لم أسألك منذ باريس عن صحتك إلاَّ باعتباره سؤالا من لوازم الكلام العادي، فأنا أعرف أنك لا تحب الضعف سوى في القصيدة والوردة، وربما في الأم. كثيرون يسألونك السؤال الذي تكرهه، لا لأنك تفضل أن تظل طويلا ونحيلا وانيقا في أهبة الذهاب الى الحفل، ولكنه ضجرك من لائحة أمراضك الوراثية الطويلة وربما غضبك منها، غير أني سألتك آخر مرة تحدثنا فيها بالهاتف. قلت لك: تعرف أنني لم أسألك منذ باريس عن حالتك الصحية، يومها كنت خارجا من غرفة العناية الفائقة، كانت كلماتك التي تتدرب على استعادة ضربات القرار أفشل من أن تقنع سامعا يحفظ، عن ظهر قلب، طبقاتها الصوتية، وبدل الكلام عن الصدر المفتوح رحت تمتدح انفاسا تقع على مقربة من اوجاعك الاندلسية، فخجلت من نفسي ومنك ومن 'صبحي' الذي كان بجانبك على السرير وقررت ألا أقترب من تلك الهشاشة التي ترغب بالاحتفاظ بها، كاملة، لنفسك، ولكن ليس هذه المرة. هذه المرة أريد أن أسألك السؤال الذي لم أسألك منذ باريس، ففعلت (يا للنذير الذي لم التقط اشارته المفزعة) ما لم تفعل من قبل. قلت لي: هذه المرة مختلفة. هذه المرة غير المرات السابقة. لقد جربت الموت سابقا ولم يخفني إلاََّ قليلا. فلم أعرف انه الموت، بل البياض أو القطن المتطاير في سديم لا نهائي. هذا الموت لا يخيفني لأنني جربته ولم يكن يشبه الموت إلاَّ في درجة السبات. يخيفني الشلل. ألا اقف على قدميَّ الاثنتين كما كنت أفعل عندما سندت طولي، أمام المحن، طويلا. ورغم أنني لا امشي كثيرا ولا آكل كثيرا ولا أحلم، كما كنت احلم سابقا، إلا انني اريد خطوتي وقدميَّ ويدي اليمنى التي ترفع سيجارة غير مرئية الى شفتيَّ الظامئتين للنيكوتين والقبل التي كأنها لم تكن. أريد قدميَّ ويديَّ كاملة، وطولي كله وعمري الذي لا أعرف كيف سبقني الى الخريف.
لا أخاف الموت فهو، إن كان مثل الذي رأيته في باريس، لا يخيفني. لأنه أبيض. لأنه قطن متطاير. لأنه سبات عميق. أخاف الكرسي المتحرك أو جانبا واحدا من السرير. فقلت، بعد منولوج طويل لم اسمعه منك قبل ذلك اليوم، لا تخف، فإن كانت حدوس الشعراء صحيحة سنراك كثيرا بلحمك ودمك ولسانك السليط، فضحكت كما يضحك الاصدقاء، وشعرت من رنة ضحكتك التي أضاءت غرفتي القاتمة في لندن أنك أحببت اجترائي على قطع ذلك المتر اللعين الذي ظل يفصل، دائما، بيننا. فقلت لي: لم يعد لساني سليطا، فقلت لك صادقا: يا للأسف، ثم كمن يجيب على الكلمات التي لم أقلها اضفت: تربيتنا الخشنة تمنعنا من التعبير عن عواطفنا. كأنك كنت تقول لي: أعرف أنك تهتم لأمري.
عن ضربة النرد التي كيف لي أن أعرف أنها الاخيرة تحدثنا لآخر مرة. كنت قد ارسلت القصيدة وتحدثت عنها مع 'عبد الباري' ثم طلبتني. لم أكن في الصحيفة. وجدت رسالة صوتية منك على هاتفي النقال المغلق تقول فيها بنبرة بكر العائلة في بلادنا: بربك ما حكمة أن تحمل هاتفا نقالا مغلقا؟ طلبتك في رام الله. كنت بجانب الهاتف. لعلك كنت تنتظر اتصالا اكثر اهمية من اتصالي. سألتني عن القصيدة التي تركت قشعريرة في بدني. القصيدة التي يمكن لأي جاهل في الشعر والنثر والحياة أن يرى، من وراء كلماتها، يدك تلوح وداعا. لم أقل لك، طبعا، ذلك، فلم اصدق الكلمات التي تودعنا واحدا واحدا، بل قلت انها المرة الاولى التي تقترب فيها، الى هذا الحد، من حياتك وعائلتك وامراضك من دون ان تترك فرصة للتأويل الوطني الجاهز في رؤوس الذين يريدونك شاعرا بحجم "كرت الاعاشة". سألتك إن كانت القصيدة جزءا من مشروع شعري على غرار ما فعلت في السنين الاخيرة، فقلت لي، بنبرة لم افهمها إلاّ بعد الخبر القادم من هيوستين: كلا.. ليست جزءا من مشروع شعري، فأنا لا أشتغل على مشروع الآن.
أردت الاقتراب أكثر من تلك المنطقة التي ابتعدت عنها منذ باريس، لكني بدلا من ذلك قلت بلا تبصر: ليس ضروريا أن تواصل التزامك المنهك بوضع مشروع شعري بين دفتي كتاب كل مرة. استرح قليلا واكتب قصائد منفردة. لم افهم، لحظتها، معنى قولك انك لا تعمل على مشروع شعري كعادتك. سؤالي الأخرق عن تاريخ لاعب النرد كاد أن يقطع حبلا بدأ يمتد بيننا، بقوة، لأول مرة. قلت لي انك كتبت 'لاعب النرد' ثلاثة او اربعة شهور قبل قصيدة النكبة. لا اعرف إن كان ذلك صحيحا، فأنت لا تذيل قصائدك بتاريخ أو مكان. الآن أشك في التاريخ الذي اردت تضليلي به، خصوصا عندما أخبرني 'خيري' انه لم يعلم بوجودها، وأكثر عندما فوجىء بها 'صبحي' منشورة، وتسلمها 'غسان' قبل ساعات من دفعها الى الطبع. هؤلاء يطلون، عادة، على البروفات الاخيرة لقصائدك. ليس هناك شاهد على ولادة قصيدة الوداع هذه إلاَّك. أنت وحدك من وضعها في بيت لا يُسمع فيه تنقّل قدم واحدة. بيتك الذي اعطيت مفتاحه لصديقك 'حليله' كي لا يشم احد رائحة اخرى غير كولونيا الحلاقة التي ترطب خديك الأجردين.
لم يكن لدى لاعب النرد سوى لاعب النرد نفسه. لم يسمع أحد تلك الرمية الاخيرة إلاَّ من رماها. كلنا كنا بعيدين وغافلين وعاجزين عن تبديل موقع الحجر المرقط الذي تدحرج في تلك الخانة. اليوم أذهب الى مطار 'ماركا' لاستقبالك. لن أراك. ففي بلادنا لا يكشفون عن وجوه الموتى المسجين في تابوت، فالموتى ليسوا مسؤولين عن وجوههم. سيكون هناك كثيرون ينتظرون التابوت الذي سينقل من طائرة الى طائرة. ستكون هناك وجوه لا تحبها. ولكن هذا ليس مهما بعد. ما يهم أنه سيكون شعر وورد أقل بعدك.