من مجموعة

"دار الجديد" 1990

لمْ يَعُدْ مَاءٌ بَيْنَنَا وَبَيْنَ القَصَب

أَلسُّمنَةُ تُقْلِعُ بِصُعُوبَةٍ وَحِيْنَ
خَرَجْنَا مِنْ ذَلِكَ الخَيط، كَانَ الصَّفِيرُ
قَدْ تَحَطَّمَ خَلْفَنَا. مَعْ ذَلِكَ
لا نَنْتَظِرُ حَيَاةً أَوسَعَ مِنْ طَرَفِ
الشَّعْرَةِ الّتِي لَبِثَتْ حَيَّةً
إِلَى جَانِبِنَا طِيلَةَ المِحْنَةِ وَلاَ نَقِيسُ
شيئاً بِالهَوَاءِ الَّذِي يَنْشَقُّ
فِي سِنِّ الرِّيشَةِ. هَكَذَا
يَسِيلُ قَلِيْلٌ مِنَ الأَلَمِ، وَبِوِسْعِكَ
أنْ تنْقُلَ جَسَداً بِجُرْحٍ
أَصغَرَ مِن مِلْعَقَةٍ: ذَلِكَ
أَنَّ أَعمالَ الحُوَاةِ لاَ تَحْتَاجُ
لِلْمَعْذِرَة. الأَحْجَارُ تَتَكَوَّمُ
خَلْفَنَا عَلَى طَرِيْقِ المَاءِ، وَلَنْ يُؤَسِّسَ
أحدٌ مَدِيْنَةً عَلَى يُنْبُوعٍ، شَيءٌ مَا
يَتَقَصَّفُ، لَيْسَ فِي الأَغْصَانِ
وَحْدَهَا، وَلَكِنْ فِي المِزْمَارِ أَيضاً:
هَكَذَا انْدَفَقَ أَلَمٌ كَثِيْر. وَلاَ رَيْبَ
أَنَّ حَاجّاً عَلَى الأَقَلِّ تَبِعَنَا، أبدَلَهُ
اîُ كُلَّ مَرَّةٍ رُكْبَةً، حَتَّى بَلَغَتِ
الأَرْبَعِينْ. وَلَعَلَّ هَذَا الجَبلَ
الَّذِي كَانَ بِلاَ حَافَّةٍ يَرْمُقُنَا، تَوَقَّفَ
هُنَاك.

لَمْ يَعُدْ مَاءٌ بَيْنَنَا وَبَيْنَ القَصَب

لَقَدْ كَانَتْ مَتْرُوكَةً لِلسَّمَاءِ، هَذِهِ المَرَاعِي
وَالسُّطُوحُ، وَلاَ يُقَدِّرُ أَحَدٌ
كَمْ نَامَتْ، وَكَمْ زَادَتِ السُّقُوفُ
عُلُوّاً فَوقَ الخَادِمَاتِ، وَكَمْ تسْتَحِقُّ
الأَرْضُ المُلَمَّعَةُ والحَظَائِرُ النَّظِيْفَةُ أَثْنَاءَ ذَلِكَ
أنْ تَزْدَادَ النُّجُومُ إِطْرَاقاً. لاَ يَخْطُرُ
لأحَدٍ أن يَسْأَلَ الرُّعَاةَ، تِلكَ أُمُورٌ
لاَ تُدْرَكُ بِالتَّجْوَالِ، وَخَيرٌ لَكَ
أَنْ تَسأَلَ مَاءَ النَافُورَةِ، لَكِنْ بِصَبْرِنَا
نَتَوَسَّلُ أَنْ يَكُونَ الخَطُّ أَكْثَرَ إِحكَاماً، وَلاَ يُلْهِينَا
أَنْ يَكُونَ ذلكَ دُبِّرَ فِي خَيْطٍ أو عُقِدَ
فِي حَصَاة.

