من مجموعة

"دار الآداب" 2005

لا أحد في بيت السيكلوب

­ 1 ­

لا أحد في بيت السيكلوب. حين علمت بانتحار زاد خطر لي أنّ أمثاله يتحوّلون إلى سيكلوبات، إذ العين الوحيدة وسط الرأس هي مثلّث المنتحرين. قرن الكركدن الوحيد شعار موته، لا ضوء، ليس في عين السيكلوب سوى أمر، فكرة غير مرتدّة إلى الأمام حتّى الانفجار.
إنّها الأشكال التي يصنعها من جسده. شكل الفم، شكل البوق، شكل العين نفسها. نفس الأشكال التي يتمّ تحنيطها لترافق الميت، الفم الذي سقاه، النهد الذي أطعمه، اللسان الذي بلّله ثمّ هناك شكل التابوت - القارب، شكل العين الذي يسافر إلى ما بعد المعنى.

­ 2 ­

قفل الباب مكسور. أبواب الموتى مخلّعة دائماً مع أنّ أحداً لا يقاوم. خزائنهم مفرغة بعنف رغم أن الصراع لم يدم طويلاً على السجّادة الحمراء. الجوارير مقلوبة على الطاولة الكبيرة التي طُردت مع أثاث كثير إلى هنا. صور وأسطوانات وكاسيتات وسوتيان أبرش لكثرة ما سُلق في الماء المغلي. ذلك هو الحطام الكامل لآخر نظرة لكن بالطريقة نفسها يمكن ملاحظة الرفّاص العاري والأرض ذات البلاطات غير المنتظمة. لا نعرف من أخرج الملابس عنوة وانتزع الفراش وقلب الأشياء على المائدة. غرف الموتى تتعرّض عادة لاعتداء وتحطيم جزئي. تُنبذ وتُهجر كما لو كانت موبوءة بالموت. الجثّة نفسها أُبعدت بقسوة قبل أن يعود الوعي إلى الحجرة، وقبل أن تغدو البقعة أثراً نظاميّاً. ثمّ هناك الغضب من الاختصار الشديد للنهايات بلا احترام لحقّ الكلمة الأخيرة. الغضب من انسحاب الجناة على خطّ مستقيم.

­ 3 ­

ماذا يفعل السوتيان في حجرة السيكلوب. أكان عليه أن يكون طعاماً للميت. أن يكون إبريقه في دار الموتى. أن يبقى على المائدة بين عصافير من عيدان وفاكهة متحجّرة وأن يتحجّر هو أيضاً.
ماذا يفعل السوتيان العائد بين أوراق اللعب والصور والخيطان في الدُّرج. ماذا فعل تحت اليد الكبيرة الشَّعْراء والشفتين المتضخّمتين. هل عاد النهد دمية أم أنّ فكرته الدافئة للغاية والطريّة قد قُتلت فجأة. أكان يمكن أن ننزع عن الأيدي الجلد الميت أو نقصّ الأجزاء اليابسة من الروح.

­ 4 ­

الدُّرج وحده على الألواح المسرعة والطاولة الصلعاء مليئاً بالحاجيّات الصغيرة، غير قادر على أن يتوازن مع الأخشاب. إنّه القارب العائد من الأبديّة محمّلاً بالدمى المرفوضة. الأخشاب تواصل تقليد الأمواج وربّما أمكن بجارور مقلوب وبضعة طيور على الأرض تقليد العاصفة.
لا ندري مع ذلك من انتزع الستائر وكشف الحجرة وجعلها صلعاء فارغة. أهو تمثيل العار أم أنّها محاولة أخرى لتقليد القيامة.
حطّموا الباب وما من أثر لعنف آخر، لكنّك لا تستطيع أن تقف كثيراً في عين السيكلوب.
الحجرة تعيد تكييف نفسها بالطبع لكنّها تبقى مفتوحة بلا أجفان.
لن يجرؤ أحد قبل وقت طويل على أن يحمل طعامه إلى هنا. مع ذلك يدخّنون كثيراً ولا يفعلون شيئاً. إنّهم يفقدون فكرتهم الآن حيث يسود شيء أشبه بتوقّف الموسيقى. نغمة صمّاء واحدة، سريعة ودائمة. ولا يرفعون أثراً عن الأرض. سيكون ذلك أو (كان) كعين تجمد فجأة ولا يسعنا أن نجعل من قضيب الستارة وقاطعة الأوراق والكاسيتات المبعثرة أنقاض حياة.

