من مجموعة

"دار النهار" 1993

الغريب والمانيكان

­ 1 ­

ألمطر يسقط أخرسَ على ليماسول
ألمطرُ يسقط دافئاً على ليماسول
رؤوسه الطريّة تتدحرج على البلاط
شجرةُ تبتلع فؤوساً ذهبية
غيومٌ كبيرة على ظهر الكنيسة
والسماءُ عديدة فوقها

لقد احترقَ الخبز
ومن قليل
صار بخوماً في المقلاة
وعليّ أن أُخرِجَ
اللحم المتفحّم في الفرن
لكنني أؤثر أن أنتقل
بين جورتَين في الطابق الثامن
أو أقفَ مبتسماً
أمام مصعدين مفتوحين
ناديتهما من أسفل الشارع
ثلاثُ شجرات
نعبر منها إلى القبابِ الثلاث
وهذه المرأة التي طوت يديها
أمام الكنيسة
تصلّي أو تفكّر
بأنها باب الكنيسة الحقيقي

ألمطرُ يسقط أخرسَ على ليماسول
حملانه تخرّ على الزجاج
ألعاصفةُ تركت ريشتين
على سياجِ الشرفة
قبل أن تهوي
في بئر المصعد
إنني أتنفّس بصعوبة
حيث رُدِمت تماماً
وكل هذه الضجّة التي اختفت
تماماً
في سريري
تتحوّل إلى صمت كبير أبيض
للملاءات والستارة

ألحساسينَ تحترقُ بالعشرات
داخل الشجرة
وأنا أحلمُ بامرأةٍ
لا أرى سوى سواد شعرها
في هذا النوم الذي سبقني إليه
السقفُ والكتاب
أحلمُ بامرأة
لا أرى سوى طاقة شعرها
مكان القبّة والشجرة
مكان الكتاب والسقف
تبتسمُ وتشير
من إكليل شعرها
امرأة
لم يصل سوى ابتسامتها
والضوء المرفوع عن وجهها
سوى تنفّسها الذي ينقّي الحُجُرات
ونومِها الذي يحوم حولي
نديّاً متساوياً
كأنّه سَهَرٌ آخر.

­ 2 ­

امرأة
ربما كانت مانيكاناً في الصباح
تقفُ طاوية يديها
بين شجراتٍ خمس، طيورُ الكنيسة
كانت أيضاً تخرج من شعرها
ربما كان مانيكانُ شجرة
إلى جانبها
"من قليل كنت أسابق دواري
وأنا أنحني على الكتاب
أجتهد أن أكون - في قراءتي -
أسرع منه
لكي لا نلتقي مرة واحدة".
بيتُ الكاهن في ظلِّ الكنيسة
أولاده وأحفاده يأكلون أمام الدار
ربما نزلوا من القبّة النائمة

امرأةٌ تقف طاوية ذراعيها
أتساءل ماذا ينقصها لتصبح مانيكاناً
أقول نادراً ما يلتقي شاعر ومانيكان
لكنَّ الغرباء يصادفونهم كثيراً
أذكر أنني شاهدت في غزو ما
مانيكانات شبيهين بالآلهة
يختلطون بالسوّاح
كنت أساهر سكّان الترينات
أراهم يجتمعون كعمّالٍ مهاجرين
حول امرأة
لها جبينُ امرأة فقدتها
في هذا البلد الذي لا مجالَ فيه
لزراعة الأمطار
في هذا البلد الذي تختفي أمطارُه
وحيث شعر امرأة
هو شجرتي
امرأة طاوية ذراعيها
بين شجراتٍ خمسٍ
ربما كانت
مانيكانَ الكنيسة نفسها.

­ 3 ­

أفضّل أن يهبط المساءُ
وأنا في الشارع
أنظر إلى اللّيل
وهو يحجّر الكاتدرائية
وأشاهد فحمة أول الليل
تسقط في حجرتي
أسيرُ والشارع
يلهث من الظلمةِ
التي لم تسْودّ بعد
إنه يهرب أمامي
وأنا أملأه بضربات قلبي
التي يتردّد رعدُها الأخرس
على طوله

