من مجموعة
"دار المطبوعات الشرقية" 1985
مدافن زجاجية
I
الضوء الكاربونيّ يتسرّب من مطبعة
العتمة طيفية، ولا يمكن الرجوع إلى أبعد
لأننا نستنفد الزيت المعطى لنسخة واحدة.
ربّما الهواء يتسرّب أيضاً
ربما لن يكون ملتحى البرج، ولا ملتحى السّرداب.
ما الذي يجفل أرواح مركبات وحصون
أرواح من فئات أخرى
ربما لقطعة الخبز والتفاحة والطلقة،
ربّما لرجال ليسوا سوى منازل
لصحفٍ ليست سوى أرواح أيام
لعلب تنقل الجبال
ومدن من ذاكرة الجوارير
ربما لعنكبوت هي أم الكون
ربّما لجدار
ربّما للسّلاحف التي تسوق السِيَر
ربما للخدم واللصوص والوشاة
أرواح الرواية.
II
كان الظلّ يسقط على الكتاب من بئر مجهولة،
الظل نفسه يسقط على المساجين من مرحاض خفيّ
لم نكن وجدنا تلك البلاطة
حين لاحظنا الشمعة التي تطل من الإفريز على الملتحي الراكع
لاحظنا أن الضوء الغازيّ الذي يرشح من المصابيح القوية كان أيضاً ضوء غرف داخلية
وحجرات ودهاليز في عمق الأرض
ألم يكن كذلك ذلك الظل المتمادي للعجلة الحديدية
وذلك الصليب المحروق على الأرض
ألم تكن كذلك تلك الأكواخ والملازم المعدنية، والمغاسل الجافة
ألم تكن كذلك تلك الهضبة التي تتطلع برأس رجل ---- نسر مكسور إلى الفناء بنقالاته وكشّافاته الضوئية وملثميه الصغار الذين يدخنون في الأبراج.
ألم تكن كذلك تلك التكوينات الخيطيّة كالسعال لأقفاص معدنية حيث لا تزال الحلقة والمكبس والرّوافع نفسها في الواجهة.
III
كلاب غير منظورة تنبح من السراديب والزنزانات من الخنادق والأبهاء والأقاصي
تنبح من المخيّلة كلها
وفي الليل تعزق السّياج وتمرق بصمتٍ في الأحلام
نباح تلو نباح كبروق جافة
نباح خلف الأبواب السّفلية الضّخمة
فخاخ عند البوّابة
الرعد الأجوف على الأرض المعظِّمة
نباح
وحيث لا نعود نرى
فهود ما تسير على الأسلاك.
IV
عراة على الجدار
الشرطة والأطباء يقفون بمرشّاتهم
يرشون أيضاً في المراحيض والبواليع وعلب النفايات
عانات العالم
حليبُه الجوفي.
الكهوف التي يتسرب منها ذلك الضوء القرميدي
ذلك الظل المحروق
حيث القمر أيضاً موبوء بالنور ذاته.
العفونة التي هي ملح الأشياء
الضوء والهواء رطبان عند الصباح
متخثِّران بعد هنيهة
حتى أن مادة النهار تنفصل عن مَصْله.
العفونة التي هي نهار الأحد (دودة الأسبوع)
الحيض الوردي للفجر
تفّاحات العطلة
النسيج الخفيف للمرض وقاعات التدخين
الورود والملفات المبرّدة في مكاتب الأطراف
المدافع والنقود المسيّخة
وحديد المنشآت الذي يغور في الأرض
المصاعد التي تنقل بريد الهوّة
والمجلدات الزجاجية لأجهزة التبريد
الأغلفة الكبيرة التي تقدم لليرابيع واليرقات
المراتب العديدة التي نقف في أسفلها
على البلاطة السّاخنة
مجفّلين بالشخير العالي للمنسيّين
V
عفونة مساء السبت
الحليب الذي يتخلّف عن النوم الفاسد
حيث الأحلام هي أيضاً ملأى بالشخير
السبخات التي تعوم عليها الأقفاص الكبيرة
المهربة مع ملابس لاتَنِي تتبوَّل
والمكتبات العظيمة مع الصكوك والمعاهدات
تمضي فوق المستنقعات.
