الخليج الإماراتية 14/8/2008

سعد محيو

I

لا معنى للتاريخ إذا لم يصنع بيد تُمسك القلم وأخرى تداعب السيف. ولا معنى لهذا المعنى، ما لم يولد من رحم الحق والعدل، ليتنشق بعد ذلك رحيق الحرية حتى ولو كان مكبلاً بالأغلال.
الأنبياء غير المسلحين انتهوا جميعاً إلى المقصلة لأنهم حملوا الكلمة ونسوا السيف. والأدباء والشعراء والفنانون كانوا، وما زالوا، يرحلون بلا أثر إذا لم يرفعوا لواء قضايا وقيم ومبادئ تبقى حتى بعدما يفنى الوجود.
محمود درويش كان من رعيل القلم والسيف والنبوة الإنسانية المدججة. ولذا كان. ولذا سيبقى.

كيف فعل؟
أثبت بالشعر والنثر والنضال والدم والدموع أن أحداً لا يستطيع إخراج فلسطين من التاريخ. وحينها نجح هو في الدخول بفلسطين ومع فلسطين إلى التاريخ من أوسع أبوابه.

II

الأرض عند محمود درويش هي جنة عدن. وفلسطين هي جنة عدن المفقودة. وكما الأرض تموت وتنبعث كل شتاء وربيع، يمكن لمخلوقات الأرض أن تقوم من بين ركام المأساة والتيه والتشرد لتعيد بناء الحاضر بحجارة الماضي.

حلم مستحيل؟
ليس لمحمود درويش. فهو شيّد صرحاً لفلسطين أجبر عبره كل ألسنة الأرض على اللهج باسمها والاعتراف بوجودها وأحياناً التطوع للشهادة دونها. ابن عكا فعل ذلك وهو يبكي ويبتسم. وهو ينزف ويداوى. وهو يطوف كل أرجاء المعمورة في النهار فيعود في المساء إلى فلسطين ليركع ويصلي ويلثم ترابها وعشبها وزيتونها وزيزفونها.

إنها الأرض - الجنة المفقودة التي وجدت في محمود درويش ملاذها.

III

وكما الأرض، كذلك القصيدة.
أكثر من 40 كتاب شعر نُذرت كلها لفلسطين، ففجّرت في الأدب العربي المعاصر موجة إبداع وتحديث قل نظيرها، وجعلت محمود درويش عنواناً بدل أن يكون اسماً، ومدرسة بدل أن يكون مدرّساً، وعملاقاً بدل أن يكون بشراً.
حين مات محمود بكت القصيدة، وتحركت العصور لتقدم واجب العزاء، وأعلنت النجوم الحداد.
لكن محمود الفكرة والدمعة والابتسامة باق، ومعه وبه ستبقى فلسطين إلى الأبد.
سجّل أن محمود درويش عربي.

***

ما أجمل ورد هذا القبر!

