بسام الهلسه

محمود درويش* ربما لم يحظ شاعر عربي، منذ شاعر العربية الأكبر، "أبي الطيب المتنبي"، بما حظي به الشاعر الراحل "محمود درويش" من حضور وانتشار...
ولم تكن القضية الفلسطينية  - بما لها من مكانه نافذة في الاهتمام والوجدان العربي- هي السبب الوحيد في هذا.. فقد سبقه وجايله ولحقه، شعراء فلسطينيون آخرون لم يحظوا بما حظي به درويش، رغم ما تركوه من علامات مميزة على دروب الشعرية الفلسطينية والعربية منذ ثلاثينيات القرن الماضي أمثال: إبراهيم طوقان، عبدالرحيم محمود، عبدالكريم الكرمي (أبي سلمى)، هارون هاشم رشيد، كمال ناصر، فدوى طوقان، يوسف الخطيب، معين بسيسو، سلمى الخضراء الجيوسي، حنا أبي حنا، عبدالرحيم عمر، توفيق زياد، سميح القاسم، أحمد دحبور، وليد سيف، محمد القيسي، وعز الدين المناصرة...

كما لم تكن "الحداثة الشعرية" أيضاً هي السبب في هذه المكانة، فلقد تجاوز درويش - وهو من الجيل التالي لرواد الحداثة الشعرية العربية (بدر شاكر السياب، نازك الملائكة، صلاح عبدالصبور، أدونيس، أنسي الحاج، توفيق الصايغ، عبدالوهاب البياتي...). منجزهم الشعري بقدرته الدائمة على توفير شَرطَيْ الاستمرارية والتجدد؛ وبقدرته المتميزة على الاحتفاظ بتواصل دائم مع الجمهور العربي الواسع؛

فلم يعان مما عاناه آخرون من نضوب أو تكرار لما سبق، ولا من مدى نخبوي في التواصل.
وكان ذكاؤه، وحرصه الدائم على تثقيف نفسه باستمرار، مع الارتباط بقضية حية كالقضية الفلسطينية، وعدم القطع نهائياً مع الأساليب الشعرية العربية، وتطوير وإثراء لغته وأدواته ومعالجته لموضوعاته، هو ما أبقاه متواصلاً بقوة مع جمهور متفاعل كبير، في الوقت الذي انحسر فيه كثيراً في الآونة الأخيرة جمهور الشعر العربي، خصوصاً في زمن "قصيدة النثر" التي، ورغم طرقها لمناطق وموضوعات شعرية جديدة، وبلغة هامسة غالباً –لا مِنبرية- لم تقدم (باستثناء بعض الأسماء، أبرزها محمد الماغوط) أصواتاً تبلغ ما بلغه شعراء "قصيدة التفعيلة" التي تمردت عليها، من حضور، ولا ما بلغته الشعرية العربية الحديثة والمعاصرة منذ حركة الإحياء وشاعرها "محمود سامي البارودي"، مروراً بالتقليدية المحدثة (شوقي، حافظ، الزهاوي، الجواهري، خليل مطران ...) والرومانسية التي عمت الوطن والمهجر (بشارة الخوري، إبراهيم ناجي، أحمد زكي أبو شادي، جبران خليل جبران، إيليا أبو ماضي، علي محمود طه، الصافي النجفي، إلياس أبو شبكة، عمر أبو ريشة، أبو القاسم الشابي، بدوي الجبل، محمود حسن إسماعيل، وسعيد عقل...).

