وائل عبد الفتاح
محمود درويش

تسلل محمود درويش وحيدا ... لكي لا يري طقوس استرداد جسده... يحاول الاصدقاء ان يعيدوه ميتا بعد ان فشل في العودة حيا... هناك قبر ينتظر محمود درويش في قرية البروة... تمنعه جدرن مستوطنة اسرائيلية... وقلوب لم تفهم اشعار درويش... شعروا بالغيظ عندما كتب" عابرون في كلام عابر... " و لم يسمعوا قصص عشقه الاول لفتاة يهودية قبلته بدون ان تفتش في بطاقة هويته... لم يسمعوا صوت امه... ولن ينتصروا علي عقدة العدو... انهم صنعوا دولتهم بقوة السلاح... وصادروا الارض و الحياة... وحفروا قبورا لحكايات شعب فلسطين... ؛كانوا يهتفون مع جولدا مائير "لايوجد فلسطينين"لكن صوت محمود درويش اصبح اغنية عبرت الحواجز والاسلاك الشائكة... والاقامة الجبرية و الزنازين... اغنياته خرجت منشورات ثورية... ورسائل حب... واعلانات عن وجود يغتاله العدو الذي اصبح صاحب الارض... ظل محمود درويش صوت الغريب الذي يقلق محترفي الحرب و العدوان... تسلل صوت درويش من تحت ركام الهزائم... ليعلن ان للضحية صوت عذب... ليس صوت العذاب ... بل صوت الحياة.
في شعر درويش ... حكايات غرام... وفاتنات... وازهار مشمش... وسنديانة... وقهوة الام... وحرير الستائر علي نوافذ تسترخي خلفها العاشقات.
هذه اسطورة فلسطين كما سربها محمود درويش... لتكمل اساطير الثوار والمقاتلين... واطفال الغضب و عائلات التشبث بالارض... اسطورة غرام صعب... غرام بالارض المفقودة... جنة عدن المسروقة... وحياة بين الصنوبر و التين لم يستطع الشاعر اليها سبيلا... فظل يفتش عنها ... باخر مايملك.
محمود درويش يتفق مع الموت الآن ... اتفاق علي ان يكون موته هو مناسبة للحياة التي عاش من اجل الوصول اليها.

1

سارق في رحلة الموت

الصور وحدها تفضح الشعراء.محمود درويش لم يكن غاضبا قبل جولته الاخيرة مع الموت.بدا مرتبكا.لم يقرر هل يكمل المفاوضات الي النهاية.أم يستسلم لالعاب الموت معه.هذه المرة وضعه الاطباء في قلب المغامرة... في المرة الاولي(١٩٨٤) توقف قلب محمود درويش دقيقتين.راي فيهما نفسه يسبح علي غمامة بيضاء يستعيد طفولته كلها.عاد من السفر قبل ان تكتمل الرحلة وتألم عندما استعادته الحياة.الم خفيف... تحول في المرة الثانية (١٩٩٨) الي قتال عنيف.رأي نفسه في سجن و الاطباء ضباط شرطة يمارسون طقوس تعذيبه.افاقته الاولي كانت بعد صدمة كهربائية اما بعد تأجيل الموت في العملية الثانية اكتشف ان" الخلود هو الصعب ... البقاء في الحياة الي الابد... عذاب حقيقي... كان مؤهلا للجولة الاخيرة... في لحظة خروجه من الموت الثاني استمتع انه زائر خفيف... بلا خطة شخصية... ولامطالب... ولا احلام كبيرة... رحلته قصيرة ... في زمن مخطوف من العالم... لحظة بلا ارض... ولا بيت و لا عائلة... عليه فيها كتابة ما يجب كتابته قبل ان يذهب الي النهاية... نهاية كتب هو بروفتها حين تخيل لحظة الانفصال بينه و بين جسده... "ولنذهبنّ معاً أنا وأنت في مسارين: أنت إلى حياة ثانية، وعدتك بها اللغة (... )، وأنا إلى موعد أرجأته أكثر من مرّة، مع موت وعدته بكأس نبيذ أحمر في إحدى القصائد... »هذه المرة لم يخدع احد... ترك قبل الرحيل "لاعب النرد".قصيدة وداع للملاعب.حزنها شفاف الي درجة تري فيها ترتيبات الرحلة الاخيرة.
كتب درويش الترتيبات اكثر من مرة... انتظرها... كان علي موعد مع الموت ... هو العابر من بلد ذابت في جغرافية جديدة... والغريب المشتاق الي مدينة تتحمل شاعرا يبني بلدا من كلمات... ويحول مأساة شعبه الي تراجيديا تنافس الاوديسا والالياذة... هارب من موت بلاده الي موته الشخصي بلا خوف... يذهب الي الموت كأنه موعد غرامي... اتصل بالاصدقاء ليلة العملية... همس لهم ... "رعبي كله ان تنجح اعملية واصاب بالشلل... الموت ساعاتها احلي"... الاصدقاء اخفوا لوعتهم : "نريدك ولو مشلولا"... وهو تمدد علي السرير في المستشفي الامريكي... يستعيد ترتيبات الموعد كما كتبها في اخر دواوينه"أثر الفراشة":