­ 5 ­

متحجّرات هذه اللّحظة غير كافية لكنّهم يصيحون فقط. ليست الخيانة هي التي تتكلّم بل المذلّة التي تتسوّل بأعلى صوت.
اللاّشيء التام يدوّي، من دون أن يُسمع، في صبّات الرؤوس المنحنية. فيما الرّيح الخفيّة تعذِّب الصور التي وُلدت في الخريف، وها هي كأوراق الشجر تتساقط جميلة وناعمة.

­ 6 ­

إنّه الحطب يملأ أيضاً الحجرات. القشّ الذي نبت على السوتيان. القشّ الذي نبت على الملابس والبطاقات. ليكن فصلاً لطيفاً ذلك الذي نما على الحجارة والحيطان، لكن فكرته الأقسى في عقدة الخشب. لتكن فكرة أيضاً تلك الرصاصة التي كمنت كالنواة في عظم الجمجمة، حيّة ومتوتّرة كلّ الوقت، ليكن فصلاً بلا أذى. الصمت الكبير يهزأ غالباً من نفسه ومن النواة الجوفاء التي لا يستطيع أن يلفظها. إذ ينبغي أن نعثر على الصمت في الصمت، على فراغة الرصاصة في الجمجمة الثقيلة، وعلى الدودة في عقدة الخشب. دون أن نجد في الأمر مجرّد نكتة أو أحجية.

­ 7 ­

ما أرهق "ن" هو صمت الغرفة. لحظة الانتحار لا تزال حقّاً هنا. لم تبعد كثيراً لكنّها بلا صوت. لم تزل هنا رغم التحطيم الذي عاد به الواقع إلى الحجرة. بحثتْ بالفعل لتلتقط الفكرة الأخيرة التي خرجتْ مع الرصاصة، الفكرة القاتلة. إنّها ذائبة هنا وقد تتجمّد في شكل بصمة، أو تستمرّ حيّة كيروس. كان لا بدّ من حصر ذلك كلّه ومباشرة تحليل لذكريات ربع الساعة الأخير، بحثاً عن نواة ما في تلك الفوضى. إذ يمكن أن نعثر على رأس للاشيء، أو نبش شيء صريح وقاطع من تلك البلاهة الصامتة.

­ 8 ­

لا نقف طويلاً في عين السيكلوب، للوقت احترامه في حجرة الانتحار، حيث لا يُسمح بروايات الرعب.

­ 9 ­

مثل قطع جديلة في الظلام، لا يَرى الواحد في كفّه جرحاً. مثل إغلاق جرح برصاصة، مثل خليّة معمّقة لا يُسمح لشُرط بأن يتزايد ولا لوسواس بأن ينمو. لا يُسمح بالتكاثر ولا العدوى في حجرة الانتحار.

­ 10 ­

خلاصات متبلّرة بيضاء. التجربة تزول بقعاً مع السرطانات والدموع، الحياة تزول بقعاً وتعود ورقة للشفاء.
خلاصات زرقاء، إذ الفجر ملح والأثير أيضاً مادّة، يمكن أن نجد بقايا فضِّيَّة للطاعون. دنانير منبوشة من المقبرة.
لا نتكلّم عن الأنابيب الطويلة لكن عن أنابيق التنهّدات التي تنقّط من لحظات حيّة يمكن عزلها. يمكن أن نتحدّث عن الحياة كعمليّة تقطير طويلة. عن المداواة بالحياة.
في حجرة الانتحار.

­ 11 ­

قناني كثيرة حيث الجنون يُحفظ كملح والغضب والغيرة يجفّفان.
طاولات كثيرة حيث تُعزل الأفكار وخلاصات الندم والصفراء.
لقاحات تُستخلص من الكآبات الفظيعة إذا أمكن مصل الأرق وفصد المخيّلة.
إذا أمكن حقن الواقع بالأكسير نفسه، وحفظ الرصاصة الشافية من العدوى.
أو نبش رصاصات أخرى من التجربة ومن الجراح التي تختفي مع قليل من النيون.

­ 12 ­

لا نقف طويلاً في عين السيكلوب، ولا نعرف كيف نُخرج صوتاً من قرن الكركدن الوحيد. ولم يكن أضلاعاً بشريّة ولا غناء بشريّاً هذا الذي سمعناه وليس بالطبع لغة الشيطان، لكنّه كان فوق طاقة البشر ذلك الصوت الذي نطق كلمة الحبّ وفوق البشر تلك اليد التي رفعت العذاب قبل أن يختنق في العواء.

