موسى حوامدة

هل كان محمود درويش يقبل أن يقال أنه أهم من فلسطين؟ هل حمل محمود درويش فلسطين في شعره ونثره وكتب عنها وعن جبالها وقراها المدمرة وسهولها ومروجها وبحارها، وعن اهلها وشهدائها ومعتقليها ومنفييها ومحتليها ليقال فيما بعد أنه أهم من وطنه؟ أم هل كان محمود شجرة من أشجارها العالية وطائرا من طيورها ونهرا من انهارها، ولونا من خضرتها وزرقتها وعلمها ولحنا من نشيدها وغنائها.

ليس الوقت مناسبا لتسديد الحسابات ولا مقبولا أن يتم تصغير فلسطين ثأرا من نجومية درويش التي فاقت نجومية أي شاعر عربي معاصر، يمكن لنا أن نقول كل شيء عنه، يمكن لنا ان نبكيه بحرقة ونحفظ قصائده وكلماته ونرددها، يمكن أن نهرب من سطوته، أو ننقده، ونختلف معه، ولكن لا يمكن أن نقتله بهذا التمجيد المبالغ فيه، لأنه لم يكن يقبل، ولا نقبل، أن يكون بديلا عن وطنه ولا استعارة مجازية طائشة، تجعلنا نحتفي باللغة ونقيم فيها وطنا، وننسى أن فلسطين أكبر من كل أبنائها ومن مناضليها وقيادييها ومن مبدعيها.
حين صعد نجم راسول حمزاتوف لأنه كتب عن بلاده الصغيرة، لم نقل أنه أهم من داغستان، وحين طار صيت طاغور لم نقل أنه أهم من الهند، وحين حصل نجيب محفوظ على نوبل لم يقل أحد أنه أهم من مصر، وحين ظهر ميلان كونديرا لم يقل أحد أنه أهم من التشيك، ولا قيل ان تولستوي او ديستوفيسكي أو يوفيشنكو او غوركي فرادى او جميعهم أهم من روسيا، ولن يقول احد أن لوركا أهم من إسبانيا ولا أن السياب أو البياتي او الجواهري أهم من العراق، ولا عرار أهم من الأردن، ولا الطيب الصالح اهم من السودان، ولا ولا ....

فلماذا يقال عن درويش وفلسطين ذلك، هل لأن فلسطين صغيرة، وقليلة الشأن، أم لأن شعبها أقل من شعوب الأرض، أم لأنها محتلة ونريد تعويضا، أم لأن درويش أعظم من كل أبناء فلسطين وشهدائها، وأنه كثير عليها، رغم انها حملته ورفعته إلى هذه المكانة.
فلسطين تكبر بأبنائها، وأبناؤها يكبرون بها وبجرحها وبتاريخها وبمعاناتها، وبأصرار شعبها على البقاء، وما أحب الناس محمود درويش لمجرد أنه كان شاعرا فقط، ولا لأنه كان مقربا من ياسر عرفات او من منظمة التحرير الفلسطينية، ولكنهم أحبوه لأنه حمل فلسطين بين ضلوعه، وكان عاشقها وحامل إكليلها وحارس سنديانها، وعرف كيف يحكي عنها وعن أبنائها ويقول ما يفكرون ويألمون ويأملون، وردد اسمها حتى صارت نشيده اليومي.

كان شاعرا كبيرا وقامة عالية، لا شك، لكننا لن نضع أحدا مهما كبر وصار وعلا، بديلا عن بلاده، فهل كان ادوارد سعيد شيئا قليلا؟ وهل كان غسان كنفاني وابراهيم طوقان وإميل حبيبي وتوفيق زياد وراشد حسين وهشام شرابي وابراهيم ابو لغد وناجي العلي وإحسان عباس ومحمد القيسي وفواز عيد، وحسين البرغوثي ، وجبرا ابراهيم جبرا، ونقولا زيادة وعارف العارف وقدري طوقان، وفدوى طوقان، وماجد أبو شرار، وغيرهم بلا أثر؟
وهل يريد البعض أن يقتلوه حبا ومدحا، لكي يقولوا لن تنجب فلسطين سواه، ولن تقوم للشعب الفلسطيني والقصيدة الفلسطينية قائمة بعده، هذا مديح حق أريد به زيف وهجاء.
ستظل فلسطين حية وكبيرة في قلوب أبنائها، ولدى مثقفيها وكتابها وفنانيها، ولدى مناضليها وشهدائها واجيالها، ولن تشعر فلسطين بالصغار والضعف مهما خسرت وخسر اهلها، لأنها تعرف أن درب الحرية طويل ودرب النصر طويل، لكنها لن تخفض رأسها، لو مات منها رئيس او شاعر او مناضل أو قبيلة بأكملها، ولن تستسلم لغير مستقبلها وهويتها وتجديد خلاياها في كل وقت ولحظة، وقد قررت منذ فجر التاريخ ألا تموت.

Musa.hawamdeh@gmail.com