من مجموعة
"دار المطبوعات الشرقية" 1985
الملك
ملك من الصيني
حوله رفوف من أطباق الصيني
ومشكّ من فناجين الصيني
لذا كانت حنفية الماء
تحدّث نفسها حين تجري
أن الصيني هو السلطة
وأن المجلى رغم أنه لا يذكر
واقع في دولته
قلت أكتب قصيدة عن ملك
أو أرتجل ملكاً
وها هو يكاد الآن ينطّ من فمي
لكن أين نجد ملوكاً
هل نجدهم بين هؤلاء الذين يحكمون
بقوة الأمثال
التي هي كاليواقيت في بيت اللغة
وها هم ينامون بين جلود الخراف
والذهب يكنِّر أفواههم
هل نجدهم بين هؤلاء الذين تبقى رؤوسهم
محنيّة تحت التاج
الذين يجلسون بين عرائش خرافية
وتحت الهالات
ولا شيء سوى صفوف القناطر
تتلوّى من بعيد
والبوابات العارية
حيث تترامى الأرض البيضاء
هل كانت الحياة تجري في الضاحية
حيث تصبّ الفضلات
هل كانت المدينة تغطّ في حقيبة كبيرة
كانوا على الزجاج والسجاجيد
يمرّون بالقطعان
يطرقون النحاس ويجرّون العربات
ويتخاصرون
بينما لا نسمع سوى تعداد الثواني
التي تنزّ
وتتكوّم جبالاً
ثم نمسح عن الزجاج الأيام التي تتسخ
والوقت الذي يتسوّس
حين لم يكن الموت قد دعي بعد
يجلسون بين عرائش خرافية
والسماء تتمشّى على زجاج عيونهم
حين كانوا يطحنون الدقائق طيلة قرون
والفضاء يتّسع...
حيث كانوا يدقّون التبر والمعادن الغالية
ليرمّموا تجاعيدهم.
الكلام كان أيضاً هناك
الكلام الذي تبخّر من فم الناسك
والكاتب
والمعلم
مبريّ رقيق كأحجار الخفّان
ينتظر اللحظة التي يعود فيها إلى الحلقة
كنقود زائفة
قبل أن يخلد في الصمت
لم يبق من الرؤيا سوى البرج
يتبادلون ساعاتهم تحت القناطر
يقايضون يوماً بيوم
وعاماً بعام
والأيام تقتتل
وتدخل بعضها بعضاً
هل كانوا حقاً ملوكاً
إذن لماذا تركض السهرات بسرعة الخدم
لماذا يسمي الرعاة النجوم
لماذا تفسد الكأس المباركة
نبيذ العمر
نسّابوا العوالم، هل كانوا حقاً هناك
هل كانوا يستأنسون المدن
ويُنيخونها كالثيران
هل كانوا يخيطون الدول إلى بعضها بعضاً
فتغدو بساطاً
هل كانوا يفرطون العواصم كالعُرى
ويكفّون الممالك
ويرتقونها من الأعلى
هل كانوا يخيطون السماء إلى البحر
والكواكب إلى القلاع
والضباب إلى النوافذ
هل كانوا يخيطون الكلام إلى الكلام
ويجوّفون اللغة
هل كانوا يقطبون الشقوق والمنافذ والعيون
ويَصرّون العالم في كيس
هل كانوا يوثقون الظلال الماردة
إلى أقدام الجثث
وإلى أعقاب الشموع
ثم يرمون الجمر على الكرمة
ويغادرون المائدة
والملح لا يزال يحترق
يبحثون عن الخاتم
السن الملبّسة بالياقوت
الكريستال البري المطعم بالدم
سلة الكسور
ما الذي يهب
هل هو البخور الذي يفوح من جلود الموتى
أم هم يذيعون وساوسهم العظيمة
في كل اتجاه
كما كانوا يبثّون جواسيسهم
هل هو الهذيان الذي لا يحتاج إلى فم
ولا ميقات
يدخّن عالياً
عندما يتحرك الليل
ويحترق الوقت بطيئاً
يحيون كالزهور المحفوظة في بلّورات
تحت خيمة الأرق
النجوم تحبو على أرجوانهم
بينما هم ينعسون على الغلايين والمجلدات
وعندما يذوون في البستان الفسيفسائي