­ 13 ­

إنّه تمشيط للذاكرة، لكنّه أيضاً يورانيوم الحياة.
إذ العدم نفسه ينضمّ إلى هذه المادّة العدوّة.
ولا تخيفنا إعادة الحياة إلى المختبر ولا البدء من السرطان أو من الرصاصة التي هي الآن خلاصة حيّة، أو هي خليّتنا المعقّمة النظيفة الجاهزة للابتداء.

­ 14 ­

لا نفعل شيئاً بالاعتراف أو التذكّر، المواء الطويل أو النعاس قرب النافذة، ولا نوقف القطار بخبطة أو أنين.
إذا كنّا لا نسافر مع السعادة في العربة نفسها فمن العبث أن نشتري مجدّداً قمامتنا الخاصّة
الحياة بائع صعب، ومن الأفضل أن لا ننتظر.
لِنلعبْ على شيء، على ليتر الدم الذي لن يبقى لنا.
لِنلعبْ فهكذا نلقي الحظّ من النافذة قبل أن يغدو رقمنا الأسود.
مواء طويل فيما الكبد يعمل كجندي والحياة تعود بلا رائحة.

­ 15 ­

لا نقف طويلاً في عين السيكلوب، للوقت احترامه هنا.

­ 16 ­

ماذا جرى لنشعر بأنّ اليود (لا شيء ينمو تحت المطهّرات) مسح كلّ ذكرى خلفنا، ونحن نشيخ في غرفة الجراحة متساوين مع حدّ الطاولة إذ الألم يتحوّل إلى شكل صاف والرّعب إلى مجرد خطّ.
مسح اليود كلّ ذكرى خلفنا. ولا شيء يشبه الأعين والأيدي ولا حتّى شعيرات الرئة في تلك الغابة التي لم تستطع النوم فيها من ضجّة قلبكَ.
لنقل إنّها أجساد هيروغليفيّة وتواقيع حياة. أنّكَ لا تصنع مقلاعاً من حبّة عينبك لكنّكَ هكذا تنصب جرحاً.

 

لا حاجةَ لأن تَخدع بالطيران فأنتَ لا تطير حقّاً بل تطيل الحكاية لكي لا تقبض على الطائر. لا تَخدعْ بالرحيل فهذا هو­ 17 ­ تنفسكَ يبعدكَ دائماً عن الشاطىء. لا تشرد فيمتلىء فمك بالماء. لا تُخِفْ قلبكَ، الصمت تقريباً مكانكَ. لا تتحسّس جبينكَ، الخطر في أصابعكَ.

­ 18 ­

لا تتأخّر
لا داعي لأن تنتظر حتّى تغدو التجربة شاهد الخصم، أو تتأمّلها كعمود محطّم
ما من حجارة كافية لنجمعها هكذا ونعيدها كاملة
ما من سبب لتتهم الأعالي
إنّها لا تخيّب إلا من يحلمون بأن يلقوا أنفسهم قطعة واحدة إلى الأسفل، أو يلقون ساعاتهم قبلها.

­ 19 ­

بلا سبب هذه العين المرتدّة.
بلا سبب هذه الحياة الواحدة كالجِلْد الواحد
بلا سبب هذه الأنتَ الواحدة الآخذة بخناق المرء.
أنتَ مع العظم والدم، مع الدمعة الضخمة والنَّفْس التي تنفث وحل الأقدام
أنا وأنت دم الأخوين في الشجرة التي من هواء
أنتَ وأنا في الشجر التي هي سبب قاتل
في الشجرة الضخمة التي لا تعرف سببها، في البلّوطة التي تسكن رأساً ضخماً
أنا وأنت في نظرة الدمية
التوأمان في العجلة والأغنية والخصلة الواحدة الملفوفة على الإصبع الضخم
المأساة بلا عينين لكن ضباب الحماقة أيضاً تحت الميزان

­ 20 ­

عندما علمت بانتحاره فكّرتُ فوراً بضخامته، علامة عطب بالتأكيد للجسد الذي لا يتوقّف عن إنتاج مخدّره. للكبد الذي لا ينام وهو يعمل في إصلاح أنسجته. للجِلْد الذي لا يزال تحت ترميم مستمرّ. أجساد لا تكتمل ولا تخرج نهائيّاً من ورشتها. الجبابرة يُصنعون من نزوات كأطراف صناعيّة، يعيشون تحت المراقبة وسط آلات لا ترحم. ضجّة الأسنان والقلب وتشوّش الرأس الذي لا يرحم ولا يسمح بأن تُسمع بوضوح فكرته القاتلة.