لَمْ يَعُدْ مَاءٌ بَيْنَنَا وَبَيْنَ القَصَب

وَلا يُشْجِيْنَا أَنْ نَفْقِدَ ذَلِكَ الغِنَاءَ، لَكِن
رَغْبةً بِدُونِ مُعَلِّمٍ، قَدْ تَكُونُ
مَهْجُوْرَةً هُنَاكَ، حَيْثُ لاَ يَنْشَقُّ
هَوَاءٌ مِنْ دوْنِ أَنِيْن. لَمْ يَظْهَرْ
شَيْءٌ عَلَى أَيْدِيْنَا، وَلاَ تَحْتَ
البَرْقِ، قَدْ يَكُونُ
تَحَطَّمَ تَمَاماً فِي عِقْدَةِ إصْبَعْ، وَلاَ ظِلَّ
لِخِيَانَةٍ فِي هَذَا العُشْبِ، الَّذِي
سُهِرَ عَلَيْهِ، وَلاَ يَعْنِيْنَا
إلى أَيْنَ يَقُودُنَا هَذَا الغِنَاءْ، وَلاَ أَنْ
يَتَحَطَّمَ خَلْفَنَا، لَكِنْ عَارُ
هَذِهِ الخَمْرَةِ الَّتِي أُرِيقَتْ بِلاَ
نَدَمٍ، أو صَرِيرُ تِلكَ اللَّطْخَةِ
الّتي انْطَبَقَتْ دُونَ وَجْه. لَمْ يَظْهَرْ
شَيْءٌ عَلَى أَيْدِيْنَا، وَلاَ فِي
هَذَا الشَّعْرِ الّذِي اسْتَدَارَ
لِيَتَجَفَّفَ فِي المَسَاءْ.

وكان أَنْ كَشَفْنَا أَرْضَ السُّهَادِ الجِيرِيَّةِ، إذْ
نَتَأَمَّلُ الخَزَفَ اللاَّمِعَ يَتَكَسَّرُ
مِنْ نَفْسِهِ، وَلاَ يَحْمَرُّ
الآجُرُّ وَلاَ المَاءُ. أَيُّها المُجَازِفُونَ
بِأَنْ تَسُودُوا عَلَى البَهْوِ، لاَ تَخْطُوا
أَكثَرْ، حَتَّى ولا الفَجْرُ الكَاذِبُ
يَخْطُرُ مِن هُنَاكْ.

كُنَّا نَحِيْكُ الهَوَاءَ بِخُرْمِ إِبْرَهْ وَنَنْقُلُ
الضَوْءَ بِخُرْمِ إِبْرَةٍ أَيْضاً، وَأَنْصَتْنَا
لِلْقُوَّةِ الّتِي سَقَطَتْ بِهَا تِلْكَ القَطْرَةُ، وَكَيْفَ
أُجِيبَتْ فَوْراً. لَقَدْ تَوَقَّفَ
هَذَا البَصِيصُ وَسَطَ
الغَابَةِ، وَمَا أَمْكَنَ
أَنْ نَمْضِي. تَجَنَّبْ أَيُّهَا الجُنْدِيُّ
نَاحِيَةَ الشَّلاَّلِ فِي طَرِيقِكَ إِلَيْنَا، وَاسْمَعْ
كَيفَ اسْتَطَعْنَا بِذَلكَ أَنْ نَصِفَ
المَنَامَ الأَوَّلَ لِمَدِيْنَتِنَا.

لَكِنْ هُنَاكَ عَارُ
الكَأْسِ الَّذِيْ رُمِيَ بِخِفَّةٍ، وَهَذَا
الظِفْرُ الَّذِي يَلْمَعُ فِي الطَّبَقِ
كالهِلاَلِ، حَتَّى أَنَّ النَّمِيْمَةَ
لاَ تُحْسِنُ أَنْ تُقْلَعَ، رُغْمَ
قُوَّةِ خَيْطِهَا.

وَلاَ نَذْكُرُ إِذَا ذُبِحَ عَبْدٌ
عَلَى الجَدْوَلِ، قَبْلَ أَنْ
يَدْخُلَ البَنَّاؤُونَ، لَكِنَّ الجَسَدَ
كَانَ مَحْشُوراً فِي جُرحٍ، يَتَفَرَّغُ
مِنْ خُرْمِهِ، حِينَ نَقَرَتِ
القَطْرَةُ أَقْوَى، عَلَى الأَرْضِ، وَعَلَى
الرَابِيَةِ الجُنْدِيُّ، الَّذِي ابْتَلَعَ
مِطْرَقَتَهُ، حَيْثُ وُجِدَتْ
يَدُ مِجْرَفَةٍ، وَغِصْنانِ
أَوْ ثَلاَثَةٌ، قَذَفَتْهَا السُّحْلِيَّةُ
فِيْ فَمِه.