يفضِّض الصباح وجوههم المتسنّمة
على المنصة
إلى القمحة الذهبية للسلطة المعلقة
أين نجد ملوكاً
هل نجدهم بين مؤنِّسي الأيائل
أو المعدّنين الأول
الذين رفعوا بوابات وحصوناً
وجوائز برونزية
هل نجدهم ونحن نتقدم على بصيص شمعة
لنراهم وقد خرجوا من صناديقهم
وجلسوا ليتناولوا من فاكهتهم
وسنابلهم المجعدة
والزمن يصرّ تحت أسنانهم
حيث الساعات مجلِّدة في الهواء المسجّى
والخارجون من الممر
ينسون أصابعهم وعيونهم على المجلّدات
هل نجدهم بين معادن لم تغسل بعد
أو في الكلام الذي لم ينقطع عن حجرته
ولم تتفسّخ بعد قطعته الكبيرة
في النوم حين نرضع جميعاً من الفضاء الساخن
وفي الليل حين ندنو من حلمة القمر
وفي الأرض اليابسة
حيث تهذي المرايا تحت التراب
نرفع على عصا معطفاً وقبعة بحّار
فيسلك الملك في طوّافته على الساحل
وحين يرى شبيهه يتجوّل في الساعة ذاتها
بين وزرائه ومماليكه
يمشي البحر بينهما ويمضي
في الساعة ذاتها، في الساعة ذاتها
نتكلم أمام الكأس
بفم صغير
بفم ناقص
أحشاء قصيدة هالكة هي كل ما تبقى
بعدما رفعوا عاج اللغة
وعظامها
إلى القلاع
أرمي قبضة من دخان فينتشرون
ويقتربون
أخفّهم من شمع
يترنح تحت الشمس ويغمى عليه ثلاثاً
يتعثّر وينهض لكنه يتابع
حتى يصل في حجم الدبوس
الثاني من مطاط بقدمين خشبيتين
يعرّش من على أكتاف الآخرين
يتقدم وحين لا يجد من يستقبله
يتطوّى تحت النافذة
كان علينا أن ننتظر الذين يفدون
من جزائر بعيدة
والذين يبقون حتى المساء ليقفلوا الصندوق
أو يتأخرون حتى انصراف آخر الزوار
وهناك من لا يأتون،
لأهم يحكمون في الليل
لكن الساحة تغصّ
وحين لا أجد مكاناً لقصيدتي
أرتجل عذراً وأمضي
ذات صباح
سقط ملك الصيني قطعتين إلى الأرض
لم تعد الحنفية تحدّث نفسها حين تجري
أن الصيني هو السلطة
وكانت تشكّ في أن الماء يخرج منها محطّماً
أما المجلى فرغم أنه لا يذكر
لم يعد يسمع ذلك المديح من الأعلى
وكان يظن أن النوافذ التي تطل
تأتي من غرف مجاورة.
صيد الأمثال
إلى بسام حجار
وزع القائد خمسين جندياً
على خمسين نقطة
وقبل أن ينتهي
أفلتت واحدة من يده
شرب القائد
وكلما رفع الكأس
رأى ثقباً تحته
وأحسّ بنقطة تنطفىء في ناحية ما
من رأسه
أخذ يصوّب على زجاجات
وبعد كل إصابة
يجد فتحة خلف كرسيه
ويخسر نقطة جديدة
بدأ يمشي في الفتحات
على أكتاف الذين يقفون فيها
وعندما انتهى
إمّحت الخطى
ولم يظهر أي رأس
بعد ذلك استدعى عشرين جندياً
فأخذوا يشعلون الزوايا الأربع
في رقعة النوم
أضاءت عشرون نقطة
ثم تصدّع البلور
وبدأ النوم ينطفىء
والرماد يغطي الرقعة
كان يمشي ثانية
والكؤوس
في جيوبه وبين ذراعيه
كان يمشي على أرض ملساء
طريق من الفحم
والثقوب تظلّله
يتقدم وعلى صدره لوحة بخمسين نقطة
مهشمة
فوق كومة من الزجاجات
فيما النوم مسجّى أمامه
كان يقف على رأسه
كخيال شمعة
وقبل أن يصل الرماد إلى فمه
سألت عليه لغات عديدة
وانطبق كالمصيدة
والكلام يطمره
كان يمشي بعينيه