­ 21 ­

"زاد" ضخامته فكرته الوحيدة وهي تدور في رأسه كجُرم ضخم
كلّما لمس نفسه شعر أنّ القدر اقترب منه أكثر ممّا يجب
لقد لبسه بالتأكيد شيء مماثل، شيء غير بشري.
لم يكن إلهاً بالتأكيد لكنّه لا يعلم ماذا رُمي في طريقه أو عليه
لعلّها أجساد بالية لآلهة أو تقليد بشري لآلهة.
لم يكن وحشاً لذا كان يخاف من نفسه ولا ينام لأنّ النوم يجعله يزداد ثقلاً
أحياناً يظنّ أنّ كلّ ذلك وهم وأنّه واقف على كلمة أو شيء صغير لا يُرى.

­ 22 ­

كانت هناك دائماً هذه العشرة سنتيمترات المضافة إليه. عشرة سنتيمترات من الفراغ في قامته. ثمّة لحم من غير أجسامنا، لحم كالطحلب لا نعرف كيف نطرده، لحم في قلوبنا أيضاً.
إنّنا نربّي الفراغ على أجسادنا، إذ لا نعرف ما هو الجسد، هل هو حبّة اليورانيوم، الشوكة المشعّة وما حولها ليس سوى القيء والشيخوخة، الكتلة الليفيّة التي تخنقها دائماً قنوات غليظة تحمل كلّ تلك الأقذار إلى الداخل. هل هو دملة ضخمة أم إسفنجة ملوّثة. كل ذلك الطحين الذي يملأ العظام، الهلام الذي يملأ الرأس، كل ذلك الهواء.
زاد الضخم لا يدري أنّه ليس أثقل من وسواس صغير، فثمّة دائماً ذلك اللّحم، ذلك العدم الذي نربّيه على أجسامنا. ثمّة اللحم الميت على اللحم الحيّ، الفراغ على الطول الحقيقيّ، آخر سنتيمتر موجود كحبّة منوّم، كصفر حقيقي.
السنتيمتر الأخير في النهاية رقم العدم.
ماذا نفعل إذاً. هل نصلُ بشفرة إلى الجسد الحيّ. هل علينا أن نشقّ كلّ هذا اللّيف حول قلوبنا، كل هذا الهلام الذي يغلّفنا، كل هذا التهريج الجسدي والنسيانات والخرف المبكر.
بشفرة واحدة نشقّ إلى القلب الأصلي واللّحم الأصلي.

­ 23 ­

زاد الضخم يرتطم بنفْسِه كمن يرتطم بشجرة لا أوراق ولا أغصان لها. فقط كتلة سوداء في الكعب: العناد.
يرتطم باسمه كمن يرتطم بشفرة ويقول ما من شيء لمسني بهذا القرب.

­ 24 ­

عقاقير للكلام والمعرفة ويمكن نقل الحياة زجاجات في صندوق. ثمّة مراهم كثيرة ينبغي حملها، الحكمة والأعطال الكثيرة والجسد الذي يُحفظ في حَبّة وذلك الداء الوبيل الذي يبقى تحت قرص أبيض. ثمّة ذلك الجسد الذي لا يمكن مداواته والذي يبقى يتيم فكرة لا تُرى، أو يبقى تحت أشعار أصغر من نملة.
دعكَ من الندم الذي يمتلىء به واللّحم الذي يتحوّل إلى خجل، إن لم يغدُ دموعاً. لنقل إنّ الجلد أوسع من الوجود وأنّه كاللّيل مليء بالأعين النادمة. لنقل إنّه العمى الكبير، جِلْد الثور والعين الأكبر منه والتي يترنّح زاد فيها كلّما ارتطم بشجرة أو اسم. حيث خلاصة الشفقة التي تفوح كبخور وربّما ملمس سوتيان خشن أو قبر في اللّغة والفكر.

