من مجموعة

"دار الآداب" 2007

كُفَّار باريس

­ I ­

كان عليّ أن أبعد يديّ عن بعضهما
أن أبعد حاجبيّ أيضاً
قالت العتمة
بماذا تتمسّك يا بُنيّ
لماذا لسانك أسود
قال الدوري
لأني نظرت في ماء وسخ
لأننا لا نستطيع أن نزيل الغيم
كما نزيل الوحل
لأن الغيوم جرداء
وتتفل وربما تبول في الأعلى
ولا نستطيع أن نفصل الغسيل الوسخ
عن دموعنا
ولا أن ندع عرق الموتى في ملاءاتهم
كان عليّ أن أبعد عينيّ عن بعضهما
أن أبعد حاجبيّ أيضاً
لماذا أنت مصرور
قالت الببغاء
لا أستطيع أن أكسر اللاّ عن نعم
ثمة فضاء هنا
لكن قلبي وفمي في مكان واحد
قلبي وأسناني في مكان واحد
في المحل ذاته، في الثقب ذاته
يعملان ويتعاضّان.

­ II ­

قال الأسوَد
خرجت من الغابة
قال الروسي
جئت من الجليد
أما أنا فلم أَحِرْ جواباً
لقد خرجت بلا شك
من الرمل الأسود
الذي ربّيته في فمي

­ III ­

وصلنا إلى قصر البرد
تتفل فوق صلعاتنا، السماء
المنمّشة ذاتها تتمدّد بلا نهاية
برشاء ومنمّشة بلا نهاية

أضف شمساً باللون الجيريّ وأتركها تسلح في مكانها. إصنعها بماء وسخ كمن يمسح بخرقة ملونة زجاجاً غير مغسول. أضف جيراً حيّاً ولعاباً وشيئاً في قوة الكحول.
ثمة أشجار هشّة، وكاتدرائيات ضخمة بلا وزن على الإطلاق، وكل هذه الشواهق المصنوعة من طباشير
إصغِ إلى جريان الشوارع
ولا تخشَ أن تزفر بارداً في وجهك
البرد يجفّف كل هذا البصاق

إنك تفكّر في منطقة معقّمة
البرد يلمع من ذاته
ربما لم تفكّر في الفواصل الشقيّة من قبل

الرذاذ يصلك ميتاً
لكنك تتنفّسه أيضاً
هواء ميت آخر يدخل فيك
الزوال وحده يفكّر الآن
أو ينشىء ذكريات ضخمة لا تجد من يستحقّها
أما الأجنبي فيستطيع وحده أن يقول:
وُلدتُ في صالة شاي
وأنا يتيم هذا الجسر
وحده يقول
حياتي في شاحنة
ولم يبقَ منها سوى فواصل
لقد أرسلَتْني وحدي إلى هنا
ولا تزال تناديني من فوق الغيم:
تمسّك جيداً يا بنيّ

وصلنا إلى قصر البرد
لا تستطيع أن تحمل حقائق كثيرة
إلى هنا
عينكَ مفتاحكَ ولا تحتاج إلى طلسم
أو إصبع زائدة
وحده الأجنبي يقول
وُلدتُ في صالة شاي
كل شيء لُفظ
لم تقله نفخة
أو دقّة جرس في الشتاء
كتاب أم بيسترو؟
الغيم لا يكذّب أحداً
كتاب أم بيسترو؟
تنفخُ أسبوعك على الزجاج
فلا تجد سوى شبح المترو
الكفّار يصلون إلى باريس
والغجر حول مونمارتر
الغيم لا يكذّب أحداً
(ربما تصحّ هذه أن تكون لازمة مقاه وذكريات ضخمة لمعابد وحدائق تَعِبتْ فعلاً لتبدو حقاً أجنبية)
كاتدرائيات وقساطل وضواحٍ من فلّين
غناء الفواصل في شتاء باريس
التي خسرناها
تتفل فوق صلعاتنا
أوراق الخريف النبيذية
ونداء النواقيس
في هذا الرذاذ
الذي لم يكن
سوى نسيم أسمائنا
ذلك كلّه لُفِظَ في البرد
ولم يُطل مُكثاً في البرد