<< وان قيل لي ثانيةً: ستموت اليوم،
فماذا تفعل؟ لن أَحتاج الى مهلة للرد:
إذا غلبني الوَسَنُ نمتُ. وإذا كنتُ
ظمآنَ شربتُ. وإذا كنتُ أكتب، فقد
يعجبني ما أكتب وأتجاهل السؤال. وإذا
كنت أتناول طعام الغداء، أضفتُ إلى
شريحة اللحم المشويّة قليلاً من الخردل
والفلفل. وإذا كنتُ أُحلق، فقد أجرح
شحمة أذني. وإذا كنتُ أقبِّل صديقتي،
التهمتُ شفتيها كحبة تين. وإذا كنت
أقرأ قفزت عن بعض الصفحات. وإذا
كنتُ أقشِّر البصل ذرفتُ بعض الدموع.
وإذا كنتُ أمشي واصلتُ المشي بإيقاع
أبطأ. وإذا كنتُ موجوداً، كما أنا الآن،
فلن أفكِّر بالعدم. وإذا لم أكن موجوداً،
فلن يعنيني الأمر. وإذا كنتُ أستمع الى
موسيقى موزارت، اقتربتُ من حيِّز
الملائكة. وإذا كنتُ نائماً بقيتُ نائماً
وحالماً وهائماً بالغاردينيا. وإذا كنتُ
أضحك اختصرتُ ضحكتي الى النصف احتراماً
للخبر. فماذا بوسعي أن أفعل؟ ماذا
بوسعي أن أفعل غير ذلك، حتى لو
كنتُ أشجع من أحمق، وأقوى من
هرقل؟>>

في قصيدته الاخيرة... "لاعب النرد"... اعترف درويش بانه سارق محترف ظل يحاول سرقة نفسه من الجماعة طوال اكثر من 40 عاما( عمره مع الشعر)... سرقة خطرة فالجماعة مهزومة... ومغرمة باناشيده... .كيف يهرب الشاعر من قبيلة تعشقه... انها الحرب الكبري التي حررته و حررت شعره... لم يخجل محمود درويش من هزائمه.الخسارة لاتعيب الشاعر.تمنحه صوتا اصفي.
وقلبا موجوعا لايتحمل المزيد من اللعنات... اللعنة والحب امتزجا دائما في العلاقة بدرويش.هو مثل ام كلثوم نتمرد عليه لكن لا نستطيع الهروب من محبته.

