"ليدين من حَجرَ وزعترْ
هذا النشيد..لأَحمد المنسيِّ بين فراشتين
مَضَت الغيومُ وشردَّتني
ورمتْ معاطفها الجبالُ وخبأتني
.. نازلاً من نحلة الجرح القديم الى تفاصيل

البلاد وكانتُ السنةُ انفصال البحر عن مدن
الرماد وكنت وحدي
ثم وحدي...
آه يا وحدي! وأَحمد
كان اغترابَ البحر بين رصاصتين
مُخيَّما ينمو، ويُنجب زعتراً ومقاتلين

وساعداً يشتدُّ في النسيان
ذاكرةً تجيء من القطارات التي تمضي
وأرصفةً بلا مستقبلين وياسمين
كان اكتشاف الذات في العربات
أو في المشهد البحري
في ليل الزنازين الشقيقة

في العلاقات السريعة
والسؤال عن الحقيقة
في كُل شيء كان أَحمدُ يلتقي بنقيضهِ
عشرين عاماً كان يسألْ

عشرين عاماً كان يرحلْ
عشرين عاماً لم تلده أمه الا دقائق في
اناء الموز
وانسَحَبَتْ
يريد هوّية فيصاب بالبركانِ
سافرتِ الغيومُ وشرَّدتني

وَرَمَتْ معاطفها الجبالُ وخبَّأتني" (من "أحمد الزعتر"، محمود درويش).
ولكن كيف تستطيع حتى الجبال ان تخبئك يا محمود درويش؟.
كيف ولا مجال.  لا مجال في هذا المحال.   
 لا مجال سوى أن يكون الرأس بأقصى ما يمكن من الشموخ أمام السكين الحادة، أو السَّكَيْنة الصدئة، أو السكِّينة المطمئنة، أو السكِّينة القلقة.. السكِّينة التي يوغل نصلها في دم الغيلة، وفي بريق بعيد. 
  لو تحرينا الدِّقة، فيما يخص تاريخ النصل، لبحثنا عن الفراشة؛ لكن الفراشة طارت بعيداً قبل أن يبدأ التفكير في اللون، وفي رشاقة الأجنحة الضعيفة، وفي جبروتها.
 ومع ذلك  فإن الأمر ليس حدوداً بلاغيَّة انه لم يعد هناك فارق كبير بين القتل والقتل، بين الرحمة والسماء، بين النهر والنهار والطحالب، بين الصدأ وماء الشيمة أو المشيمة، بين ماء الوجه والوجه نفسه، بين الأخ، والفخِّ، والشَّرف، والمنفضة.
 حتى عظام الأنبياء لم تعد ترتعش حين تمر فوقها جنازير الدبابات؛ حتى الدبابات لم تعد قادرة على العودة الى المناجم لفرط الدم الذي يثقل حديدها؛ حتى الهواء لم يعد قادراً على الاختناق على الرغم من كثرة المايكروفونات والشعراء؛ حتى الطائرات.. حتى الطائرات... نعم، حتى الطائرات، على الرغم من كثرة السماوات!.
حتى السحب لم تعد تتعرف إلى الماء؛ حتى الماء صار يبحث عن السحب.
حتى القتلى لم يعد يعنيهم أن يعرفوا ما الحياة قبل أن يساقوا الى الرصاص.
حتى الرصاص صار لا يدري أنه يقتُل.
حتى القتل تبرأ من الرصاص.
حتى الميِّت صار لا يدري أنه مات، ولذلك فإنه ينفجر ضحكاً بعد أن ندفنه.