وحيث يدبّ بصره
يحز في الرقعة
وأخيراً أخذ يغفو
ما دامت السماء تحدّق دون انقطاع
والنوم يدخن حواليه
يدخل ثانية
حيث كان ظله يتمدد
بين قصاصات
والهياكل تنام
حيث كانت الجوقة المبتعدة
تسرق أصوات الموتى
والسماء القريبة
تسرق عيونهم
الظلمة وحدها كانت تحفظهم
في النسيان
وفي سر النوم
حيث فقط كان يتنفس
يتنفس
على اليابسة
كان ينسى أين وزعهم
الرسل الخمسون
الكتبة
الذين طالت لحاهم وجفّوا
لكنهم كانوا يصلون من أماكن مجهولة
في حقائب ملوثة بشحم القطارات
ورائحة الإنفاق
مفاتيح سوداء وأقفالاً مغلقة
كانوا يعودون كالنساك
على صورة عصي منحوتة
وشموع
وكالعادة
القمصان كانت تتشرّب الجذع الذابل
والعصا تتشرّب الخطوات
أما الفم فكان يتكلم أمام الهواء
الذي يفرّق كل شيء
والعيون كانت تعود إلى النوم
العميان الذين نسوا أصابعهم
على الصفحات
والذين كانت الهالات تسقط عن وجوههم
وهم على الأبواب
إنهم يفقدون من تبغهم
ولحاهم وفقراتهم
كلما ساروا
والطرق تأكل من ظلالهم أيضاً
الجلد يفتّ
والشفاه ترقّ من الكلام الذي يبريها
كلما مرّ
الأخوة الذين خسروا صوتهم
في اصطياد الأمثال
المرقومة على الأكتاف والعظام
حيث كانت اللغة لا تزال
في بيت الناسك
معلقة من أوتادها الكبيرة
والدرر الساقطة من ركب الحجاج
التي كسرها اللصوص
مدفونة في المرتفعات
مع الرفات البالي للمهاجرين
وناحتي الألفاظ الأوائل
حيث كانت اللغة لا تزال على ألواح
كانوا يتعبون في اصطياد الأمثال
وبالمكيال الفقير يزنونها
كأنهم يفكون الكلمات المجلّدة
عن أفواه الموتى
الكلمات التي تنقّط على وجوههم
بذلك البخور والزيت
اللذين حفظاها
والوجه الذي كان يتجلل
بذلك الذهب القديم
كان يتموه
ويتنمنم كصفحة من مخطوط
أو يرتفع على هيئة مفتاح ذهبي
تاركاً
حيث يعبر نائماً
خيال عكاز ملتو
ككلمة متكلّسة في فمه
بينما هم يعودون
القبعات متروكة أمام الفتحات
العصي مركوزة في الحفر
الوديعة ملفوفة بالساتان
الطريق تتشرب الخطوات
وها بدون ذكرى
"العميان الصغار على الرف
يتساندون في قافلة من خمسين رجلاً
تتبع كأساً معلقة"
الأيام تتجمع في جرن العين
الذي ربما كان بيتاً لسؤال
لكن من يرد
الفم يتكلم أمام المصباح
والكلام يعود
كالحجر الذي يرتدّ إلى مقلاعه
القائد ثانية على كَوْم الزجاجات
حين يرفع قدمه على الأولى
يتحطم فجأة رأس
يظهر وينطفىء في كسور الزجاج
حين يصعد على الثانية
يتنهّد صوت
على الثالثة
نفس يحبو
على الأخريات
يسحب حفيف
وحين يقف
يكون النوم برمته قد احترق
وعلى قطار الخمسين
كان النوم يأخذه ويعيده
كهزة السرير
والرماد يصل إلى عينيه
العريف يسافر
إلى محمد العبد الله
ثياب العريف
الفراش المطوي
والسرير الخالي
من أيّام
لم يدخل كأس الشاي بعد
النهار يكركع في القفل
أو يمتد كلسان المطواة
وسينبش بعد قليل الرجال المضطجعين
في صناديقهم العميقة
الحذاء والسترة يتململان تحت الطاولة
تحت الطاولة
وبعد قليل
الشمس والبحر سيتمدّدان قربهما
ولن يقع
سوى زرّ فضي.