2

مطرب العواطف السياسية

صوت محمود درويش وصلني قبل صورته.استمعت في الجامعة علي شريط كاسيت ملحمته " مديح الظل العالي" عن الخروج من بيروت 1982... اداء درويش يشبه المطربين الكبار... حيث تترك الكلمات حفرا و ندوب علي روحك و جسدك احيانا.مازلت اسمع صوت درويش رغم مرور ٢٠ سنة.مثل الحب الاول او الاكتشاف الاول لمناطق سرية.كانت هذه روعة الشعر وصوته يقتحم الحصون الاولي لكل ما تعلمته... ورغم ان درويش ان عموميا الا انني شعرت انه مكتشف فرديتي الخجولة ... وهي فردية تلهث وراء الالتحاق بجماعة تعرفت علي نشيدها ونشيجها في قصائد درويش.لكنها في نفس الوقت تريد الانفصال عنها.
درويش كان مطرب العواطف السياسية ... لكنه طرب خاص.اختلط في البداية مع اصوات اخري في الكورس الفلسطيني... و سرعان ما انفصل وحده ... بصوت نقل العواطف الي منطقة اعمق... سرق فيها فرديته خطوة خطوة... وسربها الي مغرميه ... الذين لم يكتشفوا سرها الا بعد سنوات طويلة... حينما افشي درويش اسرار السرقة سرا سرا.
عرفت درويش مع سميح القاسم.توأم الشعر الفلسطيني.لكنهما افترقا عندما ادركت ان درويش ليس محترف منشورات ثورية فقط وانه هارب محترف
من اغراء الحبس في قوالب"مغني الثورة"."شاعر القضية"... ورغم عشقه لصوره علي الجدران الانيقة... الا انه يهرب منها... كما هرب من عاشقاته... وبيوته المستقرة ... نسي درويش انه تزوج مرتين .الاولي من الشام وهي ابنة اخت نزار قباني مرشده الاول الي الشعر الحديث و اللغة الراقصة... المحطمة لجمود اللغة والقوافي.والثانية مترجمة مصرية التقي بها اثناد اقامته في القاهرة(1972) حين هرب من الاقامة الجبرية و حصار الحركة داخل فلسطين ... هرب من الحصار والنجاح "المبستر "كما وصفه النقاد وقتها للشاعر الذي كتب "اوراق الزيتون"(1964)و"عاشق من فلسطين" (1969)... لكنه ظل مطالبا حين يخرج من بيته الي مدينة اخي في وطنه بالحصول علي تأشيرة... هرب درويش من الحصار في فلسطين... ولم يرض بحصار الزوجة والبيت في القاهرة... انحاز الي طبيعته فهو يحب الحب نفسه... مغروم بالغرام او كما قال مرة :" احب أن أقع في الحب, السمكة علامة برجي (الحوت), عواطفي متقلبة, حين ينتهي الحب, أدرك انه لم يكن حباً, الحب لا بد أن يعاش, لا أن يُتذكر... "
الحب هو مقامرة تسترعي كل حواس الشاعر... لكن الزواج قيد يساق اليه العاشق بنصف وعي وربع ارادة... ودرويش تغويه الاطارات الاجتماعية الجذابة... كان يستجيب في البداية... يتلذذ بمتعة عمومية ... لكنه يتسلل كما فعل اول مرة مع عائلته ليعود الي ارضه التي اصبح غريبا فيها.
متسلل يخرج حين يرفض الجميع خروجه.وكما لاحقته اتهامات الخيانه لانه خرج من فلسطين الي القاهرة... ظل درويش يخرج من صورة الي صورة و من مدينة الي مدينة و من حالة شعرية الي اخري ... حتي اصبح الخروج اسلوبه في الحياة.
الالفة الاجتماعية مغريةلكنها تقوده الي غربة ... تلو غربة... يهرب من صورة المناضل السجين في زنزانه الي القاهرة... موطن الشهرة في الستينات و السبعينات... لكنه يخون الصورتين مع صورة اخري و يهرب خلف عشق آخر.
جرب درويش العاب الخيانة كلها... خان فرديته و اصبح شاعر القبيلة فترات يغني علي هواها و يجمع جنودها علي ايقاعه العالي... وخان انتظارات الجنود حين نزل من علي صهوة جواد النبوة وكتب عن الحب و الوجود... والفرد الغريب الهارب من قبيلته.
اراد الجمهور ان يسجن درويش في حالة الطرب السياسي... لكنه بعد " ورد اقل" (1986) فتح مدنا جديدة في الشعر... تحولات المنشورات الثورية و البكائيات الي حكايات شخصية جارجة... اساطير صغيرة ... واغنيات لا تسمع طربها عاليا... الجمهور اصر علي اعادة سماع الاغنيات القديمة... الجمهور اتهم المطرب بالخيانة... لكنه لم يرضخ... وقاد الجمهور الي حياة جديدة.

3

عمليه في قلب اسرائيل

"اشم فيك عبير الوطن" هذا ماقاله ياسر عرفات ليجبر محمود درويش للموافقة علي عضوية اللجنة التنفيذية في منظمة التحرير الفلسطينية. موافقة درويش خدشت الصورة الناعمة للشاعر البعيد عن السلطة... كان هذا في 1987 بعد 5 سنوات من خروج الثورة الفلسطينية من عاصمتها المؤقته بيروت.صدمة درويش في خروج بيروت كانت درامية راي فيها تراجيديا النبي يوسف الذي قتله اخوته... تعقدت الماساة الفلسطينية و اصبح الفلسطينيين " يهود العصر" ... صورة درويش و رغم اقترابه من امراء الفصائل الفلسطينية ظلت ناعمة يخفيها المقاتل تحت الوسادة في الجبهة... ويختطف مقولات مأثورة يزين بها محبته للقضية... درويش كان صدم جمهوره وهو يقبل عضوية اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير... ويتحرك كامراء النضال... خشونة درويش مبررة... كان يبحث عن التجربة و الاقتراب من خط النار... كان المنصب يريد التزين بمحمود درويش... واعطاه درويش زينته... لم يبرر خيبات الزعماء... واستقال ليلة توقيع اوسلو ... لانه اكتشف ان الاتفاقيات كابوس صحا عليه الفلسطينين ليكتشفو انهم بلا ماض،.السياسة ارادت محو الماضي الذي حوله درويش الي مخزن شعري ... ودرويش خاف من جنونه علي وقار السياسة ... فانسحب وفشلت الصفقة في ان يكون المنصب هو الظهور العمومي للشاعر الذي تحول الي نجم ... بينما الشعر ... حر في رحلة هروبه... فشلت الصفقة... لكن لعنة المنصب ظلت تلاحق درويش ربما في محاولة لاسترداده الي الجماعة... او املا في صفقة جديد بين السياسة و جنون الشاعر.