الذين يتمتمون على الماء دون أن نراهم
ليسوا آلهة لليل
نصادف لعابهم ---- وربما نجاستهم ----
في الممرات
والماء نفسه يرتجف بِخَرفهم
هذه الأعماق المؤثَّثة كالمكاتب
السراديب المتنهدة
ما من غضب كافٍ ليشقّق هذه الأفواه المتضخمة
بحليب الطفولة وخداع العمر
هذه الأكفان غير المنظورة
التي تتجول في نهايات التاريخ
أعماق مفتوحة كبراميل الخمر
حيث تتشرّب الصهاريج من البالوعات
في نظام سرّي
من يخلي الآن المقدمة
للتفاحة العظيمة المحنطة
من يفسح الآن لصواري دول مجانين السلطة
التي يسنّونها، وهم يسوطون كلابهم.
هذا القطار العظيم المندفع كالدودة الوحيدة
يفرّ بجنرالاته الموتى، وجثثه التي تحدِّق في المباول
ومدافنه الزجاجية
حيث نجلس نحن
وفي النعاس الجميل على الشرفة
نرى قبوراً بيضاء لا تحدّ
جوارير بيضاء مفتوحة
البطاقات والرسائل تنشرُّ منها إلى آخر الممر
يا للعفونة تجد أيضاً من الذكريات
يا للرائحة الخالقة.
VI
العفونة
حيث وجه السجين يلمع فوق سطل البراز
وحيث الشعاع ذاته
يتوسّط بين كعك البراز وأهلّة الجِلد
والتفجّرات الكوكبية للجراثيم
حيث الألم والرائحة كيس الجسد
الذي يوسع أرضيته
حافراً الحدود الأولى للإسطبل
الجسد الذي يعاود حرفته
يدفن الفضلات وكأنها جريمته
ينبش الفضلات وكأنّها حقيقته.
VII
ما من قطرة لعاب على المشرط
طريق الحمامات نظيفة
المعدات تتلف في سكون
البشر الذين كانوا في أعلى الآلات
البشر الذين كانوا في حضن الآلات
ينفصلون عنها، وينظر كل إلى جهته.
الألم السَّاهر ---- يلاشي كل لحظة ----
الإنشاءات الساهية للذاكرة
الإنشاءات الساهية للمخيلة
رغم ذلك، فإن الأطباء الذين تنتقل إليهم السّلطة
كل صباح،
هم أكثر زوّارنا مكراً.
VIII
المكتبة في الهوَّة
هناك غالباً المصاعد المتوقّفة
هناك الأشياء التي اختفت ---- دون أن نلاحظ ----
كحشرات لا نربيها
ربما يتاح لنا أن نمشي في جيوبنا، ودواخين بيوتنا
ربما نجد هناك مراييل النسوة اللواتي احتجزننا
والأحشاء المقدّسة للحيوانات التي كانت تجوّفنا
وتغير أحشاءنا عند مطلع كل عمر
ثم ماذا بعد استشارة المجلدات
هل غير السلالم تهبط من كومة الخيطان الهائلة
مرة بعد مرة
ما الذي يجنبنا أن نبقى إلى آخر السّهرة
ككأس مقلوبة
ما الذي يجنبنا انتظار السلحفاة الجدة
في مطلع الصباح
IX
ليس الليل يجعل الهضبة المنزوعة الرأس
تمتلىء بحجرها الكبير المقدّس
المشوه مع ذلك كالأحدث الإلهي
وها هو يطلّ على الفناء غير آبه بالحياة التي تطبخ وتتلطّخ بالدم.