الساعة والبوصلة والدليل
في الجيب
وهي جميعها تتكّ وتؤشّر
تتكّ وتؤشّر
كأنها تتكلم في أحلام قطار ليلي
والشمس تبتدىء
نرى الأزرار تمتقع
هناك فقط طرق كثيرة
وربما شموس
في شباك العنكبوت
حث لا تستطيع البوصلة
أن ترى
هناك أيضاً
كورنيش طويل
لحشرة مسرعة
المفاتيح نائمة في الجوارير
والمكنسة
وهي وحدها في المحطة
تنام على الحائط
القبعة على عمود الثياب
تشير أيضاً إلى اليابسة
رغم ذلك، وفي كل مكان
كانت الأقدام
تفترق على الأرض الخشبية
والبيت يتقوّس
بمدخنة مائلة
وحبال
ورز كثير بين الشقوق
كباخرة
فنجان القهوة لم يصل بعد
والصباح كفوطة الخادم
على مقبض النافذة
1980
***
الساعات
I
هل كانت الثواني ترن
والساعة تطرق كإزميل
هل كانت ثوانيك تجرّ هذا الجسد العائم
من خيوطه الرفيعة
هذه المرساة الخشنة
التي ترسب في النوم
عندما يكون ثقيلاً بموته
عندما يشطّ بعيداً عن قبعته
ومواعيده
وعندما يبقى على الأرض فضلة من النهار
وجانب من الحديقة
عندما يكون ثقيلاً بمعدنه
كمطرقة في رأس الدهليز
هل كانت الساعة طويلة
حتى أنهم أخرجوا هذا العدد من الألواح
هل كانت الساعة طويلة
حتى يواكبها آلاف السعاة
هل كانت طويلة
حتى بقيت كالجثة
تحت السهام الماطرة
هل كانوا يطحنون جبال الوقت
ويذرّونها بعيداً
هل كانت الرحى تدور في الماء
وهم يتعثّرون
هل كانوا يستقبلوننا بدون رؤوس
وعلى أيديهم وردة
طويلة هي الساعة
طويلة هي السلالم
حين تعثر الخطوة بالخطوة
حبل من الخدم
يرفعون قلانسهم واحداً تلو الآخر
مع كل دقة.
من ينقلني من ساعة إلى أخرى
حين تميل نحو الثالثة
يجري في جلدي الوقت
وتسقط على الفك الأخضر والجرة
البذور. الأمطار
تفترق وتجتمع كالحقائب
العثرات والخطى
II
جلدي يتنفّس من الليل
ويتذكر
كما تفكر المائدة ببيت الخشب
والحصاة بحضن الصخرة
كنا نتقاسم الهواء عند منتصف قبلة
والهواء يجري بيننا دافئاً كالشاي
كنا نتقاسم قبلة كرغيف مكسور
لا يزال يفتّ في الليل
وحين ابتعدتِ
خرج بعض الظلام وبعض الفضاء
وبقي في حضني
كسرة من الليل
من يفكني غرزة غرزة
حين انقطع واتصل مئة مرة
كأن يدك لا تزال تمشي في شعري
هل أقع كحصاة من جرة
هل أنتظر أن أنتقل إلى الرابعة
أم أن هسهسة أفواه محطمة كالقرب
ومياه تنزّ
وجسد مائل الرأس كالدفة
يخوّض كالقارب
هل انتظر أن نجد الخاتم في التفاحة
أم أن ينبض لب الخشب
هل أنتظر أن تميل إلى الخامسة
كما يميل الرأس إلى الوسادة
حين أشعر بيدي تبكي
وأزهاري تعوم بعيداً
III
أنام منحنياً كشجرة
كمساء عطلة
أنام كمكتب في طرف العالم
كساعة ما زالت في البارحة
أصل وعلى كتفي
سلة الطرق
وصندوق العثرات
ينسونني في ذلك اليوم
الذي تحطمت فيه سبع ممالك
وزالت عشرة عروش
لذا أبقى كباب دير شرقي
أرى وجهي محطماً كل يوم
في كسور الكأس
وكسور الساعة
IV
ينسونني في ذلك اليوم
حيث لم تعد تمر العربات
اليوم الذي انزوى خلف السور
كورقة، هرّت من كتاب
أسير تحت القناطر الزجاجية
وعلى الزجاج
والمرايا تذيعني في كل اتجاه
لذا احفر تحت النهار والليل
وأفكر أن أحطم تلك الثريا العظيمة
ليقع الزجاج كله
واخرج إلى أول الغابة
أو أقع على فم امرأة
V
كنت أقابل على الشباك
شخصاً غيري
وكان ظلك يسحب بيننا
ويقسمنا
إلى نهار وليل
على السرير
كنت أرسب في النوم