­ 25 ­

يمكن التخمين بأنّه أغلق الباب والنافذة. رفع الموسيقى لتعلو على صوت الطلقة والرصاصة الوحيدة في المسدس القديم لم تخطىء.
ينبغي مع ذلك إعطاء هامش للسهو الذي لم نجد له أيّ كسر حسابي. فارق جزء من الثانية، لكنّنا لا ندري أين كان الخطأ.

­ 26 ­

الثانية والربع.. الثانية والربع بالضبط.
الساعة تسبق الوقت.. والوقت تحطّم عند الثانية والربع
الحبّ يسبق الجسد لكنّ الجسد توقّف عند الثانية.
لم تكن الساعة واحدة ولا السرعة واحدة في الغرفة المقفلة
زاد أغلق الباب ليحصر الواقع في الداخل
لتكون الشمس واحدة والعالم واحداً في ذات الساعة
أغلق الباب ليظهر عمود الظهر وصليب الخزانة
أفرغ الخزانة وتركها صليباً
أفرغ الحجرة لتبقى صليباً عند الظهر
أفرغ الصور التي احترقت في ضوء الظهر.
قال إنّ علينا أن نرفع وجه مادونا عن الحائط، لا نترك الصور تنزف وحدها.
قال إنّها رصاصة واحدة. إنّها دودة في الرأس ولن تبقى طويلاً في عين الظهر
قال الزوايا لا تزهر. لِنجمعْ الجسد مع الحائط مع قوس السقف في زاوية
لِنُفْرغ الحائط والجسد من الأعشاش والعيون النادمة
قال لِنغسلْ وراءنا جيِّداً ولا نترك كثيراً من الطحالب، كثيراً من الأسرار
لا نترك قطعة حيّة حمراء من الذاكرة خلفنا
قال من الصداع تأتي دائماً أشياء كريهة، من الحبّ تأتي دائماً أشياء كريهة
قال الاسم بلا قوّة. الرصاصة بلا قوّة الآن
قال الواقع والساعة والجسد في عين الظهر.
لا شيء يؤلم في الثانية والربع
لا شيء يؤلم الآن

­ 27 ­

للدقّة نقول إنّ العملية مرتّبة كتيوريم هندسي
أغلق الباب والنافذة ورفع الموسيقى
لكم أحبّ أن يجلس عارياً في ضجيج الموسيقى وكأنّه يتأرجح في عبّ شجرة، ويروح يسمع بوضوح دقّة قلبه ونبض دمه.
لا بدّ من إخراج أشياء كثيرة قبل أن يصلوا: السوتيان الذي تلبّد وانتفش كقطّة ميتة، صندوق الصور. أخرج الخصلة ولفّها على إصبعه الضخم. لم يبق سوى ذكرى المقصّ ولكم أحبّ تحريك المقصّات ورؤية الأشياء تتطاير من طرفيها. لم تُحط الخصلة إصبعه. خشنت مع الوقت. فكّر أنها شاهد الخصم. خطرتْ له فجأة نظرة اللّعبة في عينيها. نظرة اللّعبة قال لكن كل شيء تقرّر ولن يؤخّره شيء. ليس متألماً ولا غاضباً بعد، لو أحسّ بشيء لما فعل. كان تحت أمر، مجرّد إرادة صمّاء. السبب ليس مهمّاً، لا طاقة له على إعادة التفكير به. كان بعيداً. فقط تلك العين الواقفة في رأسه، ليست صاحية لكنّها مفتوحة، فكرة وليست فكرة. رصاصة وحيدة حيّة وحيدة. لا حساب للخطأ هنا.
اختفى الغضب، اختفى القلب الذي غضب، اختفى الرّأس الذي انهمّ. هناك فقط القرار، العين الواقفة في الرّأس، مؤشّر الوقت، الثانية التي توقّفت فجأة في انتظار الوقت. حدث ذلك من زمان فكر. كانت الجثّة أمامه تحت الباب، وكان في ضجّة الموسيقى يتأرجح في عبّ شجرة.

­ 28 ­

ماذا توقّف فجأة. هل كلّمت يده رأسه. ماذا قالت الرصاصة قبل أن يحرّك إصبعه. هل كان ذلك أسرع من أيّ فكرة وأي كلمة أم أنّه لفرط سهولته بدا كفعل آليّ. هل تمّ بقفّازات ثقيلة ذلك التسليم الصامت بين يده ورأسه. أكانت الرصاصة أشبه بمغلّف مغلق والأمر كلّه أشبه بسرقة غير معلنة.