أقفُ قليلاً
وأرى أربعة أزقّة
ترتجُّ تحت المصباح
ورجلاً وامرأة
أطردهما كفكرة
إلى آخر الممرّ
أكْشَحُ غيرهما
أشخاصاً أكثر يأساً،
أمطاراً تختفي،
ذكريات
وحده ذلك الغاز في رأسي
خفيفٌ أنا الآن
وجبيني ينبسط كحافّة
أكاد كل لحظة أسقط عنها
أقف تحت (زاكو بلدينغ)
وأتطلّع إلى أعلى
تلك حياتي لا تزال هناك
وأنا آمل أن تكون تلك الصرخة
التي انْدَلَعَتْ
منها
وأن يخرجَ من الشرفة
دخانٌ نقي
أفكّر أن زلزالاً
مرّ بقربي
واختفى بين البنايات
وأقول منَ الجميل
أنه لم يخترقني أيضاً
أقول مِنَ الجميل
أن يتركني نصفين
رجل وابنه
رجل وشجرته
بين خمس شجرات أُشيرُ
إلى بيت الكاهن
دكان الأرمني
البار
أبتعد قليلاً وأشير
إلى سوق الخضار
ألبريد
كشك التليفون
إنني أنزعها قشرة قشرة وأتابع
أكروبوليس
الروند أباوت
توريست إيريا
تقفين جميعاً
تحت تهديد القبّة العالية
وتحت دوران العصافير
من يأمل أن يراني
بصحبة مانيكان
نزرع الأمطار في الناحية
نفترق على موتورسيكلين هائلين
برأسين كبيرين لأمطار عملاقة
وأن نرتفع هكذا
- أخوين بالمصادفة -
إلى السماء.
خمس أشجار
وجيش من المانيكانات
وأنا أحلم بأن أحفر تحت القبب
لأجد جذورَ الشجرة
والنظام الثلاثي
الذي تعيش تحت تهديده
من يأمل أن يراني
أصعد إلى الطابق السابع
لأنقذ جاراً من حياتي
ولأقلب ذلك الهامد فوق سريري
على وجهه
ففي ساعات
لا يعود في عينيّ سوى الهواء
والعدد
في ساعات
يتوقّف كلُّ شيء
على أن يطاوع جسدي الدوار
الذي هو جزء مَنْسِيّ فيّ
من القمر نفسه
لذا أحلم أحياناً
كإمرأة طاوية ذراعيها
بأن أدخل من الشجرة إلى الكنيسة
من امرأة إلى حجرتي
ولا أرجع لأفتقد كلَّ يوم
الخطوات الكبيرة
التي طبعها قلبي.

­ 4 ­

أفضّل أن تهطلَ
وأنا في الشارع
وها يرفعون الأمطارَ المقلوعة
ويرمونها إلى الأعلى
في الشروق المفتوح على البحر
إنه وقتُ تذرية الأمطار
قطراتُ كبيرة على الزجاج
كوجوه مقلوعة
من ذاكرتي
إنه وقت تذرية المطرِ
البذور التي هطلت هذا الصباح
اختفت عن الشارع
إنه وقت تذرية المطر
ليماسول 1988

***

بريد الخطوات

صيف وخريف 1991

 

الصمت والدم

رأسٌ مصفّف
وزهرية خالية من الورد
لم يعد في ماء القنّينة
المتروكة مفتوحةً من أمس
سوى قليل من الحياة
القماشُ الأسود
لا ينقشر عن كتفيها
والصمتُ أكثر من الدم
في هذا العنق

لم أقل شيئاً
دعيني من تقليم أصابعك
نسيتُ قليلاً من الصابون خلف الأذن
لكنّك بالتأكيد
لم تنسيْ تحت ثيابك
خيطاً واحداً
وأنت تتعجّلين

تنظرين
ولا يُخشى أن يشتعلَ كتابٌ
أو أن تزيد قوة المشروب
في الكأس
كان هناك فقط سير هذه الرموش
وقوّة حجرها
وهي تمرّ من جانبي
وجانب الآخرين
لم يكن هناك مرآة دموع
بل فسيفساء محترقة
لا مطر
لكن مثلّثات حريرية
تجفّ دون ضجّة
نظراتكِ التي لا تنكسر
حروف مسكَّنة.

***

صلاةُ الخيطان المهملة

حسّ صغير يوسوس قربي
سابقاً بذلك شيئاً أصغر
يولد في التو
ربما ليس سوى ضجّة أسناني
من عذاب اللقمة تحت الفكّ
ومن عذابٍ أصغر أيضاً
كسرة حرف
أو ما يتسرّب من القارورة المشقوقة
ثمّة نبسة مودِّعة
في قرارة كلّ نسمة
رسائلهم لا تزيد عن هذا الحدّ
ونسرع إلى الشفاء منها
هكذا أيضاً
تلك الورقةُ البيضاء تماماً
التي وصلتني بعد أعوام
بين صفحات كتاب موروث
تفسّخ حالما فتحته
أو الرضوضُ
التي تحمرّ ثانية في الخريف
إذ أشعرُ جواراً يكاد يتكلّم
كلما نظرت
إلى الدم الناشفِ تحت الظفر
تلك تحيّة
لا ننوي إرسالها
لكننا بتحيّة جليلة كذلك
نلقي الفضلات عن المائدة
وقلَّما نأوي إلى الفراش
قبل أن نضع المصلوبَ
تحت الوسادة
نصنع ذلك بالعجينة التي خبزناها
على هيئة صبيّ
ونجد مكاناً دافئاً للفتيلة
وقد ننتظر
أن يتجسّد شيءٌ من الصمت
الذي يتكاثر
حتى على طرف المكنسة
ليس هناك من ينضم إلينا
في هذه اللحظة
التي هي أيضاً
صلاة الخيطانِ المُهملة.

