تنفس محبو الشعر في البحرين هواء فلسطين الثورة والبندقية والمنفى والحب والإنسان، تنشقوه بعمق وهم يسمعون الشاعر الفلسطيني محمود درويش، في أمسية من ضمن مهرجان "ربيع الثقافة 2006" الذي انطلق في البحرين مطلع شهر آذار (مارس) الجاري والذي ينظمه مجلس التنمية الاقتصادية ودائرة الثقافة والتراث الوطني بوزارة الإعلام البحرينية ومركز الشيخ إبراهيم الثقافي.
لأول مرة أطلّ محمود درويش على الجمهور الخليجي في العاصمة البحرينية المنامة، كان ذلك في الثامن من آذار يوم المرأة العالمي. واستهل درويش هذه الإطلالة الأولى له على الجمهور البحريني بالقول "لا أستطيع أن أخفي ما أشعره من رهبة لأنني مدعو من سيدة في أول زيارة للبحرين"، وكان بذلك يشير إلى الشيخة مي آل خليفة وكيلة الوزارة لشؤون الثقافة والتراث الوطني.
لم يتأخر الشاعر عن الإعتذار من جمهوره على هذا التأخير بلقياهم، فخاطبهم في بداية الأمسية بالقول "أظن أنني مدين لأهل البحرين باعتذار لأني تأخرت في هذه الزيارة كثيرا". وتابع درويش أمام الحشد الكبير الذي ملأ صالة البحرين الثقافية "أرجو أن تعذروني ومن حسن حظي أن تصادف هذه الأمسية في اليوم العالمي للمرأة". ومع أنه كان يوم المرأة العالمي إلا أن أحداً من الحضور الرجال كباراً وصغاراً لم يكن مستعداً للتخلي عن مقعده لسيدة من اللواتي وقفن في الأروقة أو جلسن بين ممرات المقاعد ينصتن إلى فيض الشعر.
ولأنها المرة الأولى التي يلتقي البحرينيون والسعوديون والعرب مع الشاعر الفلسطيني كان طبيعياً أن يحتاج المرء لشق طريقه في الصالة الثقافية في المنامة ليصل إلى مكان يقف فيه ويستمع، لأن الجلوس كان مستحيلاً بعد إمتلاء المقاعد بالحضور. كما امتلأت باحة الصالة الثقافية الخارجية بالذين فضلوا الخروج لأن المكان في الداخل لم يتسع لهم. وكان لافتاً الحضور الكثيف للمواطنين السعوديين والعرب القادمين بمعظمهم من المنطقة الشرقية للمملكة العربية السعودية والذين استغلوا قرب المسافة وسهولة الوصول لحضور هذه الأمسية التي تعد الأولى من نوعها في الخليج العربي. كما حضر العديد من الفلسطينيين واللبنانيين والسوريين من المقيمين في الخليج.
في رحاب الشعر
لم يكن من الممكن حبس الأنفاس في "الصالة الثقافية" المزدحمة، الغارقة بالصمت في رحاب الشعر، رهبة وشغفاً وتعطشاً. كانت الأنظار شاخصة إلى مارد الشعر هناك. يحاول الجميع التقاط الشعر المنبعث بصوت جهوري، ثوري يوقظ الأحاسيس ويحركها ويطلقها في فضاء رحب يضيق به المكان. كان الجميع يسمع كلمات تحمل الهم العربي القديم وتنثره في أجواء البحرين، ليتقاسمه أهل حضارة دلمون مع عالمهم.
أنصتوا للقصائد الجديدة مثل "فكر بغيرك"، وتفاعلوا معه في قصيدة "الآن في المنفى" بقوله:
"سيري ببطء، يا حياة ، لكي أراك
بكامل النقصان حولي. كم نسيتكِ في
خضمّك باحثا ًعني وعنك. وكلما أدركت
سا منك قلت بقسوة : ما أجهلك!
قل للغياب : نقصتني
وأنا حضرت لأكملك.
ولا يمكن الحديث عن الشعر ودرويش من دون المرور مع درويش على "القدس":
في القدس, أعني داخل السور القديم
أسير من زمن إلى زمن بلا ذكرى تصوبني.
فإن الأنبياء هناك يقتسمون تاريخ المقدس..
يصعدون إلى السماء
ويعون أقل إحباطاُ وحزناً
فالمحبة والسلام مقدسان وقادمان إلى المدينة .
كنت امشي فوق منحدر وأهجس:
كيف يختلف الرواة على كلام الضوء في حجر؟
أمن حجر شحيح الضوء تندلع الحروب؟
أسير في نومي .. أحملق في منامي
لا أرى أحداً ورائي
لا أرى أحداً أمامي
كل هذا الضوء لي!
أمشي
أخف
أطير
ثم أصير غيري في التجلي.