بالتبغ والبول يُتبَّل هذا المساء، توقد الأرضية الصغيرة
بينما يعوم الحيض الكوني ---- عند الأعلام الكبيرة ----
نجاسة وحمرة
تموج بهما الأرض كالقِدْر.
لا شيء ليذكّر بالعليات الفخارية والمواخير
لا شيء ليذكّر بالمقابر الفخارية
حين الذاكرة العالمية تحترق على الملأ، بالخيالات الداخلية
لنيران الكهف وحرائق المكتبات.
X
يملّس الطباخ على شاربه دون أن يلاحظ السّنونو
الذي أفلت من مريوله المعلّق
ينتظرون على الباب وسيبرزون برؤوس
كلوكس كلان إلى اللوريات
يمسح آخرون على بياض الخبز النائم في البطانيات
كمن يتفقد عائلته
XI
يمسح بالماء وجهه
ويترك الماء ينشف وحده
الماء يرتفع عنه كنقاب خفيف
كوجه يزول قطعة قطعة
يا للغياب
يا للمرور المباغت لهواء المركبة المغادرة.
يتناول الماء وجهنا في الصبيحة
قبل أن يتبدد في الأحواض.
كم كن رطبات وغامضات
وهن يتناولننا في ساعات الغسل
كم كن رطبات وغامضات
وهن يغسلن حروقنا
الأجساد المضاءة من عام آخر
وبياضها الخفيف يوشك أن يغيب
القبّرات التي هي من الآن تلوح كنسائم
مغسولة الساعات والعيون
والوجوه مرفوعة بحب
إلى حيث ترى السحاب يدخّن المدن.
XII
ماذا عن البرد الذي يوقظ في الثانية صباحاً؟
هل هو تحطم النّباح
وتفتّت الأنياب المتقدّمة في عظم الضّلع
هل هو قرقعة العنف المجلّدة
أم هو ---- حين نتلمس فكنا اليابس ----
تكسّر الزجاج الداخلي للصرخة المثبتة
XIII
كشاف ضوئي يترجل من البرج ككائن فضائي
يتجسَّسُ بين النيام
حين يصل أليّ أخفي وجهي كاللص
وأتركه يتابع دوريّته
لم يكن لدينا ساعات ولا علب تبغ ولا نقود صغيرة
تُحدثنا في أيدينا وجيوبنا
لذا كانت الساعات تهيم بلا منازل
في هذا النهار الصامت بين المنشآت السوداء والملالات.
كان الجنود فوق دباباتهم
يتناورون غالباً مع هؤلاء الذين يحوّمون
في كراسيهم الطائرة
كانت هناك السرقة البطيئة لقوتنا
كان هناك السحرة والمقنعون في الخيام المضاءة
وكانت الآلات تدبّر
كان الأقوياء يلتفون حول الطاولة
ويحترق اللحم والبنّ حتى النكهة
بينما يتدحرج نرد ضخم
في نعاسنا
كل لحظة
XIV
الصابونة تخطرنا أكثر من عظمة
وأجسادنا نفسها تَنْمَسّ بتلك الإشارات
التي لا تني تغيّر مكانها
كان الكلام كله يصفنا بلغة لا نفهمها
ثم لا شيء كان أكثر خطراً
من التفاحة المقطوعة على منشفة
XV
الليل يكوّم النوم والشخير في الفناء
الأرض تفتح جواريرها الأمامية
لمستنقعات واسطبلات
فتبدو كصحن كبير للحشرات
وما يحترق على الحافة:
الرائحة الأصلية المطبوخة في غاليريات عميقة: زيت الإنسان
كان الغطيط يتوقف بعد هنيهة
فيصبح النوم بلا دليل وبلا أودية
النباح وحده يلمع كشرارات متفرقة في الجوار
XVI
مع ذلك ديكورات شاهقة لا تنام
وعيون حرس متنبهة كالعقاقير
صيدليات شاسعة للأوبئة
ومباصق كبيرة ساهرة
يقظة العالم الليليّ حيث التفاحة تنتن من خارجها
يقظة الدواب في مبنى البرج
والجثث المرتفعة في هواء الصالون
الطاولات الباردة في الأقبية
الرجال والآلات، متعانقين على الشبابيك
الحفر المتثائبة
خلاصة اللعاب وملوّنات الجسد
XVII
الصمت يخلقهم بالعشرات
يترجلون من البروجوكتورات وأبراج المراقبة.