وأرتجُّ كمرساة
بعيداً كانت القبل تتنفس كقواقع
والشاطىء يتنفس من خلال الرمل
والسرير يتنفس أيضاً ببطء
والساعة تميل إلى الماء
الأربعون
إلى وضاح شرارة
الأربعون العالقة بين وعور العمر
كالبيضة الغريبة
التي نعثر عليها مكسورة
قبل أن تصل إليها يد
من الآن نحن مشاة العمر
حين يبدأ نهار الحراثة
إننا نبدّل حذاءً بآخر
وفأساً بغيره
نقطب كالحجارة
ونصرّ كالصخور المفلوعة
أو نتذكر
كدبيب الرمل
تاركين الكلام الذي لم يعد لنا
يغمغم
في النواعير والثقوب
من الآن مشاة العمر
حين تبتدىء خدمة الليل
الوقت ينتقل
ببطء أحذيتنا
الوقت يسعفنا
لنلتقط أنفاسنا وكلماتنا
كما يمهل المرضى
ليقفوا على أقدامهم
وها نحن نغذّ
والأسابيع الطويلة
تلهث خلفنا
في هذا النهار المتّسخ
الذي يخلع الغيوم العكرة
والشوارع الطويلة كالجوارب
حين ينهض من تراب الطريق
أشخاص يحدثوننا
أو نقاسم أخلاطاً
من الخدم والسوقة
ذلك الماضي
الذي لطول ما اقتسمناه
بات يباباً
تنوص المرايا
إنها ليست بعد اليوم
سوى أحجار رطبة
وما نراه فيها
ليس سوى دخاننا
إنها تحدّق فينا
بذلك البصيص الباقي
قبل أن تقفل نهائياً
إلى سهو المعدن وثقله
ونحن نعبر من خيالها
بعيدين دائماً
صغاراً ومسرعين
كأنوار الخدم
إننا نخوض في الهواء الثقيل
بالغبار والأيام
والضوء الجاف
آملين أن الأشياء - ونحن نقترب-
تتحدث في غطيطها عنا
الكرسي الأعرج والساعة العجوز
والمطبخ يقلع بهما بلا انقطاع
إننا نشرب الشاي والعصير
حول البيانو
تاركين المدخنة والستائر
تمر من أمامنا
موجسين أن روح الغرفة
هي أيضاً تغادر
حين تكون مداخل الأحذية مفتوحة
يتسرب ليل ضحل
ما يكفي لنبعد إلى المؤخرة
واقفين بين الستائر
شاخصين إلى مجرات الشرشخون
والبزاق الحليبي
والصراصير التي تَوِجّ
على سترة الليل
مع ذلك فنحن حين ندخل
نجدها ساهرة في انتظارنا
الكراسي المصبَّرة
الحائط المصبّر
المعطف مسجّى على عربه
وأزراره
تئن وتلمع
كالزيزان المحبوسة
الفضيات تغصّ
بلمعانها
"ليس ما يقطع السهرة...."
في جيب المريول
ما كان من أول العمر
يوشك أن يفلت
مع ذلك فإن القمصان تمتقع
حين نطل على الخزائن
حيث الظلمة تنم
عن أن روح السهرة
فقعت من زمن
مع ذلك فنحن ندخل كضيوف
ونحيي، وبمجرد أن نجلس
تبطىء الساعة
وتتأملنا الأبواب بالصرير
وبمجرد أن نجلس
يبدأ الصباح الصعب
وتتعب الأشياء
وعبثاً نطل من البراويز المعلقة
لندعوها كي تلتم حولنا
مثل عائلة
وتتلو الحكايا التي لم نتابعها
إلا كجمل منفصلة
..............
..............
لأن الأربعين قزم العمر
سنسمي وسيبادر إلينا
فقط الحثالة التي خالطناها
سعاة أحلامنا الليليون
وسنجرّ الكرسي إلى الخلف
إلى الخلف
لنظهر أخيراً أمام المدفأة
على الكرسي ذاته
الذي ولدنا عليه
1980
***
الانتظار
الانتظار
الخطوات التي تلف من عشر طرقات
وعشرة أمكنة
النوافذ التي تهرَّب دائماً إلى الصالات والمرايا اللصوص/الأقزام الذين يجدّون في صنع الوقت، في بعثرة هيئاتنا، ولخبطة الأشعة والألوان والأصوات على الكراسي والطاولة والمنافض والأثواب، المأهولة فقط بغيابها، وبتداول هذا الغياب كسمكة خفية تنتقل بين الجيوب والأيدي، وتدور خلسة بين الأشياء شبيهة بالنظر إلى الساعة، وبسماع العقرب يدق في أصداغنا.