إلاَّ إِنَّنَا لاَ نَكْتَفِي بِهَذَا التَّسْبِيْحِ وَلاَ
نَجْزَعُ لَهُ، لَمْ يَظْهَرْ شَيءٌ
عَلَى أيدِينَا وَلاَ تَحْتَ
البَرْقِ، رُكَبٌ كَبِيْرَةٌ
عَجْرَاءُ، رُبَّمَا هِيَ الجِبَالُ
الّتِيْ لَمْ تَعُدْ تَسْتَطِيعُ الحَمْدَ وَلاَ
الرَّقْص. وَلاَ أَمَلَ لِهَذَا الصَّمْتِ
بِأَنْ يُعَمِّرَ أو يُرَبِّيَ
حِكْمَةً قَلِيلَةً عَلَى السُّفُوح.

وَبَعْدَ أَنْ كَانَتْ لَنَا بِلاَدٌ لاَ نَلْتَفِتُ
إِلَى الجِبَالِ عَنْ يَمِيْنِنَا. وَنَتَأَمَّلُ أكثَرَ
الكُتُبَ الّتِي بِجُلُودِ الحَيَوَانَاتِ
تُكَشِّرُ فِي وُجُوهِنَا، وَالحَيَاةَ
الّتِي تُنَقِّطُ مِنْ طَرَفِ خَيط.

وَقَدْ لاَ نَذْكُرُ الإِكْلِيْلَ الَّذِي تُرِكَ
طِيْلَةَ عَامَيْنِ عَلَى البَابِ، وَلاَ الصَيْفَ
الَّذِي نَفَخَ مَرَّتَيْنِ فِي الكَيْلَةِ، لَكِنْ
نَذْكُرُ أكْثَرَ نَوْمَ رَبِيْعٍ
كَامِلٍ تَحْت شَعْرَةٍ، وَلاَ نُهَاجِرُ
لَكِنْ نُدَوِّرُ رُؤوسَ الطُّرُقِ، وَنَشْخَصُ
إِلَى العَمَّاتِ اللَّوَاتِيْ سَدَّتْ دُمَاهُنَّ العَالِيَةُ
الجِسْرَ، وَلاَ نَلْحَقُ الرَّائِحَةَ وَالضَّوْءَ
وَهُمَا يَعُودَانِ إلى الكُوَّةِ، أَو يَتَبَدَّدَانِ
فِي هَوَاءٍ كَبِير.

أَدْخُلُ المَدِينَةَ مِنْ ظَهْرِ الشَّجَرَةِ أَوِ النَّاسِكِ.
وَالأَفْضَلُ
أَنْ يَحِيْكَهَا الأَعْمَى، وَأَنْ يَصْنَعَهَا
مِنْ نَسِيْجٍ غَيْرِ مَخِيْط. ألأَفْضَلُ
أَنْ نَصْنَعَهَا مِنْ نَخَالَةِ سَهْرَة: أَلنَّمِيمَةُ
المُعَمِّرَةُ القَاسِيَةُ الخَيْطِ، وَالتَّجْدِيفُ
الَّذِي لاَ يَتَمَكَّنُ خَيْطُهُ. رُكَبٌ ضَخْمَةٌ
سَتُدْفَنُ فِي الأَسَاسِ، فِيمَا يُلْقَى
طَاعِنُونَ بِنَقَّالاَتِهِمْ إِلَى السَّفْحِ، سَتُلْحَدُ
صَنَادِيقُ مَلأى بِحِطَامِ الخَزَفِ. مَعْ كَأْسٍ
أَثَرِيٍّ كَبِيْرٍ، إِشَارَةً
لِعَارِ امْرَأَة.