­ IV ­

لعبْنا على باريس وخسرناها
لعبتُ بإبهامي الوحيدة
بحاجبيّ
واحداً فواحداً
لعبتُ بفروة رأسي
لَعِبْنا بالكلمات التي غيّرت جنسها
بالأحرف التي لم تغيّر جنسها
بأسمائنا النادرة - بأسماء قطعاننا
وأسماء ديداننا
بالحظ الأبيض، بالحظ الأسود
لعبنا بالوشم المأكول
بميناء أسناننا
لعبنا.. لَعبْنا
.........
البرد أخذ كل بصاقنا
ما من شيء في قوة النفق
إنه غول باريس
هل يمكننا أن نطرده بالطبول
terminus terminus
أُخرجوا بدون بطاقات
لن تحتاجوا إلى كل هذا الدم
أنفخوا على الزجاج فتجدوا وجوهكم
وهذا القشّ الذي اقتتلتم عليه
سيعاد غسله
لا من الدم
ولكن أيضاً من المعاني
سترجع لكم أمتعتكم
لن تحتاجوا إلى أكثر من أن تنفخوا
سترجع لكم أسماؤكم النادرة وشاراتكم
لن تحتاجوا إلى كل هذا اللون لتحملوها
ثمة ماكيت مدينة بأنهارها وسباعها لكم
تأمَّلوا فحسب في الرذاذ
تكلموا لغاتكم النحاسية
تنادوا بالأبواق
ستجدون القاف جبلكم الأقدم
سترون جدّاتكم اللواتي يخدمن كأمثال
ووليّكم القاموس
لا تحتاجون إلى كل هذا الرمل
لتصنعوا لغة
terminus terminus
أُخرجوا بدون بطاقات

­ V ­

القمر جافّ على القساطل
القمر أبيض على المدينة الطباشيرية
شتاء عديم الألوان
إنه فحسب كتابة بالقش والرمل
الغيم يتدكرب في كل اتجاه
جارّاً معه خيط مخاط ثخيناً
دعوه يهدر من دون صوت
باصقاً جملةً لا طرف لها
قد تكون مخلّفات أسماء وأفكار
وقشاً كبيراً
ضاع جنسه

دعوه يهدر من دون مطر

وحدكِ سوداء في كل الفصول
لكنّ شعركِ من قش الشتاء
وحدك سوداء
ولا تحتاجين لوناً ثالثاً
سوداء
والنهار من طبشور
إلى أين تقودينني
والنهار خشبة
النهار رصيف
والسلالم والأقفال في أسفل الجدار
إلى أين تقودينني
والمساء عين

ليست المدينة ولا المسرح بعد
لكن كلمات
تحيا ككائنات منفصلة
من عين وحيدة
من قرن وحيد
نشأَتْ كل هذه الغيلان
من فاصلة نشأ الجدار
وأنا نشأتُ من بحّة
من خطأ إملائي
تحرّك الباب
لكن أحداً لم يسمع
مجرد خطأ وليس سراجاً
العثرات لا تلمع في القمر
لا تخافي
فلن أعود عليها
ولن أغضب
إذا لم أجد جرساً على الباب
لا تخافي
ليس أكثر من إعدام اسم
ولن يترك رائحة على الإطلاق
لا تخافي
لا نقتل سرّاً بضربة
يلزمنا لذلك
صقيع طويل

تقودينني
سوداء
واسمكِ وحده
فقرة ظَهركِ
لستِ قاسية
لكنكِ بذرتِ شعركِ كله
في حديقة الشتاء
لستِ بخيلة
لكنكِ خرجتِ من الشتاء
برقعاً
لا تريدين لوناً حتى في الأزهار
الربيع تجدينه بائعاً
تنزلين
لا كامرأة تدوي قيثارة
بل كوكب
نشأ حول حبّة رمل
ليس صمتاً ما بيننا لكن ثقل حاجبين
وثقل اسم
تقولين هنا لا يطيقون القرب
لا تدنُ
لهاثك يزيّت
لا تدنُ
مخاطك على خصلاتي
والرطوبة تجعل لعابهم في روحي
تعطيش الأشجار
يجعلها أقلّ ذُباباً
لكن الذباب أيضاً في المخيلة
إذ يحسن أيضاً تجفيف الحجرات
وشراشف السرير
وأجزاء كبيرة من الذاكرة واللغة

لا تأسفي
كان صيفاً
كنتِ مضيفة للقمر
اللسعة شملت فمكِ
ولم تختفِ عن شفتكِ السفلى
كانت يداكِ وافيتين تلك الليلة
وبالكاد جمَعْنا هذا القدر من شَعرِك
لا تأسفي
كان صيفاً