رشاد أبو داود الوقت 14/8/2008

غداً، يقولون ما أجمل ورد هذا القبر، ما أبقى هذا الميت. غدا يزورك، نزورك، نقرأ الفاتحة على روحك التي فينا. ونتلو كثيرا كثيرا من شعرك. نمد رموشنا في التراب علها تمسد شعرك.
غداً، يأتونك من كل أرض لك فيها أرض، فيها بيت، فيهما إنسان لم يحتمل قلبه الفجيعة. يحدثونك باثنتين وعشرين لغة قرأت شعرك. لمست وجعك. يتحدثون عنك.. من منهم قرأك أكثر، أحبك أكثر، فهمك، أحسك، حسدك، اختلف معك، واختلف عليك.
غداً، يأتونك من كل جرح عميق.. ما أعمق جرح المنفى والمنفي حين يكون الوطن شهقة أوردة، ها قد شهقت ورحلت وتواريت لكننا نراك، نحفظك عن ظهر قلب من قلب قصيدة. سيقول أحدهم تعلمت منه الـ ''أنا'' العصية على الزوال، وكيف يكون النوم أبيض وكيف أَجُرّ المكان برسن العبارة.وكيف الكلمات وحدها المؤهلة لترميم ما انكسر من زمان ومكان و.. كيف أضع قمرا على صفصافة.
سيقول آخر: علمني ان المنفى سوء تفاهم بين الوجود والحدود واختبار لقدرة النرجس على الزهو والتواضع معا. وأنه ان أوجعك ولم يقتلك ارجعك إلى مهد الخيال وقوّاك وساواك بمن يسهرون على تدجين الغامض.
سيقول ثالث: تعلمت منه ان أتبع الحلم بما أوتيت من ليل وان اكون إحدى صفات الحلم وان أحلم لأجد الفردوس في موضعه.. ان ابني لي حلما.و.. سيقولون كلهم بقلب واحد: علمنا محمود درويش الحب. كيف يرتفع الجسد إلى مقام الروح، وتتعارف الأرواح وتتآلف حول الشكل المتلألئ بالجوهر.وكيف ان الحب هو اكتمال المعنى باللامعنى والانخطاف الذي يلتبس فيه الشفق مع الاشراق وهو.. ما لا تعرف وتعرف أنك لا تعرف. وكيف أنك لا تُعرِّف الحب إلا عندما تحب وان وجدت له تعريفا وتبريرا يتلاشى كغيمة حلبتها يد ساحرة.
الآن نعرف حزنك المصقول يا محمود ولماذا قلت لو لم تكن الأرض كروية لواصلت المسير. كان الصدع عميقا والضربة اخترقت القلب. ليس قلبك وحدك.الغريب الذي لم يعد غريبا منذ احتضن سر الغريبة، عاد غريبا.. المساحة الوردية القطعة من وطن، الموشحة بالعمق المقدس هربت سماؤها مع سحب الغباش. لم يعد يغني، لم تعد تغني: ضمني كالطيور في ليالي الصقيع لننهض مع أشعة الفجر ونحن.. نغني!
غداً يقال.. ما أَحَنّ قبر هذا الورد!

***

درويش... والطريق إلى فلسطين

وليد نويهض

الوسط 11/8/2008

«أيها المارون بين الكلمات العابرة
احملوا أسماءكم، وانصرفوا».
شاءت المصادفة أن يتوقف قلب الشاعر الراحل محمود درويش في المنفى. ورحلة درويش بين منفى ومنفى تختصر حياة شعب قيض له أن يعيش خارج الوطن يبحث عن طريق للعودة. وطن الفلسطيني هوية. وهوية فلسطين تحولت إلى رمز أقوى من الأرض والدولة.محطة درويش الأخيرة هي لحظة عابرة في رحلة عمر بدأت بالاقتلاع. وحين تبدأ طفولة شاعر بالاقتلاع والنزوح القسري والطرد من أرضه تصبح المحطة الأخيرة من رحلته مفهومة.
الرحيل إلى لبنان كان خطوة الطفل التالية. وهناك سيكتشف والده بعد سنة أن البقاء خارج الأرض ينتظر العودة. وحلم العودة أخذ يبتعد زمنياً فقرر التسلل إلى فلسطين. فالعودة تسللاً أسرع من انتظار العودة. عاش درويش فترة المراهقة مطارداً وملاحقاً ولم يكن أمامة من خيار آخر سوى الانضمام إلى الحزب الشيوعي في اعتباره الملجأ الوحيد المتاح آنذاك أمام الأقليات العربية للقراءة والتفكير والكتابة. وحين بدأت أنباء الثورة تصل إلى أبناء الأرض التي كانت تتعرض للهدم وإعادة البناء لاستقبال «مهاجرين» للتوطن أخذت تتشكل في مخيلة الشاعر صورة العودة المضادة.
وهكذا قرر الشاعر السفر بعد أن تطور وعيه الشقي وضاع بين خيار الأرض (الحزب) وخيار العودة (البندقية). خيار المغادرة كان نتاج الوعي الشقي الذي ظهر في مخيلته حين توافر له خيار آخر. وانتهت فترة الضياع بين الأرض والبندقية فاختار درويش المغادرة والالتحاق بالثورة.
بيروت كانت محطة غنية في حياة الشاعر. فهناك اكتشف الكثير من خفايا الصورة. وهناك تعرف على شعر من نوع آخر. ومن تلك المدينة أعاد درويش النظر في بناء هيكل القصيدة فأدخل على شعره تعديلات رمزية تربط القضية بالعاشق.
محطة بيروت أعادت تشكيل الصورة فارتسمت في المخيلة مقطوعات فنية منثورة رفعت القضية إلى مستوى الرمز والمرأة إلى مكان القضية. ومن تداخل الوان الجسد بحلم الأرض بدأ «عاشق من فلسطين» يتقدم نحو طور جديد من الشعر يبتعد قليلاً عن البندقية ويقترب أكثر إلى العودة.
حلم بيروت لم يستمر طويلاً. فمن طرده عنوة من قريته في العام 1948 زحف إليه مجدداً ليعاود طرده من المدينة في العام 1982. رحل درويش عن المدينة التي أحب. فهي كانت «الخيمة الأخيرة» في محيط شاسع لا يحتمل لجؤ شاعر.