 لا فرق، إذاً، بين شيئ وشيئ إلا في الشيئ نفسه، إلا في الفرق الذي يتزأبق في الماء، وفي الدم، وفي الحديد.
لا مجال، إذاً.
لا مجال لترف التأمل، وَسَبْرِ العيون في مصير الكيمياء، والفيزياء، والتاريخ، والجغرافيا، والإقتصاد السياسي، والصراع الطَّبقي، والصراع الشِّعري، وعلم الفلك، وعلم الأحماض النووية.
لا مجال للفصل بين العين والنظرة.
لا فرق بين الخيط والبؤبؤ والإبرة.
لا مجال، لأن الذي يحدث لا يطال السرد، بل يستطيل خارج قمقمه البسيط، ولأن السرد أكثر توءدة من الدم.
لكن، حين ينجز الجلاد مجزرته، سيكتشف أن قلبه لا يزال موجوداً في مكان ما على البلاط الدامي، وان الرخام البارد يمدُّه بالروح؛ سيكتشف أن رأس الضحية لم تختفِ على الرغم من تلطخ وجهه بالقتل، وان روحه قد انخلعت رعباً على الرغم من الموت الكثير الذي بين أصابعه، وان الصدأ قد ذهب إلى النهر، على الرغم من الجفاف الذي صار يشعر به في حلقه، وعلى الرغم من برودة الماء في النهر الذي يتراءى خلف زجاجٍ احْمَرَّ.
وسيرى النهر أن عليه أن يصب في السماء.
وان السماء لا ماء فوقها، ولا أرض تحتها.
وأن حكمة النبوءة هي التبشير لشعوب من السديم.
وان البشارة غابت في سديم الشعوب.
وأن لا أحد.

لا أحد.  لا أحد  يا محمود درويش.  ولذلك فإنك صرختَ:

"سبايا نحن في هذا الزمان الرَّخو
أسلمنا الغزاة إلى أهالينا
فما كدنا نعضُّ الأرض حتى انقضَّ حامينا
على الأعراس والذكرى فوزَّعنا أغانينا على الحرَّاس
من ملك على عرش
إلى ملك على نعش
سبايا نحن في هذا الزَّمان الرخو" (من "بيروت"، محمود درويش).

بلى يا محمود درويش، "أسلَمَنا الغزاة إلى أهالينا" ليس في فلسطين وحدها، بل في كل دويلات وطوائف هذا الوجع العربي الكبير الذي قلتََه في ذلك المقطع منوِّعاً على الشاعر اليوناني نيكوس كافافيس الذي أُعجبتَ بتجربته كثيراً، والذي كتب ذات قصيدة:

"والآن ماذا سيحلُّ بنا بعد رحيل البرابرة؟
"لقد كانوا نوعاً من الحَلِّ" (من "في انتظار البرابرة"، كافافيس).