ما سُكبَ على الفراش
لم يتركْ أثراً
القمر أبيض على الشراشف
البيضاء
سوداء وتنزلين
لا كامرأة تداوي قيثارة
الوحشة أرادتك كوكباً
تتركين معطفكِ وترقصين
على المربّعات
تتركين قفّازاتكِ أيضاً
انسي تفّاحاتكِ ويديكِ
إنها أزرار فقط
وجهكِ وحده ثقيل ككوكب
لكنه لن يعود قمراً

­ VI ­

كانت تماماً في أسفل الجدار
محلّ خطوة المحكوم بالإعدام
على قدْر فروة رأس
بذات الصورة المجهريّة لقطرة الدم
من قطرة مَنِيٍّ أيضاً
بدأتْ هذه المدينة

يوم نما حجر حي
كان الكوكب كله لا يزال حيّاً
هكذا عثروا على الخليّة الأولى
للديناصور
الخلية الأولى للمترو
لكنهم لم ينبشوا كفاية
في المراحيض
وكان يمكن أن يجدوا فيها
التخطيطات الأولى للصوامع
والأضرحة
قبل أن يخترعوا
علب البريد والاستديو
إذا وجدوا حجارة كانت تحيض
فلأن الأسرار تخرج دائماً مع الدم
والكائن يستفرغ عظمه ولبّه أولاً
لا بدّ أن مخاط البزاقة الشمسي
جسُور إلى مكان مجهول
فثمة نجوم قذفت عظمها هنا
لا نأمن مع ذلك أن تبقى
نطفة الجنون
حية وزهرية بعد أجيال
إن كانت كل شعرة عيناً
وكل إبهام قاضياً
إذا كانوا يدوّنون كلّ ظلٍّ عَبَر
فإن المراحيض وحدها متاحفنا
لا فائدة من المطرقة
ما من خطة لتبديد الكائن
ولم يفعلوا شيئاً
في هذا السبيل

­ VII ­

النواقيس تملأ باريس بالأشباح
المترو شبح باريس الطائر
ما بالهم يتجمّعون في الأنفاق
هل هم سكارى أولئك الزنوج
لماذا إذن
لا يحاصرون النفق بالطبول

الأمطار تملأ باريس بالأشباح
ليس للشجرة المأكولة أخت من جنسها
الأجنبي يتحسّر عليها
يبحث عن وتدٍ في لغته
لكنه لا يستطيع أن يُثبِّته
هنا لا نزرع إلا جسوراً
تستطيع أن تبني بمرفقيك قارباً
لكنك لا تستوقف صفصافةً
كَسرَتْ جناحيها
تستطيع أن تشعل حرفاً ساكناً
بطولِكَ
أن تصنع لعبة أكبر من معبدك
فهذا قصر الشتاء
حيث لا تهدأ أطياف الشمال
وحيث الشتاء
لا ينقل ذكريات المدن البعيدة
فحسب
ولكن أرصفتها وذَهَبها أيضاً

تذكّر يا سيدي
تذكّر يدك
إذا رأيت هذا المنعطف
يمكن لشجرة مأكولة
أن تقف كظلك
وأن تحبّ ذلك منها
اسمك لم يعد مدنّساً
لكنه طيّار
ولن يبقى معك في المحطّة التالية
ربما ينفعك طبلك
أكثر فيها
إذ تسمع صوتك في بيسترو
وترى أسناناً بيضاء
لا يغريك أن تعلم
أنه أيضاً الماء الذي نشف
عن وجهك
أنه سكرك في حانات مونبارناس
وربما قلت
غداً أجمع شَعْرَكِ من شتاء باريس
غداً يجمعون الشتاء من باريس
كلها
لكنك إذا نظرتَ إلى لون الجعة
هدأ روعَك
وقلت في سرّك
إن هذا مجرد لغة.

­ VIII ­

السحاب والمباني تمشي بسرعةِ
الساعة نفسها
التي باتت في الخلف
تستعجلها وأنت بالكاد تنهي فنجانك
وتقول القطارات لا تنتظر
هذه الحياة تصل كاملة كذكرى
وأين كنتَ
فأنت في وقتك
وتقول أكثرُ البقاءِ في الليل
إنها تستمر في نومنا طويلة
جداً
وكثيرة
جداً
كأننا عشناها

­ IX ­

سمير خدّاج المقيم في مستشفى للسرطان يصنع جداريّة كبيرة من أوراق الخريف. السرطان أكل عروقها وبالتأكيد رائحتها.
لكنها مع ذلك أوراق للشفاء. أهدي بعضاً منها إلى نهلا وحسن وأختي وأنا آكل منها أيضاً إذ لا أحتاج بعد إلى التأكّد من أنني لست مصاباً.