المارون... العابرون

بعد الخروج من ملجأ بيروت دخل درويش محطة الشتات المنظم. فالشتات هذه المرة كان أقرب إلى القرار وليس خياراً مفروضاً. فهو خسر بيروت وغير قادر على العودة... فذهب إلى عمّان وتونس واستقر في باريس ليبدأ رحلة العودة إلى التاريخ. وهناك قرأ تاريخ الأندلس واكتشف الهزيمة وكتب عن أساطيرها. ومن تلك المحطة أعاد ترتيب مشاهد الصورة من الاقتلاع إلى النزوح إلى العودة تسللاً إلى الوعي الشقي والضياع بين الأرض والبندقية إلى اختيار المغادرة وعشق الثورة ثم الطرد من الخيمة وعبور بحر من الشتات المنظم.
بعد كل هذا اكتشف الشاعر أنه من الخطأ انتظار العودة. فهذا الحلم لانهاية له وهو أشبه بالنوم الطويل من دون يقظة. قرار العودة جاء بعد مخاض أليم. فالقرار كان أقرب إلى حد السيف فهو إما ألا يكون أو يكون بشروط. وبين العدم والاحتمال اتجه الشاعر إلى خيار العودة المشروطة بعد أن امتدت فترة الشتات المنظم. وهكذا رجع الشاعر من الشتات ليبحث عن مكان ضائع. عبور درويش إلى فلسطين كان أشبه بعودة المسافر لا المقاتل. فالأخيرة عنيفة بينما الأولى أقرب إلى حنين عاشق لحبيبة. وفي منطقة العودة تشكلت في المخيلة صدمة واعية اكتشفت الواقع على حقيقته وأعطت صورة بعيدة عن الحلم وما يعنيه من إشارات ورموز.صدمة الوعي كان لابد منها بداية تمهيداً للانتقال إلى طور أعلى بدأ يتكون في محطته الأخيرة حين أخذت تتشكل من تضاعيفها قراءة تكتب بالكلمات مشاهد قلقة تعكس بدء وعي الصدم.
في لقاء هاتفي أجرته صحيفة «الحياة» مع الشاعر سألته عن انطباعاته بعد عودته فقال «الطريق إلى فلسطين أجمل». درويش حاول أن يختزل مشاعره في فكرة تشير إلى الرمز. فالكفاح من أجل العودة أقوى من العودة. والحلم يتلاشى بعد اليقظة. فالحلم رمز وحين يتحقق تتراجع الرمزية لترتفع مكانها الواقعية.
الطريق إلى فلسطين تختصر حياة الشاعر درويش منذ لحظة الاقتلاع العنيف إلى العودة المشروطة. والطريق في هذا المعنى هي الأجمل لأنها تحمل في مخيلتها الرمز والحلم. ومن يحلم بالحبيبة تختلف مخيلته عن العاشق الذي يبحث عن فرصة ليجتمع بها، وأجمل القصائد كتبت عن عاشقين لم يجتمعا. فالحلم يحصن التوقعات ويرفعها من الواقع إلى الرمز بينما اليقظة تهبط بالحلم من الرمز إلى الواقع. بين الواقع والرمز عاش درويش حلم العودة على طريق فلسطين. وعندما عاد اكتشف الفارق بين لقاء الحبيبة وحلم اللقاء بها. فالعودة ثقافة وثقافة العودة أجمل أحياناً من العودة. والمقاومة ثقافة وثقافة المقاومة أقوى من المقاومة. الرمز أقوى وأجمل وأفعل. وحين يبتعد الرمز عن السلاح تتلاشى قيمته ويتحول السلاح إلى سلعة تستخدم في كل الاتجاهات... وقطعة حديد لا تتورع في الارتداد إلى الداخل.
قيمة الشيء أحياناً ليست في ذاته وإنما في وظيفة القيمة وارتفاعها إلى رمز أو حلم. وحين يصبح الحلم حقيقه تبدأ معركة الإنسان لمنع سقوط الرمز إلى الواقع. وهذا ما قصده درويش حين صرح بأن «الطريق إلى فلسطين» هو الأجمل.
شاءت المصادفة أن يتوقف قلب درويش في غرفة العناية الفائقة في مستشفى في مدينة هيوستن الأميركية. فالشاعر مضى إلى محطته الأخيرة لكن كلماته ستبقى ولن تعبر وتمر.
«أيها المارون بين الكلمات العابرة،
آن أن تنصرفوا
وتقيموا أينما شئتم، ولكن لا تموتوا بيننا».