* * *

فبعد إتكاء درويش في دواوينه الأولى على موضوعات وطنية وعاطفية قدمها بلغة غنائية رومانسية مباشرة، فإنه سرعان ما أسس صوته الخاص المتفرد بعدما تجاوز مؤثرات نزار قباني والسياب والبياتي، واشتق لنفسه معجماً وموضوعات وأسلوبية وصوراً رسخت مكانته الشعرية كأحد الكبار المجددين في الشعر العربي.
وإذا كان مديناً –في انتشاره في السنوات الأولى- للاهتمام الذي أبداه أديبان كبيران (يوسف الخطيب، وغسان كنفاني) بشعر وأدب "الأرض المحتلة" في أواسط الستينيات من القرن الماضي، ولإعلام الثورة الفلسطينية المعاصرة وشبكة علاقاتها العربية والدولية الواسعة، ثم للنقاد والاعلام المصري المهيمن (بعد حرب حزيران –يونيو 1967م) الذي عمم وروج صفة "شعراء وأدباء المقاومة"، فقد عمل درويش على تطوير بنائه الخاص باستمرار، خصوصاً بعد مغادرته الأرض المحتلة إلى القاهرة أولاً ثم إلى بيروت وهما حاضرتان عربيتان كان يصطخب فيها حراك ثقافي عميق ومتعدد التيارات والاختيارات.
وتعين عليه الاحتكاك المباشر بالشعراء، وبالنقاد، والدارسين، والمعلقين، والمثقفين، والفنانين، والجمهور المتنوع فيهما وفي غيرهما من العواصم والمدن العربية التي كانت منشغلة بعدُ بأسئلة الحياة...
في هذا الجو الثري المحتدم، ما كان ممكناً للقضية الفلسطينية –على جلال حضورها-، ولا للحداثة الشعرية التي أصبحت راسخة، ان تكونا كافيتين لمنحه جواز المرور إلى المقدمة... فقد كان لكل شاعر وأديب كبير –ومثقف عموماً- قضيته وحداثته...

* * *

كان هناك –إضافة إلى الرواد- شعراء الخمسينيات والستينيات: سعدي يوسف، ومظفر النواب، وخليل حاوي، وأحمد عبدالمعطي حجازي، وأمل دنقل...
وكان هناك شعراء العالم الكبار الحاضرون بلغاتهم الأصلية أو بترجماتهم العربية: رامبو، والت ويتمان، ماياكوفسكي، بول ايلوار، لوي اراغون، لوركا، نيردوا، ناظم حكمت، وكافافي...
وإضافة إلى هؤلاء، كان الشعر العربي القديم في عصوره المختلفة، قد جرت إعادة قراءته وتقديمه مجدداً على نطاق واسع، ناهيك عن شعراء "المحكيات" العربية الكبار –خاصة في مصر ولبنان والعراق- الذين تمردوا على القوالب القديمة، وقدموا مساهماتهم الإبداعية التي حملتها "الكاسيتات" وأذاعتها الأغاني...
لكن "محموداً"، بانشغاله المثابر على أدواته وموضوعاته وأسلوبه ولغته وصوره، وبحرصه على إيقاعات الشعر العربي -التي هجرها شعراء "قصيدة النثر" غالباً- وبغزارة انتاجه، تقدم إلى المقدمة.. ومن المقدمة إلى ما بعدها.. غير متوقف عند حدود ما أنجزه.. لـ"كي يظل الأمام أمامنا" حسبما عبر في إحدى قصائده.. أو لـ"يصعد إلى السماء ثم إلى فوق!" كما كتب ذات مرة الصديق الشاعر "نزيه أبو عفش" في عبارة مجازية...