أَلأَفْضَلُ أَنْ نَصْنَعَهَا نَحْنُ مِنْ نَخَالَةِ سَهْرَةٍ: بِلَمْعَةِ
مِلْعَقَةٍ نَلْعَبُ فِي أَسوَارِهَا، وَنُرسِلُهَا
فِي فَضْلَةِ النَّبِيذِ الّذِي طُرِحَ خَارِجاً. سَتَكُونُ هُنَاكَ
أَبْوَابٌ مَهِيْبَةٌ وَشَقِيَّةٌ لِنُدْرَتِهَا، وشَوَارِعٌ
إِلى حَيثُ تُطْرَدُ سُخُونَةُ الحَسَاءِ، وَمَنَارَاتٌ
تَبُوخُ حَولَهَا هَالاَتُ السَّرْدينْ. سَتَكُونُ
قَبِيحَةً، لَكِنَّهَا لاَ تُخْجِلُ
بَنَاتِ المُلُوكِ، مُدَبَّرَةً
لَكِنَّ الحِيْلَةَ لَيْسَتْ دَائِماً عَظِيمَةَ الخِفَّةِ، وَسَيَكُونُ
هُنَاكَ سَهَرٌ كَثِيرٌ، لَكِنَّ المَكِيدَةَ
الَّتِي لاَ يَشْتَدُّ عَظْمُهَا، لاَ تَنْزِلُ
عَنِ السُّطُوح.

فِي الكُهُوفِ، حَيْثُ تُحَاوِرُ الزَّلاَزِلُ
الهِرَرَةَ، لاَ تَزَالُ القُوَّةُ
تَنْقَصُ مِنَ القَوَاريرِ، فِيمَا يُدَبِّرُ بِاستِمرَارٍ
عِقَارٌ وَحِيدْ. أَيتَامُ العَاصِفَةِ
ظَلُّوا وَاقِفِين، يُقَلِّبُونَ أَيدِيهِمْ
بَعْدَهَا، لَمْ يَسْمَعُوا الصَّيْحَةَ
الَّتِي تَنْبُشُ الجُذُورَ، وَلاَ السُّلْطَةَ
الَّتِي سَكَتَتْ بَعْدَهَا بِثَانِيَةْ: كانَ رَسَنٌ
صَغِيرٌ مِهْذَارٌ يَتَدَفَّقُ غِنَاءٌ، وَثَمَّةَ مَنْ يَتَحَدَّثُ
عَنْ تَرْمِيمِ السَّقفِ، وَمَنْ نَسِيَ
دَلْوَ الطَّلاَءِ تحتَ المَنْزِل.

لَمْ يَعُدْ مَاءٌ بَيْنَنَا وَبَيْنَ القَصَب

إِختَفَى الجَمْعُ، لاَ يَكفِي هَذَا العَارُ
لإِدَامَةِ هَرْجِنَا. رُبَّمَا اخْتَفَى
فَخَّارٌ كَثِيرٌ فِي القَاعِ، وَلَمْ يَكُنْ الأَلَمُ
مَعْ ذَلِكَ كَثِيْراً وَلاَ بَاهِظَاً، وَلَمْ نُحْسِنْ
طَرْدَهُ إِلَى الشُّقُوقْ. وَضَعْتُ يَأْسِي
فِي تُفَّاحَةٍ، حِينَ لَمْ أَقْدِرْ
عَلَى أَنْ أُطَوِّحَ أَمَامَ الجُنُود. بُقْعَةٌ كَبِيرَةٌ
مِنْ خَمْرٍ تَنْدَلِعُ عَلَى أرضِ الحَانَةِ، أَنْظُرُ فِيهَا
دُونَ خَوفٍ إِلَى خِيَانَتِي. أَتَسَاءَلُ
إِذَا الهَذَيَانُ وَحْدَهُ رَتَّبَ الأَحْجَارَ، وَهَذَا الكَسْرُ
الجَدِيْدُ في السُّورِ، حَيْثُ لاَ يَزَالُ الجُنُوْنُ
يُنَقِّطُ حَيّاً مِنَ الرّأسِ المَفْلُوعَةِ، ثُمَّ أَنَّ الأَلَمَ
الّذِي لاَ يَمْكُثُ طَوِيلاً يَدْخُلُ
فِي نِظَامِ المَوْج.