الانتظار
عشرات الجدران التي تتثاءب في وقوفها
حاشرة المماشي النحيلة
الانتظار
الشراب ساكت في الكأس، الوردة بلهاء على غصنها الطويل، الأزرق يابس في البدلة، الغبار متلاش في الفضاء، والظل ذاته نائم على الطاولة وتحت الستائر يلحس الأشياء.
الانتظار
عشرات الساعات على عشرات الجدران تتثاءب وتثرثر من كل الجهات، قطعة نقد معدنية تخرج من جيب إلى جيب، الفضاء يخلو من الغيوم والأنوار أكثر فأكثر، الخشب والمعدن يخرجان أضلاعهما الحادة والناقصة، هذيان الساعات يجعل الباب نائياً، ورأس الدرج الثقيل وهو يتنصّت والهواء الذي تطرده شوارع وأروقة ودهاليز خالية.
الانتظار
الباعة يستيقظون فجأة، والكلام من داخل شجرة أو رصيف، أو حتى من داخل جورب، الجدران تتمطى خلسة وتظهر عليها عناوين قديمة، حين يختفي فجأة من البال عود المرأة النحيل وشفتاها، يصبح الانتظار شاملاً كليل أسود بكامله. حين تعود الأشياء حزماً إلى سابق كلامها. المكان مليء بالآلات، والرجل في مقعده كتلفون معطل. ميكانيكيون صغار يعملون بصمت ونشاط لا يرحم. بعثرة. الكلام الذي يقع كثير، القشور التي تسقط ملونة. فقط حفيف ثوب امرأة وأزهار تنورة تلمع وتختفي.
المرأة المغطاة بكل الناس. الموعد المغطى بكل الأوقات.
نظام الانتظار. الجندي المعطل
الجرس لحديدي. الحبيبة. نقطة في الفوضى والخوف.
1980
***
"القطار المعاكس"
هكذا كنت أسير بين النيام
متوخياً أن تحملني أنفاسهم بعيداً
متأكداً أنني سأصل
لمجرد أن يخلوني من أفكارهم
كان علي أن أتراجع في ذكرى
وأن أتقدم في منام
وفي نَفَس امرأة
مكثت أشهراً طويلة
وما أن رفعته عني
حتى سقطت على الإسفلت
بين روائح اليانسون
والعامة.
هل يمكن لرجل أن يدعي
أنه نام تحت شعرة
طيلة طفولته
وأن العالم لم يكن أسود وطويلاً
إلا في الشباب؟
الرجال الذي باتوا أوعية ونجوماً
واسطبلات
يخلطونني بين الأحياء والموتى
الذين يتبادلونني كل يوم
وفي الليل يختلطون كالزواريب
ويتقاطعون كالسكك
وحين أخذت القطار المعاكس
سمعت أشخاصاً لا أراهم
يجرّون أعلامهم على الثلوج
وكنت ألاحظ السائق الخفي
يوجهني
إلى النوم
في اللحظة التي يعزقون فيها البرد
بالرفوش العالية
لم يكن هناك أقسى
من الرفوف
التي تقاوم الهواء
والأشجار التي تمشي مستقيمة
لم يكن هناك أقسى
من الذكرى
التي يحملها هواء!
غفل
1981
***
جامع العلب
كان ينقر بعصاه على الأبواب والجدران
والحجر أحياناً يلمع
وربما يخبىء في لبه
شمعة مضاءة
أين تقطن الأصوات التي تفور
كالحشرات
وتتراكض في كل اتجاه
حين تظلم؟"
كان يقضي الليل في نقل الصناديق
بينما يسند إلى الزاوية نصباً من العلب
ثم يمدد صناديقه وينام بينها
وعندما تتراجع مخيلته
ويقفر سوى أعداد قليلة
"كان صوت الملقن لا يزال يوشوش"
والرقم الذي أحصي في غير مكان
يتصدّع وتظهر كسوره الكبيرة.
1978
.. يتبع