* * *

وإذا كانت الأغلبية، من النقاد والدارسين والشعراء العرب، تقر بمكانة وجدارة درويش الشعرية، فإن بعض الأسئلة جديرة بأن تطرح حول صور ورموز فلسطين والفلسطينيين في شعره.. فرغم خصوبتها وتأكيدها على الهوية والحضور الإنساني الحي في مواجهة التغييب والإلغاء الإسرائيلي، فقد غابت عنها صورة الفلسطيني المقاتل من أجل الحرية ضد الاحتلالين البريطاني والصهيوني، وهي الصورة التي وسمت مسار التاريخ الفلسطيني الحديث والمعاصر بعلاماتها، مع ملاحظة حضوره –أي الفلسطيني- كضحية، أو قتيل، أو شريد...
ولا يفسر هذا الغياب بقول البعض ان الأديب أو الفنان ليس مدعواً إلى تبني الثورة المسلحة، فهذا ما ينفيه السلوك الشخصي والتعبير الأدبي معاً، لأدباء وفنانين عالميين كبار، ولأدباء وفنانين فلسطينيين (عبدالرحيم محمود، غسان كنفاني، ناجي العلي...الخ).
يمكن القول بأن درويش –الذي كان مع المقاومة "الثقافية" و"الحضارية" و"الإنسانية"- لم يكن مؤيدا" للكفاح المسلح" كسبيل لنيل الحقوق، وهو ما يعرف من تأكيده على النضال الفلسطيني كـ"حركة استقلال" (وليس حركة تحرير شعبية مسلحة) تسعى لحشد التأييد العالمي والضغط على الإسرائيليين –سلمياً- "لقبولنا والاعتراف بنا وبحقوقنا".
وفيما بدا شعره (خصوصاً منذ ديوانه "تلك صورتها وهذا انتحار العاشق") غريباً بالنسبة لمقاتلي الثورة -وللفئات الشعبية الفلسطينية عموماً– التي كان العراقي "مظفر النواب" والمصري "أحمد فؤاد نجم"، أقرب إلى فهمها ومزاجها، فقد رحبت معظم أوساط الطبقة الوسطى المتعلمة بشعره وتقبلته.. وهي أوساط تبغض الاحتلال حقاً وتتمنى الخلاص منه، وتحب فلسطين بصدق، لكنها غير مستعدة للتضحية من اجلها والمساهمة في تحريرها واستردادها بأكثر من نشاط ثقافي أو اجتماعي...
ومع احتفاظها بعواطف وطنية، وحرصها بخاصة على تأكيد هويتها ورموزها العربية الفلسطينية، فإنها معنية أكثر بالحفاظ على وضعها (وأوضاع عائلاتها) وتحسين مستواها المعيشي. هذه الطبقة –غالباً- ومثيلاتها في دمشق وعمان وبيروت، هي "المتداول" لشعر محمود درويش الذي رأت أنه يمنحها نوعاً من التعويض والعزاء عن "وطنيتها المشتهاة" من جانب، ويتواءم مع "أسلوب حياتها المطمئن" من جانب آخر.
أما السؤال الآخر فيتصل بمدى تفاعل درويش مع القضايا العربية، التي بدا تواصله معها- وتعبيره الشعري والأدبي عن هذا التواصل- "محدوداً"، مع تنقله ومعايشته المديدة للعديد من الأقطار والمدن العربية (رغم انه ليس ضرورياً العيش في دول لتبني قضاياها).
وتبدو لنا هذه "المحدودية" مفارقة، بالمقارنة مع أدباء وفنانين فلسطينيين آخرين (توفيق زياد، يوسف الخطيب، ناجي العلي كأمثلة) أو عرب (عبدالرحمن منيف، غالب هلسا، مظفر النواب كأمثلة).
هذا يعني أن نوعية "الموضوعات" و"الانشغالات" إنما يحددها "فكر" الأديب و"مواقفه" بالدرجة الأولى..
ومن هذه الناحية كان درويش "أسير" الموضوع الفلسطيني، مع ادراكنا لأهمية ومركزية هذا الموضوع (فلسطين) في الشأن العربي، ومعرفتنا بالمدى الإنساني الذي رفعه إليه وعالجه به درويش.

* * *

إذا كان جسد الـ"عاشق من فلسطين" –درويش- قد رحل وغاب بعدما "ملأ الدنيا وشغل الناس" لأكثر من أربعين سنة؛
وإذا كانت مواقفه وآراؤه السياسية قد أثارت الجدل والاعتراض أو الرفض، وكذا مسلكه الشخصي في عدم تقبل أي نقد يوجه إلى مواقفه أو شعره؛
فإن شعره الذي لم يحظ شعر عربي حديث ومعاصر بما حظي به من اهتمام وانتشار كما قلنا من قبل، سيظل باقياً تتوارثه الأجيال...
وسيحتفظ ديوان الشعر العربي لـ"محمود درويش" بمقام عالٍ يليق به بين شعراء العربية الكبار عبر كل العصور..
منذ "الملك الضليل" -إمرئ القيس- وحتى الآتين في الغد...

* * *

ولأن "على هذه الأرض ما يستحق الحياة"، كما وقع درويش في عبارة بسيطة، عميقة,
فهو يستحق إذن النضال لأجله...
ذوداً عنه.. أو إحرازاً له

alhalaseh@gmail.com