وبلى يا محمود درويش؛ ففي هذه البرهة الفلسطينية الحادة صار يمكن أن تقول ان حماس حررت غزة من فتح، بينما طهَّرت فتح الضفة الغربيَّة من فلول حماس، فمرحى ألف مرحى لشهداء جمهورية فلسطين الديمقراطيَّة، ومرحى ألف مرحى لشهداء إمارة فلسطين الإسلاميَّة.
 ترى كيف يمكن التَّنصُّل من سؤال الوطن/ الشعر الصَّعب؟.  وهل لهذا السؤال أي معنى أصلاً حين يتعلق الأمر بمحمود درويش؟.  سنتذكر هنا انك في بدايات تكوُّن ظاهرة ما أُطلق عليه مسمى "شعر المقاومة" أطلقت صرختك الشهيرة في وجه النُّقَّاد العرب:  "إرحمونا من هذا الحب القاسي!"؛ ذلك ان الشِّعر يفرض معاييره الخاصة التي تختلف عن معايير التوق للوطن وحبِّه، وحين يتعلق الأمر بالشِّعر فإن القصائد ليست بالنيَّات.
 وعندما ظهر شعراء فلسطينيون بأسماء غير شعريَّة من قبيل "أبو الجماجم"، و"أبو العواصف"، و"أبو الثورة"، و"أبو الشهداء"، و"أبو المخيَّمات"، و"أبو الآر بي جي"، و"أبو الكلاشينكوف"، و"أبو السيمينوف"، و"أبو الدوشكا"، إلى آخر ذلك من آباء وأمهات الأسلحة سوفيتية الصنع، سارعتَ إلى القول ان هناك من يريدون الوصول إلى الوطن عَبْرَ الشِّعر، فهم بذلك إنما يسيئون إلى الوطن وإلى الشِّعر معاً.  ليست المعادلة بسيطة لمن يذهب في مكابدتها إلى الحدود الأقصى.  لقد كتب بيتهوفن إلى امرأة مجهولة في رسالة الحب الوحيدة التي حافظ عليها الزمن- والتي صارت تُعرَف في الأدبيَّات البيتهوفنيَّة باسم "رسالة إلى المحبوبة الخالدة" اقتباساً من إحدى عباراتها- انه- أي بيتهوفن-  يتردد كثيراً أمام الحب لأن "الحب يطالب بكل شيئ وهو مُحِقٌّ"، وضمنياً فإن الموسيقى تطالب بكل شيئ وهي مُحِقَّة.  فمرحى لك يا محمود درويش لأنك أعطيت الشِّعر كل شيئ وأنت مُحِقٌّ، ومرحى لك لأنك أعطيت الوطن كل شيئ وأنت مُحِقٌّ.  بلى، فمع أصالة همِّك السياسي وعمقه- أو إلى جِواره- لم يكن هذا الهم إلا انزياحاً في هموم وجودية كبرى وتناغماً معها، بحيث ان سؤال الوطن على حيويته وأهميته يصير جزءاً من مأزق الوجود على هذا الكوكب الهشِّ العابر فحسب؛ إذ ان مما "يستحق الحياة على هذه الأرض" ليس "خوف الغزاة من الذكريات" فحسب، بل و"كتابات إسخيليوس" أيضاً كما كتبت في إحدى قصائدك.  إننا نعرف جيداً كم استأتَ من تقليص تجربتك إلى اللقب الشعاراتيِّ ذي العين الحولاء:  "شاعر الثورة الفلسطينيَّة". 
 ولكن كيف يمكن قول ذلك من دون أن يضطر المرء إلى أن يعرج على إشكاليَّة العلاقة بين المبدع والسُّلطة حتى ولو كان ذلك المبدع هو محمود درويش، وحتى ولو كانت تلك السُّلطة هي منظمة التحرير الفلسطينيَّة؟.  لقد وضعك القدر في موقف مستحيل لا يحسدك عليه إلا الأغبياء الذين لن يذهب المرء إلى ما يقولون.  لكن المرء- في الوقت نفسه- لا يستطيع أن يَصُمَّ أذنيه بالكامل عما يقوله بعض المثقفون الفلسطينيون الثُّقات من ان الأمر انطوى على بعض ما لا يسرُّ محبيك الذين هم من محبي الشِّعر، ومن محبي الثورة أيضاً.  يتعلق الأمر بحقيقة ان اقتراب المبدع من السُّلطة- أيُّ سُلطَة كانت- ولو بمقدار مليمتر واحد ينطوي على مغبَّات غير قليلة؛ فاللهم باعِد بين محمود درويش في قبره وبين السُّلطة كما باعدت بين المشرق وبين المغرب، وكما باعدتَ بين الشِّعر وبين الأحذية.
 وفي الوقت نفسه فإن المرء لن ينسى أبداً ما قلته بالصوت والصورة في الفيلم الوثائقي "محمود درويش:  حيث الأرض هي اللغة" الذي أنجزته سيمون بيتون في 1998؛ فقد ذكرتَ ان "الأخ ياسر عرفات" بادرك ليطلب منك أن تكون وزيراً للثقافة في حكومة السُّلطة الوطنيَّة، وحين أبديت اعتذارك ردَّ عليك بقوله:  ولكن ماذا أضرَّ كاتباً كبيراً مثل أندريه مارلو أن يكون وزيراً للثقافة في حكومة شارل ديغول، الأب الروحي للجمهورية الفرنسية الخامسة؟.  فكان ردُّك انه:  إذا وصلنا إلى مقاربات تصير فيها فلسطين دولة عظمى مثل فرنسا، ويصير ياسر عرفات زعيماً عظيماً مثل شارل ديغول، فإنني أُفَضِّلُ في هذه الحالة أن أكون جان بول سارتر وليس أندريه مارلو!.
 كما لن ينسى المرء ما رواه صديق مشترك كان شاهد عيان على الواقعة حين تلقيت أمراً هاتفياً صارماً من ياسر عرفات بضرورة السفر فوراً إلى عاصمة عربية معينة من أجل تمثيل فلسطين في مؤتمر أدبي يعقد فيها، ولم تكن أنت راغباً في المشاركة في ذلك المؤتمر لأسباب شخصية، وأدبيَّة، وسياسيَّة.  يقول الصديق المشترك ذاك انه فور انتهاء المكالمة لجأت إلى قنينة كاملة من الصَّفراء التي تنزل الأحزان بكل ساحاتها وكرعتَها عن بكرة أبيها في فورة من الشتائم النابية، والغضب، والإستياء، والشعور بحجم الورطة.
 وكذلك لن ينسى المرء ما وثَّقته للتاريخ كاميرا تلفزيونية قبل وقت طويل من عقد اتفاقية أوسلو المشؤومة، وقبل أكثر من ربع قرن من رحيلك؛ فقد كنت تلقي قصيدتك الملحميَّة "مديح الظل العالي" في حضور ياسر عرفات الجالس في صف المقاعد الأمامية.  وحين وصلت في قراءتك إلى مقطع معين من القصيدة غرزت عينيك في عيني الزعيم كما تنغرز الرؤيا في ستور الغيب.  وقد كان ذلك المقطع يقول:

"يا سيَّد الشُّعلة
ما أوسع الثورة
ما أضيق الرحلة
ما أكبر الفكرة
ما أصغر الدولة!".

وبعد اثنين وعشرين سنة من تلك القصيدة/ النبوءة، وحين توفي ياسر عرفات، قلتَ في ما يشبه الحكمة:  "سنفتقد ياسر عرفات، لكننا لا نريد ياسر عرفات آخر".
 مات ياسر عرفات في باريس في 2004، وعادت إلينا رفات دلال المُغربي من فلسطين في 2008، وفي 2008 أيضاً عاد إلينا جثمان محمود درويش من أمريكا:

"وأمريكا على الأسوار تُهدي كل طفل لعبةً للموت عنقوديةً
يا هيروشيما العاشق العربي
أمريكا هي الطاعون، والطاعون أمريكا
نعسنا.  أيقظتنا الطائرات وصوت أمريكا
وأمريكا لأمريكا
وهذا الأفق اسمنت ٌ لوحش ِ الجو
نفتح ُعلبة َ السردين، تقصفها المدافع ُ
نحتمي بستارة الشباك، تهتز البناية
تقفز الأبواب
أمريكا وراء الباب
أمريكا" (من "مديح الظل العالي"، محمود درويش).

يا محمود درويش:  في يوم الخميس، 1 يوليو 1993 تضمنت الصفحة الأولى من الملحق الثقافي لصحيفة عُمان تعليقاً خبريَّاً بعنوان "محمود درويش في مسقط:  حضر الوزير وغاب الشاعر".  يقول التعليق ما يلي:  ""غادر محمود درويش مسقط مودِّعاً إياها بمثل ما استقبل به من حفاوة وتكريم".  تصلح هذه العبارة لأن يقرأها درويش وهو يرنو من نافذة الطائرة جبالنا العتيدة، لكن يبدو ان الطائرة ستحطُّ به في باريس قبل أن تحطَّ هذه العبارة على تروس المطبعة.  لا لشيئ- [أي] هذا التأخير- إلا لأن محمود درويش الذي زارنا هذا الأسبوع ليس محمود درويش الشَّاعر الذي ما فتئ يُطَيِّرُ الحمام من إبراج شعر عالية.  ولكنه [-] كما شاء له بروتوكول الزيارة محمود درويش الشاعر[-] محمود درويش الوزير في حكومة فلسطين.

جاء إذن معالي الوزير محمود درويش ولم يجئ الشاعر محمود درويش، أو ربما اختبأ الشاعر في بذلة الوزير.
يبقى السؤال الآن من غيَّب الشَّاعر في بذلة الوزير؟.  هل الوزير ذاته، أم موضوعها، أم بروتوكول الضيافة؟.
درويش زار عواصم العالم كوزير وكشاعر في نفس الوقت، بل ان الشاعر أخفى الوزير في قصيدته لا العكس مثلما حدث هنا في مسقط.

لا نخمِّن إجابة ما.  لكننا نزعم أن أحداً لم يتذكر ان هذا (الوزير) هو أحد أهم وأبرز أقطاب الشعر العربي المعاصر.  وان أمسية واحدة له في مسقط كفيلة بتجميع آلاف الأشخاص من قرائه وعشاق شعره".
يا محمود درويش:  كان ذلك في 1 يوليو 1993.  والليلة، في 7 أكتوبر 2008، ها نحن جميعاً نقول لك:  أهلاً بك وسهلاً بك في زيارتك الثانية إلى عُمان، شاعراً مشعورٌ بغيابه وحضوره معاً هذه المرَّة. 

1-10-2008