رسَمَ ياسمينة لم تظهر على اللوحة
رسَمَ شجرة بلا أي شجرة على الإطلاق

تعرفُ الأوراق أنها باقية
لخريفين أو ثلاثة
يعرف الجالسون حولها
أن خريفهم سيدوم طويلاً
إذا كانوا بلا رائحة
فإنهم ليسوا عمياناً
إنهم يتعلّمون مراقصات الخريف
سمير خدّاج رتَّب لهم عصيّاً رماديّة وشيئاً يهوي في العتم
لا يرسم عتماً ولا أشياء. نقول: ذلك لأن الشيء لم يصل بعد، ونروح ندلّه بأن نكتب له كلمة عتم في الأسفل. ليس هذا هو المكان الصحيح، لكنه يهتدي له بالتدريج.
سمير خدّاج في القبو ينتظر أن يحدث شيء على اللوحة بمجرّد تحريك يده أمامها
أن يوجد العتم من دون أن يظهر عليها
يقول إنها نهاية التاريخ ويروح ينتظر زيارته ذلك الذي لم يُسَمَّ، آملاً أن يبدأ من اللحظة فن السرطان.

­ X ­

صوت هدى يقودني في الأنفاق.
إنه نوع من المشي في الشرايين. أقول لها قد نتخبط في جلطة.
يمكن مستأجرة ال-Pot de Fer أن تقوم بعمل الخريف نفسه. ليس تحريك ماكينة وهمية فحسب، ولكن عمل طرحة من يبيس الأكيدنيا
أقول لهناء ليست هذه ثلاثة أبواب. العزباء تحسبها كذلك. إنها تصنع ظلالاً كثيرة فحسب. أما تلك التي نَسَلتْ ثلاث بنات فتتذكّر أن تلفونها لم يغرّد من الصباح وربما لم تطعم كناريّها من عشرين عاماً. لا أزال كما أنا يا عزيزي. السماعة ساخنة على فمها. اذهبي واكنسي الحديقة يا فتاة. لن تجدي بالطبع حطباً. الأرامل المرحون، وربما اليعاسيب، نجدهم في مكان آخر.

­ XI ­

يفتحون أبواباً في عمق باريس،
لكننا لا ننام إذا لم نغلق الكومبيوتر.
لا تزالين كما أنت يقول لك التلفون.
أخشى أنه يقولها لكل امرأة.
تعرفين بالتأكيد خفّته. تتحسسين
مع ذلك نفسكِ. هل تخافين رقّة
جفنكِ، ألا ترين كم فمكِ مظلم. ألا
تخشين أن تقتلي الشعرات التي لم تولد في رأسك. أن تري نذيراً ما على بياض عينيكِ، إذ تصغين إلى طَرْق كعب حذائكِ وكأنه لغة أخرى.
كم أنت جميلة يقول لك التلفون.
ثمة أحياء تتفتّح في عمق الكومبيوتر، هناك، بدلاً من بيار العالق كالإبرة في المانش، مونيك توجه المطارات.

­ XII ­

نرى فم الزنجي، وسنّان بيضاوان فيه، ناتئاً من جلد اللّوحة المبثّر الأسود الذي انسطحت فيه العينان.
نرى أحشاء السمكة الصدئة.
والبطّيخة المحزوزة
الأحشاء التي ابتلعت النبي
والنمال التي أكلت السائح
هنا لا نجد باباً، إننا ننقِّب فحسب. لم نجد جذراً في الجرح اليابس. صَمَتَ تماماً منذ انفتح كما يفعل لبّ اللّوزة المكسورة حين نفاجئه
لكننا ونحن نصعد سلالم بوبور، أَملْنا أن يرونا شفَّافَيْن من الخارج، مليئَيْن بالقفازات، وحين شاهدنا الرئة المطاطية تتنفس في انتظام على الأرض، والشرايين البلاستيكيّة تنقل السائل بين الغرف، رحنا نتجوّل ونضحك بين الأحشاء.