لَمْ يَمْكُثْ السُّوقُ طَوِيلاً وَلاَ الجَمْعُ. يَتَبَدَّدُ
المَطَرُ وَكَانَتِ الشَّوَارِعُ أَكْبَرَ تَحْتَهُ، وَمَا أَمْكَنَ
لِلْفُكَاهَاتِ أَنْ تَصِلَ، وَلاَ لِلدِّلاءِ
الَّتِي صَارَتْ فَجْأَةً فِي المَحَطَّةِ، وَلاَ تَحَرِّي
ذَلِكَ الطُّعْمِ الّذِي يُوشِكُ أَنْ يَتَبَدَّدَ
فِي هواءٍ أَكْثَرْ، وَلاَ يُمْكِنُ
أَنْ تَلْحَقَ كَمْشَةَ تَبْغٍ، كَأَنَّكَ تَنْبُشُ
ذَلِكَ وَتُسَوِّيهِ مَرَّتَيْنِ، وَلاَ يَحْسُنُ
أَنْ تَعْبَثَ بِهِ ثَالِثَةً، قَبْلَ أَنْ تَجْعَلَ مِنْهُ
استِرَاحَتَكَ. لَقَدْ تَبَدَّدَتْ (أَوِ انْتَشَرَتْ)
حَيَاةٌ كَامِنَةٌ فِي لَطْخَةِ نَبِيذٍ أَو شَتِيمَةٍ، وَقَدْ لاَ تَتَوَفَّقُ
بَعْدَ أَنْ يَخْتَفِي عَلَمُ الحَانَةِ، لَكِنْ لاَ نَعْرِفُ
مَاذَا سَيَنْقَشِعُ تَحْتَ رَشَّةِ مِلْحٍ وَأَيْنَ سَيَتَفَرَّقُ
الجُنُودُ الَّذِينَ جَمَعَتْهُمْ نُشُوْفَة المَسَاءْ.

آلامٌ كَثِيْرَةٌ لاَ سَبِيْلَ إِلَى جَمْعِهَا أوْ
تَبْدِيدِهَا، وَلاَ أَمَلَ
لِهَذِهِ الشَّعْرَةِ فِي أَنْ تَشْهَقَ ثَانِيَةً، وَلاَ
لِلْحُفْرَةِ المَفْقُودَةِ تَحْتَ السَّمَاء. حِيْنَ كَانَتِ الطَّنَابِرُ
مَقْلُوبَةً عَلَى الأَرْصِفَةِ عِنْدَ الفَجْرِ، بَقِيَتِ الخَوَابِي
تَسِيْلُ، وَلاَ بُدَّ أَنَّ خُطُوَاتِ الحُرَّاسِ
نَقَلَتْ هَذَا الدَّمَ بَعِيداً بَيْنَ الأَكْوَاخِ،
كَذَلِكَ هِيَ الذِّكْرَيَاتُ الَّتِي لاَ تَزَالُ
خَلْفَ البَابِ تَتَأَكَّلُ مِنَ الضَّجِيْجِ، وَمَا أَسْرَعَ
مَا آخَتْنَا تِلْكَ الأَحْجَارُ، وَتِلكَ البَصْقَةُ
الَّتِي كَانَت شَقِيقَتَنَا أَيْضاً، اسْتَنَارَتْ
عَلَى الأَرضِ، وَبَدَأَتْ تَنْظُرُ إِلَيْنَا، كَذَلِكَ
هَوَاءُ الشِّتَاءِ وَبَابُ الحَظِيْرَةِ، وَإِذْ تَتَأَمَّلُ
فِي لَطْخَةٍ كما تُحَدِّقُ فِي مِرْآةٍ، لاَ تَشْعُرُ
فَوْراً بِمِهْمَازِ الجَلِيْدِ، وَلاَ بِالسِّلِ
البَادىءِ بَيْنَ الصُّخُورِ، وَإِذْ يَتَحَرَّكُ شَيءٌ
تَحْتَ الطَّبَقِ المَكْسُورِ، قَدْ يَكُونُ
أقلَّ مِنْ وَجْهٍ، لَكِنَّ الخِيَانَةَ كَانَتْ هُنَاكَ
وَلَيْسَتْ جَدِيدَةً وَلاَ فَتِيَّةً، وَهَا عُشْبَةٌ
وَاحِدَةٌ مُعَذَّبَةٌ فَوْقَ ما يَجِبْ، تَشْهَقُ
فِي الظَّلاَمِ، وَلاَ تَحْسَبْ
أَنَّ تَحْتَ قَدَمِكَ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا اللُّغْزِ، الَّذِي
سَيَكُونُ مُحَطَّماً حِيْنَ ترْفَعُهَا.