وينتحون في نومنا ونوم جيراننا المسلط علينا.
حلم دكتلوات على أرائك - بلا نهاية -
حلم تلمود ضخم على المنصّة
حلم أقزام يخيطون طول الليل
وخطى ثقيلة ترتفع من أحلامنا
مصابيح تسهر على وجوهنا
صفارات أيضاً وأجراس إنذار ترن عليها أيضاً
وحين يقفر النوم تتردَّد العطل الباردة
لزفير المنسيين
XVIII
حوار لعائلة الجبال
حينما انشعرت السلسلة من الغرب
يتوعّر العالم من مقدماته
ومن الأطراف المأهولة بإصغاء المُتحدّات
مكعبات الوقت وحدها تبتعد إلى القمة
حيث لا يزال النرد بأصفاره السبعة
قزم الوردة والمشاورة التي يشتعل غبارها في كل الغابة
أضلاع ناقصة
المدينة تحت المثلثات التي تمطر سريعاً
الدخان يخرج من شقوق الإجّاصة الكبيرة
القائمة على المربعات والجسور
والزوايا الكثيرة تختفي
ليس إلهيّاً
الدرع مطوي الركبتين في البرية
وخيطان الماء تشتعل من حوله
الأسرة البيضاء ممددة تحت أذناب المجرات
قوس قزح حقيقي ينازع على اللوح
وذيله يسود بالتدريج
ربّما من الطفولة
ذلك البحر المغناطيسي يلتفت بتثاقل إلينا
والرفوف المقابلة مليئة بالجبال والنور
غروب واحد برائحة تبغ وصابون
حصيرة من الدخان
ذلك المساء الذي استأنسناه كضباب الشرفة
والعناكب تجد في صنع اللعاب والنعاس الضرورين
لشبكتي الليل والنهار
ما من نجوم
القلب الذي انفصل لتوّه عن الصقيع
كوكب مستقل للجدات والجواميس المتحجرة
قمَرُ القردَة
البرد يؤلّه مقاطعاته
والنهار القطبي الذي لم يتمّ غزله
يتقدّم وسط العالم.
***
إصغاء
الموسيقى تنزل الأدراج
وتنظم الخدمة
آتية من مكتبة في الهوة
أو علبة عائمة
للنفايات
حيث تتنصت أرواح المجلدات
ربما على طاولة في طرف العالم
يبقى الكتاب مفتوحاً
والنور لم يصل بعد
1982
العبارة
يرفعون العبّارة
ويربطون البوابة بالسلسلة
هل يمر الرجل بفانوسه
بجوار القلعة
ويتابع على الخط الحديدي
هل يطيِّر القبعات
وهو فوق دراجته
تبتعد طائرة
بينما أسرع
بعجلات كرسيي
في الرواق
1979
أيقونة
المكان ضرير
حتى أن عظام المائدة
وعظام الثريات
تتململ في منام الكاتدرائية
حيث يتردد حفيف أرواب الكهنة
ومرور الأرواح وهي تلحس وجوه الآباء
وتثقب الماء المحفوظ
1981
عناكب
الشيوخ يجلسون في مداخل الحمامات
يصلحون ما تمزق
من ركبهم ومرافقهم
التي كانت غزّولات الماء ليل نهار
كعناكب حاذقة
تملّسها وترفوها
1981
.. يتبع