صدر ديوان عصافير بلا أجنحة لمحمود درويش سنة 1960 وكان عمره وقتها تسع عشرة سنة، وقام الشاعر الكبير والعظيم - فيما بعد - بإعدام هذا الديوان، إذ تجاهله تماماً وأغفله، ولكي نتعرف على أجواء عصافير بلا أجنحة رأيت أن أقدم اليوم مقدمة الديوان بنصها الكامل كما كتبها محمود درويش.
ميلاد هذه القصائد
.. كان ذلك في شهري آب.. وأيلول من هذا العام.. آخر الصيف.. وأول الخريف.. الصيف الحار الفضولي.. الصيف الفنّان.. الصيف الثائر القوي الذي يحمل في قلبه تموز الثائر البطل.. الذي يقول لكل جرح: اثأر! اثأر!.. لقد أذّن الفجر وسبّح.! والخريف.. الفنّان الحزين اليائس.. الذي ذرّى وأسلم أمره.. وكل أيّامه ولحظاته للريح تبعثرها بلا حساب..
.. في آب وأيلول.. ازدحمت الدنيا على بابي: الحب.. والعذاب.. والكفاح.. والثورة.. والألم.. والنداء المبحوح القادم من البعيد.. من البعيد.. وازدحمت في أعصابي الانفعالات والاهتزازات المتلاحقة باستمرار وغرابة.. وأصبت بمرض.. أو سمّوه إذا شئتم إغماءة الكتابة.. كان عليَّ أن ألبّي النداء مرغماً.. وكان عليَّ في هذين الشهرين بدون أن أدري - أن أعيش عاماً كاملاً كان قد مرّ وانزوى في قافلة السنين التي لا تعود.. كان عليَّ أن أعيشه من جديد.. وأحسّ بإحساساته من جديد كأنها واقعة تماماً.. وأنا لا أعرف ماذا أصنع..
.. أقول لكم بصراحة: إن هذين الشهرين حيّراني كثيراً كثيراً.. وفرضا عليَّ نشر ديوان.. وجمعت القصائد هذه الجديدة.. ورجعت إلى بعض مقطوعات قديم.. فلملمت شيئاً منها كنتم قد قرأتموه من قبل.. وأضفته إلى الديوان.. .
وهذه القصائد تقدّس الحرية.. وتقبّل الشهداء.. وتغني على شباك حبيبتي.. وتبكي مع شريد ضائع.. .
.. فالشعر من الفن.. أعذب وأنعم أغنية على شفاه الفن.. وأعمق جذر في دوحة الفن.. والفن فوق الحدود.. فوق حدود الزمان والمكان..! فكيف نستطيع.. نحن الأقزام على مائدته.. أن نحدده ونكبله.. ونطعمه كلمات واصطلاحات.. وهو العملاق الساحر الذي دوّر الشمس.. وطرّز حلقات النجوم.. وأسبل مخدته جدائل الأصائل والأسحار..!
.. ونقّط على حلمة كل وردة قارورة ربيع رائع!.. ودلق من أباريقه ألف غدير للروعة والسحر!.. وحمل كل حرف من كتابه مفتاح خزانة الحب السحرية!.
.. وهو الذي أشعل حول كل قيد بركان ثورة! .. وفي قلب كل مظلوم جمرة حقد لا تنطفىء!.... .
.. وعصافير بلا أجنحة خلقت لتطير وتحلّق.. وتدوّخ اللحظات في تحليقها.. شاء لها القدر أن تقص أجنحتها.. وتنزف دمها على شوك الألم والحرمان هدراً وبلا نهاية.. لتعقد قصيدة حمراء على فم التاريخ الإنساني المعذّب.. وشاء لها القدر أن تذرّي الزوابع أعشاشها وتنتف ريشها الذي خلق ليجتمع ويكون جناحاً فما كان.. عصافير خلقت لتغني على الينابيع الزرقاء.. وفي الآفاق الزرقاء بانطلاق أزرق.. شاء لها القدر أن تضيع.. وتتحرق بلا سماء.. وبدون أرض.. وراء أسلاك الصمت والضياع!
لهذه العصافير أغني.. وأتألم.. وأثور..! ولأجلها أصرخ في وجه الشمس كي تحيك من خيوط أشعتها ريشاً لها لتنطلق غداً من جديد..!
ولغد هذه العصافير أقدّم قصائدي! .
حيفا 1960