تقصّين رموشاً طويلة سوداء

تقصّين رموشاً طويلة سوداءَ
من الهواء والحجرة
أو تحوّلين جبلاً من الكتب
إلى خيطان مخرّمة
رأسكِ مصفّفٌ مسرّحٌ جيداً
حيث لا يمكن لشعرةٍ أن تخون
مدهون
بالزيت نفسه لَمَّعْتِ أظافرك ومقصاتك
التي لا تزال لمعتها
وشفراتها أيضاً
مخفية
في خِصلكِ
أصابعي تمشي فيها بخوف
كلما أمسكتُ ببصيلاتها
وفقدتُها في يدي
هناك ندمّر
كلما مشينا
الشعرات الناضجة
التي توشك أن تلد

أعدّها بأصابعي تقريباً
(حين نأملُ أن لا يكون ميزانُ الحرارة
انكسر في العلبة
والزجاجات لم تتهشّم في الصناديق).
أمسّدُ شعرةً في الليل وأنساها
وأتابع بيدي
كمن فقد كسراً ما
أو أضاع ثنيةً
في جسده
وقد يحدث أن أقلب بعيني
قليلاً من الظلمة
كأنني أسوّيها
أن أقول شيئاً ما
أو أسحب كلمة من هناك
قد يحدث أن أفكّر في الكتاب
الذي نشلته من الماء
وانتفخت صفحاته بعد جفافها على السطح
أو في الحياة الطويلة
للكتب التي هجرناها

شبر قلبي

تخطرين لي فجأة
من على الزرعِ
أو رقع الأمطار
أنت في شبر قلبي
في الفكرة القريبة من الشارع
لا تتعذّبين
إسمكِ وحده يتعذّب
وربما يُجْلَد
في القيعان المظلمة
طلقةٌ أنتِ في السفح
دمكِ كلُّه هرب إلى نسيم الضفة
وشعركِ أيضاً
كان شبهة هذا السهل
والابتسامة التي تتدفّق في الماء
دمُ على حافة المصباح
حين لا تعودين وسط غنائك
ولا تحتاج السماء إلى عصفورٍ طنّان
لتبدي أمارتها
بلا سبب
هذا الحجر كلوزة أو قلب
بلا سبب السماء وحدها
بدم قديم
عقدنا بين خطواتٍ وطيورٍ
بين نجوم ورضوض
لكننا خسرنا دموعنا بأسمائنا
وحين بَطُل جسدك أن يكون ظُهراً
كنت طلقة
وكانت بلا عينين
النسمة التي حرّكت المصباح.

غرفة الحافّة

أنأى الحجرات
غرفة الحافّة
شبيهةٌ بقمرة
أو علبة بريد
ليس سوى أغراضِ غرفٍ أخرى
انتقلتْ إلى هنا
إنها سهرة مع عابرين
نصف سيجارة على الصحن
لِنشْعله من جديد
مشط لننظّف أسنانه
ربما نحن نسينا ذلك
أو هي سائحة أخرى
"هل نجد أيضاً إذا نبشنا في السلّة
قبّعة قشّ ونظارتين ومايوهاً أزرق
ربما رسائل أودعناها لأنفسنا
أكسر السيجارة
وأقدّم نصفها لك
ليس طقساً ملائماً لأول المساء
لكنه مع ذلك رمزُ القبلة
ولم نحمل أزهاراً لفرط حيائنا
بل تركنا في الصالة كأسينا
وهذا العطر الذي تشرّبته من عنقك
على الباب
ضعيف الحشاشة
وسيختفي قبل أن ننتبه

زجاجات المشرق

خيرٌ لي
أن أنام تحت نظّاراتي
أن أتقدّم على مهل
تحت جفني
لا يكمل أحدٌ معي...
حتى ذلك الصليب
الذي خلّصتهُ منذ هنيهة
البلور ثمين في هذه الوحشة
وتلك الزجاجات التي حملناها معنا
من المشرق
لم تحتمل أبصارنا
بينما أنزع ساعتي من يدي
أخلّص نبضي من هذا التنصّت
ما من قرين
لدمي ولا قلبي.