­ 29 ­

اللّحظة نفسها التي انفجر فيها المحوّل وأفلت زمّور السيارة. اللحظة التي كان السمّ فيها يدبر والخلاصات الكثيرة تتآمر بصمت. الحياة ذاتها تناور في القوارير. الطحالب توسوس ولحم القلوب يتثاءب والشوكة العصبيّة تمطّ أرقها في الشمس.
اللحظة نفسها، التي وزّعت السفن وجبال الجليد على سطح العالم ودقّت مئات المرّات بساعات مختلفة، لم تمرّ هنا.
لم يمرّ شيء بين الإصبع والزناد، بين الطلقة والرّأس. لم يُسمع شيء حين انطلقت الرصاصة. انفتح ثقب في الوقت وعين في الجمجمة. الصوت شربته الأرض فوراً. شربه الجسم والرأس والعقاقير وحجارة البيت والخزانة. شربه عمود الظهر. شربه الإصبع الذي ضغط.

­ 30 ­

ليس الكركدن أعمى. إنّه وحيد النظر، عينه وقرنه واحد. يخبط الكركدن بالأشجار لا بالكلمات. عين السيكلوب الفارغة هي أيضاً قلبه.
ماذا يفعل الضخم في الغابة. شجرة واحدة في روحه، بلا أغصان ولا رأس، مقطوعة ككلمة.
الجبال جملة صخريّة كبيرة أو أمر هائل مستمرّ، العمالقة ينشأون كالطبول من قوّة الفراغ المدويّة، كالجليد من جملة الثلج البسيطة، إذ لا يأمرهم أحد بأن يتوقّفوا.
الجبال تُغزى براية صغيرة، العمالقة يُجرّون من أنوفهم وها هو، العالم أطنان حوله والهواء مكعّبات. لكنّه يرطم ويتقدّم. شجرة واحدة في روحه بلا أغصان ولا رأس. حشرة واحدة في روحه بلا أجنحة ولا ظلّ، حشرة مقطوعة ككلمة.
الجليد جملة ثلجيّة هائلة وها هو، الرّيح دوّامات أمامه والماء طوفان، ولا شيء في رأسه سوى صفير خافت يدعوه إلى الأمام. لا شيء في عين الظهر. قليل من القوّة، قليل من الإكسير والجبال ألعاب ضخمة.
العمالقة يتقدّمون على قفزات ونغمة واحدة. قليل من الشجاعة والوقت سنوات أمامهم، وها هو يتقدّم ويرطم. كلمة حيّة يربّيها كحشرة. "نعم" صغيرة في عينيه. "نعم" صغيرة في مثلّث قلبه المفتوح. "نعم" كعقرب الثواني.
العمالقة يمرضون من طنين غير متوقّع، من تحوّلات كلمة مفاجئة، أو سقوط بذور جديدة، من يروس المعاني السريع وها هو يتقدّم ويرطم. أجنحة بلا معنى تجعل الهواء غير قادر على حمله. اسم بلا معنى يقوده إلى حيث العالم بلا حجم.
لو أنّ ذلك لم يكن، لو لم يضع عقرب الثواني. الضخم يتقدّم ويرطم لا شيء سوى خياله، سوى جملته العاطفيّة، سوى حشيشة رأسه.
الكلمة المريضة تبيض في داخله وها هو يتقدّم.. تنقسم عيناه، ينقسم جناحاه. الكلمة المتصدّعة ثقب في إرادته. يتقدّم ولا يستطيع أن يجرجر جثّتها من عينه. الأجنحة الخفيّة تواكبه والكلمة الهائلة التي ابتلعت الجبل ترفرف للاّشيء.

­ 31 ­

حين نطوي الخريطة لا شيء يعيدنا إليها، لا يمكننا أن نمنح حياة ثانية للأسهم والدوائر التي عبرناها بأجسادنا الخياليّة.
الجلد الذي نستعيره من الملحمة ينبغي أن نردّه في اللحظة ذاتها قبل أن يأكله السرطان والشياطين.
كثير على المرء أن يسمع ضجّة قلبه تقتلعه كلّ لحظة من الالم. ضجّة دمه تدفعه كلّ لحظة فيه والإشارات الكاذبة تتزاحم على جلده. أن يَسمَعَ في الوقت ذاته، وقبل أن يترنح، عواء العالم المفقود تحت الجلد.