تنبت الكلمات كالأعشاب من فم أشعيا النبوي:
"إن لم تؤمنوا لن تأمنوا"
أمشي كأنيّ واحد غيري
وجرحي وردة بيضاء إنجيلية
ويداي حمامتين على الصليب
تحلقان وتحملان الأرض.
لا أمشي لا أطير , أصير غيري في التجلي
لا مكان ولا زمان , فمن أنا ؟
أنا لا أنا في حضرة المعراج
لكنيّ أفكر :
وحده كان النبي محمد يتكلم العربية الفصحى
"وماذا بعد؟"
ماذا بعد؟ صاحت جندية:
أهو أنت ثانية! ألم أقتلك؟!
قلت: قتلتني .. ونسيت مثلك, أن أموت !"
وأكمل درويش والحضور مع "لا أعرف الشخص الغريب" و"يوم نسائي" و"السروة انكسرت" و"وصف الغيوم" وغيرها، كما رددوا بألسنة خافتة قصائده القديمة مثل "حاصر حصارك" و"أنا يوسف يا أبي" التي صفقوا لها قبل أن يلقيها.
ورافقوه في تعبه من السفر مع قصيدة "لا شيء يعجبني":
“لا شيء يعجبني”
يقول مسافر في الباص-لا الراديو
ولا صحف الصباح ولا القلاع علي التلال
أريد أن ابكي
يقول السائق: انتظر الوصول إلى المحطة
وابكي وحدك ما استطعت
تقول سيدة : أنا أيضا أنا لا
شيء يعجبني دللت ابني علي قبري
فأعجبه ونام ولم يودعني
يقول الجامعي : ولا أنا لا شيء
يعجبني درست الاركيولوجيا دون أن أجد
الهوية في الحجارة هل أنا حقا أنا
ويقول جندي: أنا أيضا أنا لا
شيء يعجبني أحاصر دائما شبحا
يحاصرني
يقول السائق العصبي ها نحن
اقتربنا من محطتنا الأخيرة فاستعدوا للنزول
فيصرخون نريد ما بعد المحطة
فأنطلق
أما أنا فأقول : أنزلني هنا أنا
مثلهم لا شيء يعجبني ولكن تعبت من السفر".
يشعر عبد الله بشيء من الزهو وهو يردد بهمس مع محمود درويش، فهذا الشاب اليانع يحفظ أشعار درويش عن ظهر قلب. ومثله بدا واضحاً الحضور الفتيّ إلى جانب الجيل القديم إذا صح التعبير، فشعر درويش يتسابق على قراءته الصغار كما الكبار. كانت الأعين تلاحق حركات يديه، تتفاعل معها بحدة حين يحتاج الأمر كما في "حاصر حصارك لا مفر"، وتمايلت رؤوسهم حينما احتج الأمر رقة مع "سيجيء يوم نسائي"، أو لا مبالاة مريرة كما في "السروة انكسرت".
التسابق إلى حضرة الشعر استحق أن يقف الحضور لمدة ساعة ونصف في أروقة الصالة وعلى طول المدرج وافترش الأرض. "لم نشعر بالتعب لأننا نحتاج للشعر ليروينا" قالت إحدى المعجبات وهي تؤكد أنها قدمت من السعودية بعد أن تطلب منها الأمر أخذ إجازة من عملها واصطحاب شقيقها لها لتحضر الأمسية.
وختم درويش أمسيته مع قصيدة جميلة وقف له الحضور تصفيقاً في نهايتها "واسمي وان أخطأت لفظ اسمي
بخمسة أحرف أفقية التكوين لي:
ميم / المتيم والميتم والمتتم ما مضى
حاء / الحديقة والحبيبة، حيرتان وحسرتان
ميم /المغامر والمعد المستعد لموته
الموعود منفيا، مريض المشتهى
واو/ الوداع، الوردة الوسطى
ولاء /للولادة أينما وجدت ووعد الوالدين
دال / الدليل، الدرب، دمعة
دارة درست ودوري يدللني ويدميني
وهذا الاسم لي
ولأصدقائي أينما كانوا، ولي
جسدي المؤقت حاضرا أم غائبا
متران من هذا التراب سيكفيان الآن
لي متر و75 سنتيمترا
والباقي لزهر فوضوي اللون
يشربني على مهل، ولي
ما كان لي : أمسي، وما سيكون لي
غدي البعيد ، وعودة الروح الشريد.."
شق الشاعر محمود درويش بعد ذلك طريقه بين الحضور الذين تجمهر عدد كبير منهم حوله، حتى أن بعضهم فكر في الالتفاف على المكان والوصول إلى الباب الآخر لقاعة "الصالة الثقافية" لنهم ببساطة لم يشبعوا شعراً ولم يكتفوا من شاعرهم.
مدونات مكتوب
http://abirjaber.maktoobblog.com/
مارس 2006