إِخْتَفَى الجَمْعُ، لَكِنَّ لِسَانَ نَارٍ
أَوْ لِسَانَ إِبْرَةٍ، يَلْعَبُ بَيْنَ هَذِهِ الكُنَاسَةِ
العَالِيَةِ لِلْفَخَّارِ، وَبَيْنَ المَطَرِ
الَّذِي يَنْبُشُ أَوَّلَ الزَّوَارِيبِ، حَيْثُ كَانَ الرَّجاءُ
مَهْجُوراً وَسَطَ الضَّجِيْجِ، نَهُزُّ
النَّسِيْجَ مَعْ ذَلِكَ، آمِلِيْنَ أَنْ لاَ تَهْرُبَ
الأَرْضُ مِنْ تَحْتِهِ، مُوجِسِيْنَ
بأنَّ هُنَاكَ مَنْ يَنْسِجُ
في الطَّرَفِ الثَّانِي.

وَحِيْنَ وَصَلْنَا، نَحْنُ الَّذِيْنَ لاَ أَجْدَادَ
لَنا بَيْنَ الآلِهَةِ، أَرْضَيْنَا،
بِضَآلَتِنَا وَقِلَّةِ عَدِيْدِنَا، أَلصَّمْتَ
والسُّمَّ اللَّذَيْنِ وَرِثَا الرَّابِيَةَ، فِي حِيْنَ كُنَّا
نُعَشِّبُ عَتَبَاتِنَا مِنَ الحِطَامِ الَّذِي يَنْمُوْ
بِازْدِيَاد. وَنَبْنِي مَطَابِخَنَا
بَيْنَ الأَعْمِدَةِ، ساعِيْنَ
لِنَرُدَّ مَاعِزَنَا عَنِ التَّمَاثِيلِ، مُوجِسِينَ
مِنْ تِلْكَ الأَرْوَاحِ الَّتِي يَتَعَشَّقُهَا المِلْحُ
وَالْخَمْرُ وَمِنْ كُنَاسَةِ البَيْتِ، تِلْكَ الأُخُوَّةِ
الشَّقِيَّةِ البَلِيْدَةِ، الَّتِي أَيْضاً
لِلْفَخَّارِ المَكْسُورِ المُخْتَلَطِ مِنْ أَعْصُرٍ
فِيْ الصَّنَادِيْق.

لَمْ نَفْعَلْ شَيْئاً سِوَى أنَّ الوَبَاءَ
الَّذِي حَصَدَنَا لَمْ يَتْرُكْ كَثِيْراً
مِنَ الدَّمِ، وَالْمَدِيْنَةَ الَّتِي هَوَتْ
لَمْ تَتْرُكْ كَثِيراً مِنَ التُّرَابِ. لاَ إِرْثَ
لِلْعَاصِفَةِ، وَلاَ مَنْ يَبْكِي
أَوْ يُغَنِّي لِلْمُدُنِ القَبِيْحة. لَكِنْ ثَمَّةَ
مِزْمَارٌ يَتَهَيَّأُ لِيُمْسِكَ بَطَرَفِ أغْنِيَةٍ،
وَقَصِيْدَةٌ لا مُجْدِيَة. أَيُّهَا الجُنُوْدُ
الَّذِيْنَ لَمْ تَحِنْ عَوْدَتُهُمْ، أَيُّهَا الغُرَبَاءُ
الَّذِي تَكَلَّمُوا حَسَناً، إِسْمَعُوا
الرِّيْحَ الَّتِي لاَ اسْمَ لَهَا تَمُرُّ
مِن نَاحَيَتِنَا.