بريد الخطوات

في أصغر الحجرات
هذه الفتيلة
تطردني خطواتكِ إلى هنا
يتعقّبها سمعي كالكلب
وأنا أصغي
إلى أن أفقدَ أثرها على الطرقات
أقلب يدي
أحاول أن أصنع بأصابعي سرّاً
أغمض عينيّ
أصنع بوجهي المغمّض طقساً
خبزاً أو قناعاً
أسبَح تحت نَفَسي
خطواتكِ شبيهة بالصمت

بهبوط الطحين على الإسفلت
الباعة ينقلونها في أصواتهم
العربات تحملها إلى أن تختفي
إنها بريدي
ولن يكون لكِ مع ذلك
أكثر من هذا الصدى
حين تخلعين ثوبكِ
وحين يكون لك وجه خطوة
لا تتمهّل على الباب.

أمارة الشجرة

تنهضين عن كمانك
وتعودين إلا لاعبيك
بينما النبيذ يُحَبْحِبُ في النار
وكذلك الدموع
تستسقينني ولا أمنع قارورتي
وكنتِ سَفَحْتِ كأساً
تحيّةً لهذه الشجرة
التي جلستِ عندها
ولم أهتد إليكِ بأمارة أخرى
كان عليَّ أن أسرج جسدي
وأرفع فتيلته
لأوازي الغصنَ
الذي لم يكد يشتعل

حين فقدنا الأمارات كلها
ولم يبق سوى تلك التحيّة
في شقّ الوقت
كان شقُّ الفجر نفسه
على وشك الطلوع

تجاوُر وجهين وافتراقُ يدين
انصرافُ وجهين ولقاءُ يدين
فرجة لا ترى
لكن تسليم الجسد
ليس أقل خفية
والأشجار مستيقظة
عند تسليم الفجر.

محطّات هروبهم

ولن تصلي من طريقٍ أقل خطراً
لكنَّك تصلين
بالية قليلاً
تضعين حقائبك على الباب
قبل أن تحيّي
ولن تصلي
قبل أن أفقدكِ قليلاً
وقبل أن يهرب شيء من وجهكِ
في هذا الطريق
الذي كان محطات هروبهم.

****

مَشْيتِ على نفَسك

تصلين بلا خطوات
كأنك مَشَيْتِ على نَفَسك

خيطٌ في كتاب

مع ذلك أنتظر خيطاً في كتاب
رسالة من نفْسي

الطّالع

في الزجاجات التي لا تُخفي شيئاً
كنا نأمل أن نجد طالعنا
وأن تكون السعادة وحدها
بلا سرّ
ألنصف البارد جالبُ الشفاء
الأحجار التي تداوي الجروح
وهذا الجسد البارد بدون قطرة
- حيث ينعش أكثر
ملمس الحلى والبلّور -
ينام بين هواء عدة حجرات
ليحفظ اعتدالَه
الزجاجات النظيفة
وكم أكره أن أتركها
فاترة منّي.

بقشيش وذكريات

يقلب المطر خطاكَ
وتهمد فجأة
إنها في الغيبة
لا أسمع الآن حسّاً في مرفقي
لا في الساعة
ولا سمّاعة التليفون
هكذا تنقطع رسائل المفقودين

(ربّما لا تزال تحت منكستكِ
أو غسلتِها بالماء الكثير
الذي تسكبينه في حمّامكِ
ربما فقدناها
ونحن ندورُ بين الغرف
حين كرهتِ أن تريْ آثار ليلتنا
في حجرة الفندق
وكنت توزّعين البقشيش والذكريات
على الخدم)

غرف لحماقة واحدة

تعزّمين في ثيابكِ الواسعة
التي صنَعْتِها
لتكون غرفاً
لأنّك صُرعتِ بذكرى واحدة
بعد ذلك
ماتت عصاكِ

هذه الحياة التي لم تكفِ لنهرين
ولم تكن
سوى عمود المديح الأول
لأن نهاراً شُوي كإنسان حيّ
وحماقة أُكلتْ
قبل أن يظهر سرُّها
وكانت هناك أيضاً
الحياة الطويلة للجيران والمتسكّعين

تعزّمين في ثيابك الواسعة
لأنك صُرعتِ بحماقة واحدة
ولأنك ربّيتِ خصلك الطائعة
كما ربّيتِ أظافرك.

أربعة أصابع وشفاهٌ جافّة

يُرضينا الآن
أن نزيح كلب الصّوف عن سريره
ونلقيه مهدّماً على حوافي الأثاث
أن نُخرج المناشف من تحت الوسادة
ونُعَنْون المنضدة والأريكة
أن نصنع روزنامة للظلام
ثم نكسر هذه الشمعة بيننا
نكسر أصابع أربعة وشفاهاً جافة
ونَحْذَر أن نطفىء هذا الصوت
أن نفقد النكهة
التي ربما فاحت في الجوار
أو تنشّقناها بعد أن عَبرتْ.

.. يتبع