وجوههم وترك عليها لغز حماقته؟ أين أمضوا تلك الليلة التي خرجوا منها ذكريات للفؤوس؟ إنها الحجارة تتحرك بقلق قلعة مطمورة، النهار مرفوع كالدلو إلى الأفق والناس يقفلون فارغين من البهاء والحرارة

الآن نتأمل أقزام الظهيرة، العابرين وهم يوشكون أن يغيبوا، الجلود النافقة لكائنات ساكنت الذهب والإسفنج، العمى الكامل للتراب وحتى للمسامير والخيطان. حين يخلط النوم الكتل والأنواع وهي تسودّ من بُصيلاتها

الآن تلقي عليهم الريح ركام أسلافهم. يعرف الحجر ما أودع فيه ويظهر بعمر اليابسة، الحشرات بعمر القمر، والناس بعمر المدن

سحبوا الزوارق إلى البرّ وعبدوها في الزقاق

أخلوا البحر للآلهة

أداروا وجوههم التي لبستها الأبدية، وعيونهم ترتجل من الذاكرة

نزلت شعوب بفخارها، حيث خذلتها الأمواج لم تهاجر إلى الحرارة

إنها هنا حيث المسامير خالدة والجرذان تسرح في الأبدية

البحر خلاء، لكن الزيارة الفظيعة لم تطل، والحياة التي انحبست بأنواعها عادت متحجرات وبذوراً.

لقد بَشروا الجزيرة وأخفوها، ونحن الذين لم ننم، كنا نحزر حميراً تَعْتِلُ صناديق الويسكي وتدخل بها إلى المعابد، وتخزنها هناك

إنها المسالك الدقيقة التي لم يطرقها إنسان، وها الجرذان التي عاشرت الذهب تقود الربابنة من مناماتهم إليها

إنهم يقيلون في ظل العناكب والشيخوخة تنوِّر من حولهم.

ابتعدت السماء، ابتعدت الشمس، أطفالاً كنا نرحل إليها كل صباح، كنا على الصخور نطارد الحرارة في عشوش الشوك، ننتظر فَقْع الأقحوان عند الضحى وشموع الماء والغبار الذي ربما جئنا منه يتحلّق هالات هالات
إنه النزف الزهري في الضوء الذي يرفّ بدوارات النسيم، يتورّد كلما ابتعد.
إنه أيضاً ضوء الشقوق العميقة التي لا يزال الجليد عالقاً فيها. ضوء الأودية والينابيع الرطب الذي يتم مصله بجوار القمة

كنا نحزر طرق الطيور ونترك ألعابنا الكبيرة تمحي هناك

نرفع الصور التي صنعناها بلعابنا ونتركها فخوخاً

كانت الريح تأتي أخيراً ويسقط منها معلمو الرسم والمظلات والنساء
ذوات التفاحة

لقد أعادت الشمس سهامنا

كانت المئذنة دليلنا الأول وطريق البزاقة سبيلنا إلى نَمَش الشمس

لم نُخدع برفيف العصفور، كان هناك النور الذي يسخن على البحر ويحيطه كالزجاجة

كنا نقيم هناك نحيلين كنبتات فضائية

كنا نثير الضوء في المرج ونرحل في ذَنَب الغبار

نجنّن الفراشات ونطلقها في النسيم

نطيِّر الصور التي صنعناها بلعابنا

نرفع الضوء عن المدينة، كما نرفع الجلاتين. ونختبىء تحته حتى ينتبهوا لنا في أعلى عصفور

كانوا يعيدون الفراشات والجرس الأول يرن هناك

وفي سهونا كانت تودع شيئاً على قرص وجهنا (ربما نفضت ذيلها) ويبقى وجهنا منوراً بذلك طيلة النوم

هل كان النوم مضاء. كيف سرقت الحكاية نور المدفأة. هل كانت المدخنة تروي ذلك أم البزاقة، الأشباح يأتون من نور آخر، والمصباح يروي ذلك في أخريات الليل

كنا ننام أحياناً في شمس ثانية. بين الكائنات التي لا تنكسف: الذئب الذي لم يصل من الغابة وعصافير الجيلاتين، قرص الشعر والجميلة الميتة من ابتسامتها. الجلد الذي يعود نسمة كلما لمسناه ورائحة الوردة تسيح في كل مكان.

كنا ندخل تحت مصابيحنا نتكلم في ضوئها. عالمين أننا نبدو من النوافذ الأخرى أحلاماً على وشك الأياب

هل انتبهنا إلى أننا لم نحمل كثيراً من الزاد. شمعة فقط لشجاعتنا. شمعة السرير الذي غادرناه. لم نتوقف. كنا كالسنبلة التي تصون علوها، كالجسد الذي يصون رقة نصله. في الفضاء الذي نقطنه برقتنا، نمونا تحت الشجرة. كنّا تحت نار الموقد، عفاريت الغرفة التي بعدئذ أغلقناها.

ننام بقلب شمعة، ونترك هباءنا على الصخور، الغلالة تحترق حولنا مئة مرة قبل الصباح. ألم نحكّ الفجر في مواضع منا. ألم تسلك أيدينا، وهي تلامس، الطريق نفسها التي درجت فيها الشمس.
هي المسالك الدقيقة حين يضيق النور أو نحذف شموعنا أمامه

يقودنا الهباء إلى نور الشعرة والنمش الشمسي على الجسد النحيل، ضوء الزاوية، وضوء المخدع والعانة.

إننا نبني عشوشنا من لعاب الشمس الذي نجمعه ونحن ننتقل خلفها. نبني من هشيمها.

لا يزال الأفندية يقعدون في الخان، ورائحة اللحم نصف المحترق في شواربهم، والنسوة يهدلن أكوازهن المثقلة بالليرات والمصاغ. الجد يصيح بإلهه لماذا يتأخر. لا أزال أسمع أبي ينادي باسمي على حصانه وأنا أسأل الموجة أن تطلقني

قطعنا تحت سماوات كالغيبوبة، من مترو إلى مترو، لم تعد أفعالنا ترتفع خفيفة إلى النور، أو تتبدّد ثانية في الشمس. إنها تغدو طعاماً للمقدس مع المدن التي تتكون ثانية في المستقبل. يخرج منها غفل، ولا نعود نعرفها بين الجزر. إنه النهار يضيق ونحن نسلك بالكاد خيط السراج، مع ذلك نخرج حاملين نوافذها. هل نُعْرف من طريق السهم، هل نُسمع ثانية في أعلى عصفور.

.. يتبع