لاَ يُشْجِيْنَا أَنَّ آخَرِيْنَ، مُتَخَيَّلِيْنَ
أَوْ مَوْتَى، صَنَعُوا ذَلِكَ عَنَّا، أَنَّنَا
مَعَ ذَلِكَ لاَ نَشْفَى مِنْ خَسَارَتِهِ، وَحِيْنَ ارْتَبْنَا
فِيْ أَنَّ أَحَداً أَبْدَلَ القَوَارِيْرَ، لَمْ نَعْتَرِضْ،
وَلَمْ نَتَوَقَّعْ مِنْ خِيَانَةٍ ثَانِيَةٍ أَنْ تُبْطِلَ
شَيْئاً، وَإِذْ احْتَطْنَا أَنْ لاَ نُخَلِّفَ
خَبَراً، أَوْجَسْنَا خَوْفَ
أَنْ نَكُوْنَ أَهْمَلْنَا خَيْطاً منْ إِنْكَارِنَا
عَلَى الطَّرِيْقِ، أو أنَّ قَطْرَةً مِنْهُ
لا تزَالُ تَغْلِي فِي نِفَايَةٍ أَو ثُقْب.

لَقَدْ تَأَمَّلْنَاكِ أَيَّتُهَا الأَشْجَارُ وَلَمْ نُرَاقِصْكِ، ولَرُبَّمَا
هَمَمْنَا بِأَنْ نَعِظَكِ وَلَمْ نَفْعَلْ، وَلَمْ نُلاَحِظْ
أَنَّكِ لَمْ تَعُودِي هَذَا العَام. رُبَّمَا،
وَنَحْنُ نُحَرِّكُ الشَّايَ، عَمِيْنَا عَنْ كُلِّ طَعْمٍ، أَوْ هِيَ رَائِحَةُ
الْخَشَبِ وَجُلُودِ الكُتُبِ كَسَفَتْ عِطْرَ
الصَّنَوْبَرَاتِ حِيْنَ خَرَجَ
مِنَ الرَّكْوَة صَيْفٌ ثَقِيْلٌ خَفَّفْنَاهُ
بِالمَاءِ مِرَاراً. وَقَدْ لاَ تُبَالِي
وَأَنْتَ تَرْمِي فَضْلَةَ شَرَابِكَ بِنِظَامِ
خَمْسِ شُجَيْرَاتٍ، لَكِنَّكَ تُصْغِي
أَكْثَرَ لِلْبَائِعِ وَهْوَ يَعْرُضُ كَاتَالُوْغَاتِ الحَدَائِقِ (وَكَانَ يَنْبَغِي رَفْعُ الأَشْجَارِ عَنِ الغُرَفِ..) وَلاَ تَعْرِفُ
كَيْبَد تَبَدَّدَ ذَلِكَ النَّعْنَاعُ القَوِيُّ الَّذِيْ سَوَّدَ
ذَاكِرتَكَ بِغَلَيَانِهِ، وَلاَ الْمِلْحُ
الَّذِي اخْتَفَتْ تحْتَ بَيَاضِهِ السُّطُوح.

مَعْ ذَلِكَ لاَ تَذْكُرُ، كَيْفَ تَقَطَّعَتِ الدَّالِيَةُ
عَلَى خَمْسَةِ سُقُوف. وَكَيْفَ دَبَّتِ الحَيَاةُ
فِي تِلْكَ الخَوخَة. لَقَدْ مَرَّرْنَا تَحِيَّةً
لِلْجِبَالِ الَّتِي بَقِيَتْ خَلْفَنَا، وَقَدْ لاَ يَجْدُرُ بِنَا
أَكْثَرُ مِنَ الصَّمْتِ لِهَذِهِ المِجْرَفَةِ، الَّتِي كَانَتْ
مَكْسُوْرَةً فِي القُمَةِ، تَقِفُ
لِتَحِيَّتِنَا.

وَكَانَتِ الجِبَالُ، وَرُبَّمَا جَانِبٌ مِنَ السُّوقِ
تَحْتَ هَذِه اللَّطْخَةِ، وَلَمْ تَكنْ تَئِنُّ
وَلاَ نَدْرِي مَاذَا تَبَدَّدَ هُنَاكَ، وَلَرُبَّمَا
كَانَ لِلظِّلِ ذَاتُ القِدْرَةِ، وَلَيْسَ لأَحَدٍ
أَنْ يُوقِظَ الفِنْجَانِ الَّذِي وَحْدَهُ لَمْ يَتَحَطَّم. إِذْ لاَ نَعْلَمُ
مَاذا نُخَلِّصُ أوَّلاً مِنْ هَذِه البُقْعَةِ
الَّتِي كَانَتْ وَحْدَهَا شَقِيْقَتَنَا
فِي الصَّبَاح.