***

الوقت 10 أغسطس 2008

محمود درويش.. وتكبر في الموت أيضاً!

رشاد أبو داود

صهل الحصان، لم يسقط. واصل جموحه. وكما أوصانا، الحلم لا ينتهي، طالما هناك حالمون. محمود الحالم جزء من فلسطين التي في البال. رحل ولم يغب. مات.. لم يمت.. ويظل حاضرا في حضرة الغياب.تجسدت فلسطين بصورة شاعر. شاعر منحوت من جذع زيتونة واللحاء قلب شفيف، موجة بحر عطشى للبحر، لكن العطش للوطن ظل الأقسى حتى جفت شرايين الشجرة الباسقة.
لكأن حاسة الفلسطيني كانت تعلم. لكأن حساسية الشاعر أنبأت محمود درويش ان المشوار انتهى وان الطريق إلى ''الربوة'' ما زال طويلا.. طويلاً.
كلنا يشبهه.. يشبهنا كلنا. كان صورة من صور وصور في صورة الإنسان في الأرض، اللاجئ في وطنه العربي في مائه الناشف، وكان نبع الجفاف في قمة الجبل ولا جبل سوى فلسطين لكن البئر محتلة أو.. مختلة!
في آخر مرة، في آخر شتاء زرته برفقة الصديق زهير أبوشايب. وكانت عمّان في أوج بردها ومحمود في ذروة محموده. يتدفق شعرا تحسه يتسرب من باب شقته في ''عبدون''.. وأيضا كان ينز ألماً لما وصل إليه حال الفلسطينيين من سلطويين وحماسيين. تحدثنا ثلاث ساعات. وكلما هممنا بالخروج كان يقول: وين بدكم تروحو.. خليكم شوي. نشرب قهوة مرة ثانية. يذهب إلى المطبخ. يعد القهوة ويأتي بها. يقدمها بيديه اللتين واحدة كتبت فلسطين شعرا عالميا. والثانية.. مكتوبة بضوء لم يخفت منذ تشقق قمر فلسطين ذات 1948 وسال دمه.. دما، جوعا، تشرداً، شعراً، ثورة، مقاومة، حرباً، سلاماً، لا سلاماً.
قلت لمحمود: إلى أين نمضي؟! قال اسأل حماس وفتح!! و.. صمت من ذاك الصمت الذي يحكي الكثير.
مات محمود بعيداً عن قهوة أمه وخبز أمه ولمسة أمه. ظل السؤال سؤال: لماذا تركت الحصان وحيداً..
ومازال التاريخ يسجل: أنا عربي.
سلاماً يا محمود.. سلاماً عربياً.. فلسطينياً أممياً و... العابرون يظلون في كلام عابر!