الجنون انتصر حتي علي رغبة درويش في المصالحة بين نار الشعر و نار السياسة ... مصالحة تخاف من العزلة في برج بابل... هرب من الابراج الي ميادين واسعة... تجمع فيها عشاق من مراحله المختلفه... ميادين تقبل الشعراء لانهم شعراء اولا... يلعبون و لعبهم يمنح للحياة لذتها الكبري... .عندما اتي للقاهرة كتب مقالا في" الاهرام طالب فيها بنزع صورة الفلسطيني من برواز القضية... عمل في " المصور " حين وصل للقاهرة... وكتب فيها مقالا بعنوان «هل تسمحون لي بالزواج» كتب فيه: «لست بطلاً كما يظن البعض، لست أكثر من فرد واحد في شعب يقاوم الذبح، الأبطال الحقيقيون هم الذين يموتون لا الذين يكتبون عن الموت».

التخلي عن البطولة عمل صعب لم يقدر عليه درويش الذي ظل مطاردا بتهم عن "خيانة القضيةو بيع نفسه للسلطة"... وفي كل مرة يدافع درويش عن نفسه بقفزة اخري ومقامرة اخري ... قفزة الي هوية ارحب... انسانية ... تتراكم فيها طبقات الروح و الذاكرة ... مجمه حضارات... ورموز من كل الديانات... هذه القفزة ابعد من جبهة القتال المباشر... تلك التي جعلت وزير التربية الاسرئيلي... (سنة 2000) يقرر تدريس اشعار محمود درويش... انتصار اعتبره البعض" دليل خيانة"... لكنها بالعكس اكانت عملية في قلب اسرائيل... التي رفض متطرفيها تدريس درويش... وحدهم ادركوا الضربة ... "فهم يدرسون للاطفال ان فلسطين ارض بلا شعب ... واسرائيل شعب بلا ارض... الان سيعرف الاطفال ان فلسطين لم تكن فارغة... والشعر وحده يستطيع اثبات ذلك... يستطيع تحطيم هذه المعرفة" هذا ماقاله درويش... والذي ادركه يهود باراك بحواسه المتطرفة وقال:"ان اسرائيل ليست مهيأة لهذا الشعر".
وهذه حرب في اعادة بناء فلسطين مرة اخري.
حرب كان محمود درويش اول من خطط لها.

4

اشارة من الجنة المفقودة

اكتشف محمود درويش ان امه تحبه في السجن.
اسمها"حوراء" بنت مختار قرية مجاورة لقرية البروة حيث ولد محمود الابن الثاني لرجل يعمل في ارض تملكها عائلته.الاب مسالم وخجول جدا.والاب عصبية جدا وتشاكس في الاب الحزين المتحسر علي الارض... المشاحنات بدات مع الخروج من الارض... ويحكي محمود للشاعر اللبناني عباس بيضون:"... المشاحنات دعتني الي الهروب من البيت ... لكني كنت منحازا لابي ... فامي في طبعها شراسة... كما كانت امي تضربني كثيرا ... وتضربني لاي سبب... وكثيرا ماشعرت ان السبب هو خلافاتها مع ابي وانها تحملني مسئولية هذا الخلاف... تكون لدي شعور بان امي تكرهني ... كان هذا عقدة او شبه عقدة... ولم ادرك ان هذا صحيحا الا حين دخلت السجن للمرة الاولي وانا في السادسة عشرة ... زارتني امي في السجن وحملت لي قهوة و فواكه... واحتضنتني وقبلتني فعلمت ان امي لاتكرهني... "
من هنا خرجت "احن الي خبز امي" لمصالحة الام التي حولت محمود الي الابن المدلل عندما انفصل عن العائلة وعاش في حيفا(حيث اصبح صحفيا و عضوا في الحزب الشيوعي الاسرائيلي المناهض للصهيونية).