لَمْ يَكُنْ الجَمْعُ، لَكنَّ الضَّجَّةَ
اسْتَمَرَّتْ تَتَدَفَّقُ تَحْتَ الجِسْرِ وَكُنَّا نَسْمَعُ:
"أَهْلِي لَيْسُوا مِنْ هَذِهِ الجِبَالِ. لَكِنَّهُمْ أَرْسَلُونِي
إِلَيْهَا. جُدُودِي كُلُّ وَاحِدٍ
مِنْ صَنْعَةٍ وَنَاحِيَة.. ذَلِكَ أَفْضَلُ
تَحْتَ شُجَيْرَةِ النَّارَنْجْ". وَكَانَتْ هُنَاكَ المَرْأَةُ
الَّتِي تُصَارِعُ ذَلِكَ الشَّيءَ عَلَى ذِرَاعِ السُّلَّمِ، وَذَلِكَ
الشَّيْءُ الَّذِي انْدَفَعَ يُغَنِّي مِن شِقِّ المِصْعَدِ، وَلَسْنَا نَرَى
تَمَاماً حَبْلَ المَشْنُوقِ، مَجْرُوراً أو مَرْسُوماً
فِي أَعْلَى القَاعَة. لَكِنَّ الرَّجَاءَ
لاَ يَزَالُ مَهْجُوراً، وَهَذِهِ الرَّائِحَةُ
الَّتِي أَعْمَتْ حَيَاتَنَا، فِيْمَا
نَنْتظِرُ بِنُهُودٍ ذَابِلَةٍ ألجِبَالَ الَّتِي تُصَارِعُ
لِتَنْشَقَّ مِنْ صُدُورِنَا.

وَكَانَ هُنَاكَ مَنْ يَقُولُ: لاَ تَضْرِبْ
ثانِيَةً فَيَحْيَا. وَكَانْ هُنَاكَ طَرَفُ
مَدِيْنَةٍ يَرْجِعُ مَعَ الدُّخَان. لَكِنَّهَا تَظَلُّ
نَائِمَةً تَحْتَ سَحَابَةِ القَهْوةِ، وَتَحْتَ
الأَرَقِ، وَمَا كَانَ لَنَا أنْ نَنْبِشَ
أَكْثَرَ في البَخُّورِ وَلاَ أَنْ نَنْزِلَ
أَكْثَر في الدِّهْلِيزِ المُظْلِمِ بِعَبَقِ
النَّعْنَاع.

كُنْتُ أَنْتَظِرُ إلى أَنْ يَخْرُجَ مِنِّي
ذَلِكَ السِّلْك. لَكِنَّنَا هَذِهِ المَرَّةَ
سَنَبْصِقُ أَلَماً خَالِصاً وَقَسْوَةً خَالِصَة. تِلْكَ
هِيَ الرِّيْحُ الّتِي تَشْحَذُ نَفْسَهَا عَلَى حَافَّةِ
الجُرْف. وَالهَوَاءُ الَّذِي يَحِزُّ نَفْسَهُ
عَلى الشِّقِ الطَّوِيْلِ. وَلَيْسَ غِنَاءً
مَا يُوشِكُ أنْ يَصْفُرَ فِي القَصَبِ، لَكِنْ الرِّيحَ
الَّتِي تنْقَسِمُ بَخَبْطَةٍ بَيْنَ نِصْفَي الجَبَلْ. لَيْسَ غِنَاءً
ما يَشْهَقُ فِي قِطْعَةِ حَبْلٍ، لَكِنْ
إِلَى أَنْ أَلِدَ ذَلِكَ المِسْمَارَ مِنْ نِهَايَةِ
رُوحِي أَتَرَنَّمُ "كَانَ لِيْ فَمٌ كَبِيْرٌ
أَحْمَق".

.. يتبع