­ 32 ­

الضخام لا يتكلّمون. الكلام صغير على أصواتهم ولا يتوصّلون إليه لاّ بألم بالغ.
تتعذّب أصواتهم كثيراً قبل أن تنطبع ألفاظاً. ذلك أشبه بقصّ عاصفة أو خنقها لاستخراج تلك الكائنات النمليّة الدقيقة التي تدعى كلمات والتي مع ذلك يهرب الرعد نفسه منها. إذ علينا أن نفكّر كم ريحاً وكم برقاً صفّينا للحصول عليها، تلك الحشرات الصغيرة الملتوية. كم طنّاً من الضحك والعواء والصخب، بل كم طنّاً من الصمت أتلفنا.
أحرقنا غابات كاملة لنحصل على مصغّرات لا تحيا ولا تموت ويمكن أن تكون طحين اللاّشيء، وعلينا الآن أن نعذّب الأذن والهواء لالتقاطها.
يهرب الضخم من الكلام. تهرب حتّى الصاعقة التي تعرف أن الأمر يبدأ باصطيادها. تهرب الأشجار التي تعلم أنّ في الإمكان بيعها وربّما قتلها لاستخلاص ذرّات لا تفنى و تتحطّم ولا توجد حتّى كأشباح.
يكره الضخم الكتب ولا يعلم لماذا تبقى مطبقة عدائيّة، لو لم تكن تتغذّى من الدم والنخاع. لو لم تكن صكوكاً أبديّة، منازل للأرواح والموتى، والذين لا يعودون يذهبون إليها.
يفضّل زاد أن يصغي إلى زفيره كما يصغي إلى صوت ساعة يد ويسمع نبضه ينطبع كلّ لحظة في الأوكسيجين الحيّ. أن يلعب مع قلبه لعبة الطلقة الخطأ ويتجاوز كلّ مرّة عن دقّة ناقصة.
كان يعبد الفراغات التي بين ضربات البيانو. الميتات التي بين ضربات البيانو ويشعر أن الموسيقى تسكن فيها.
الموسيقى الخطرة يمكن صنعها بأيّ شيء. بلمسة إصبعه الضخم. بخبطة قدم، أو بالنقر على فقرات الظهر والقفص الصدري. كانت رئته بالتأكيد بل دورته الدمويّة، بل جسده كلّه آلة موسيقيّة ضخمة.
الموسيقى تصعد من جلده. والفراغات لم تعد تخيفه حين يضيع فيها أو لا يجد أيّ ذاكرة عنها. أنت تسمع بالتأكيد الصمت أو الفراغات بين حبّات المطر، لكنّك تسمعها أكثر بين قلبك وقلب ضجيعك، بين نَفَسك ونَفَس كلبك.
الخفقان ذاته يعود موسيقى من حيث يتقطّع ومن سكتة قلوبنا خشية أن ينقطع. إنّه أيضاً الصعود من التذكّر الشاقّ. من الرغبة المؤلمة التي تجد نَفْسك وحدك فيها. من الصمت الذي تفقد أثره وتحدس أنّه يتجمّع قربك كالليل. من اللحظة الصفر التي لا تجد ذاكرة ولا جسداً للخروج منها.
الموسيقى لا تحتاج إلى من يسمعها وتختفي قبل نفكّر فيها. لم يفهم زاد لماذا تصدر الآلات الضخمة أنغاماً رقيقة. لماذا للموسيقى العالية، مثله تماماً، جسد لا يستطيع أن يعتدي. كان يرفع موسيقاه إلى أعلى عالماً أنه لن يتحطّم شيء في أيّ مكان. الصمت نفسه سيعود، بعد قليل، معافى نقيّاً كالأوكسيجين.
يملأ زاد حجرته بالموسيقى، يملأ حوضه بالماء ويتأكّد كلّ لحظة من أنه لم يمتلىء. لم يكن يسمع دائماً، الذين يعرفون الموسيقى بآذانهم يبدّدون معظمها. كان يريدها فقط أن تمكث لكنّها تغادر، الصاخبة أسرع من الهادئة. لا يمكن أن نختنق بالموسيقى. الصعوبة فقط في أن نمرّ بين ضربات البيانو. سيكون مستعدّاً لذلك ذات يوم، حتى الرصاصة لم يسمعها، دفعه اللّحن بعيداً عن الحافّة وعنها.

.. يتبع