القصيدة تحولت الي اغنية جماعية.وام محمود درويش(الجميلة التي تتقن الغناد... واكتسب شراستها عندما تركت الارض و البيت)

الخروج العائلي التقي مع ماساة فلسطين كلها... خرجت العائلة بقيادة الجد... لكنها لم تعد مرة اخري فالقرية اصبحت مستوطنة... والارض ذابت ... وتحول الاب الي عامل زراعي... واطل الجد (الذي لعب دور الاب الحقيقي في ظل انشغال الاب بالعمل في الارض)... علي ارضه من تلة... اصبحت منصة ذكرياته.

اختفي الوطن الشخصي لمحمود درويش في (1948)... واختفت خيوط اتصاله مع يهود عاديين عندما حاصره جيتو المنتصر بعد (1967)... ومع الخروج من حيفا... والسفر باتجاه عواصم اخري و اتساع المدي حرم درويش من العودة خاصة بعد التحاقة بالمنظمة (1973)... ظل يبحث عن فرصة للقاء امه حين اراد وداعها في 2000 (كانت وقتها مصابة بالسرطان)... لكنها فرص ناقصة... يطاردها بالحزن الذي اصبح غريزة ... تعيش تحت غرامه بالملذات و الحياة الناعمة والمعيشة الراقية... ووراء نجوميته و اناقته الدائمة... وخلف متاريس العلاقة مع المتقاتلين علي سلطة هشة.
بالحزن اصبح محمود درويش ملكا من ملوك السخرية السوداء... كان اول من اخترق الاسوار الحديدية التي صنعها العدو... وكسر حائط الثورة ليرسم علي الجدران علامات روبه من الحب القاسي لقبيلته.
هارب ... لا نستطيع الهروب من محبته.
ينام الان منتظرا رحلته الي الجنة المفقودة.
ويتمني لو ارسل من علي غمامته اشارة الي كل الفلسطينيين ليفكون لغز حياتهم... كيف يهربون من مصير الضحية... واساطير الشتات ... الي حياة عادية مألوفة.
متي ستصل اشارة درويش؟

5

عناق الجليل

رغبة محمود درويش في عناق الجليل حملتها رسالة من الاصدقاء... قالوا فيها:"في هذه اللحظات المليئة بالأسى، ونحن نودع شاعرنا الكبير محمود درويش، نرى الحزن مرسوماً على خريطة فلسطين، ونشعر بفداحة الخسارة التي جاءت تتويجاً لزمن الخسارات الذي نعيش.هذا النداء موجّه الى أهلنا في فلسطين الذين كان درويش وسيبقى شاعر الحلم والمعنى في أرضهم. وهو نداء يتعلّق بحقّ شاعر الجليل في أن يعانق أرض الجليل ويستريح في المكان الذي شهد ولادته الشعرية، وملأ قصائده بعطر اللوز والزيتون. يحقّ لإبن الجليل وشاعره أن يُدفن في أرضه، ويجب أن لا يكون في مقدور أحد أن يمنع هذا الفلسطيني الكبير من العودة الأخيرة الى بلاده. هذا نداء موجّه الى الجميع، كي نعمل معاً من اجل أن تستعيد الأرض جسد كلامها، الذي صار شعراً عظيماً كتبه شاعر عظيم."

التواقيع تحمل اسماءانطون شماس، ليلى شهيد، سليم بركات، مرسيل خليفة، الياس صنبر، محمد برادة، فاروق مردم، صبحي حديدي، عباس بيضون، فواز طرابلسي، الياس خوري، طه محمد علي، انطوان شلحت، حنا أبو حنا، رمزي سليمان، محمد بكري، محمد علي طه، محمد نفاع، سهام داوود.
الرسالة تسعي الي عناق الارض والشاعر... عناق ابدي... يضيف للاسطورة ملح و توابل.

تسعي الي عبور درويش من مرحلة الاجراءات الثقيلة لاستعادة الجسد ... استعادة رسمية لوفد من السلطة الفلسطينية... انها عمية استرداد الجماعة للشاعر ... تعليب في محفوظات ونياشين وطقوس محفوظة و جاهزة... تريد السلطة ان تصبح سلطة به... تضعها علي صدرها و في طوابع بريدها... لكنها تنسب اشعاره حكمته الي قالها لهم بعد ان فقد نصف شهوته للحياة ... عندما منع من القهوة و السجائر،
العاشق في حكمته... كان غاضبا من حروب المهزومين.
ورسالة الاصدقاد تريد له الخروج من العلب المحفوظة للسلطة... ليبقي كما اراد جزءا من اسطورة اسمها فلسطين.