بقلم: عرفات فيصل
(ناقد عراقي)

العمل الأدبي هو إنتاج ثقافة قد تكون ثقافة مجتمع، بيئة، عصر، وقد تكون ثقافة شخصيّة يمتلكها المبدع، كما قد تشتمل الاثنين معاً. فالقصيدة العربية، سواء أكانت قديمة أم حديثة، هي فعل كلاميّ للشاعر يحاول فيها الإفادة من خبراته المعلوماتية في بناء قالبه الشعريّ. وبمعنى آخر، هو يحاول الاتكاء على تلك الثروة الثقافية التي تميّزه عن غيره في سبيل خلق قصيدته الخاصّة به. ونازك الملائكة شاعرة أحاطت بالثقافة، والثقافة أحاطت بها. فقد أحاطت بالثقافة الإنكليزية والفرنسية واللاتينية، فقرأت لشكسبير، وترجمت إحدى سونتاته، وقرأت لشيلي وكيتس وبيرون وتوماس غري وسواهم(1)، كما أحاطت بها ثقافة مجتمع نبغ فيه عدد من الأدباء، إضافة إلى ثقافة أسرية تحصّلت من كونها البنت الكبرى لعائلة عُرفت باهتماماتها الأدبية. فأمّها، في أولى سنواتها المبكرة، كانت تكتب الشعر وتنشره في المجلاّت باسم أدبيّ هو «السيدة أم نزار الملائكة»، وكانت الشاعرة تعرض عليها قصائدها الأولى وتناقشها فيها. وأبوها كانت له دراسات كثيرة أشهرها موسوعة «دائرة معارف الناس» في عشرين مجلّداً، وكان ينظم الشعر أيضاً. وخالها الدكتور جميل الملائكة الذي ترجم «رباعيات الخيام» عام 1957م كان شاعراً. وأخوها نزار كتب الشعر وإن بشكل مقلّ (2). من هنا امتلكت شاعرتنا، بالجمع بين هاتين الثقافتين، ثراء ثقافياً ساعدها كثيراً في صوغ قصائدها. ومن تلك الثروة الثقافية التي تملكها شاعرتنا الحكايات الشعبية، أو ما تُعرف بقصص الجدّة. تلك الثروة الثقافية التي لا يستطيع أي إنسان، والشاعر إنسان قبل أن يكون شاعراً، أن يتخلّص من ظلالها، لذلك تجدها في لحظات شعورية أو لاشعورية، حتى في نسيج العمل الأدبي للمبدع نفسه.

لاواقعية الأحلام - لاواقعية الإسناد

تبدأ الشاعرة قصيدتها «لعنة الزمن» بالحديث عن الماضي غير المرغوب فيه: «كان المغرب لون ذبيح/ والأفق كآبة مجروح/ والأشباح الغامضة اللون تجوس الظلمة في الآفاق/ والنهر ظنون سوداء/ والريح مراوح نكراء/ والضفة أرض جرداء/ تمضغها الظلمة في استغراق/ كانت خطوات الظلمة ترطم جوّ الشاطئ في استغراق/ والصمت يفكّر في الأحداق».

فالأشباح والظلمة في ماضي الشاعرة، وما يحيلان عليه من مشاعر خوف وقلق، قد ألقيا بظلالهما على أغلب قصائدها، حتى صارت تسجيلاً للحظات نفسيّة استطاع بعض الباحثين من خلالها تدوين تلك اللحظات اللاشعورية للوصول إلى أعماق ذات الشاعرة (3). ولعلّ عقل الشاعرة المشحون بحكايات الطفولة الخرافية، أو الأسطورية، هو الذي حتّم عليها أن تكتب بهذه الطريقة التي تصوّر فيها الماضي غير المرغوب فيه، بأسلوب يدعو إلى اليأس، ليتماشى مع العنوان الذي اختارته، عن قصد، لقصيدتها «لعنة الزمن»: «كنّا نرقب كأس الأفق/ ترضع من أوشال الشفق/ وتصبّ الحمرة في قلق/ في سيقان صفر الأوراق/ في سيقان عرّتها الريح من اللون، من الأوراق/ ومضت تبكيها في إشفاق/ كنّا كالأمواج الخرس/ في عينينا لون الشمس/ في وجهينا الوقرين خشوع المغرب والأبد الخلاّق/ كنّا نهمس كالأنداء/ كصدى مجداف في الماء/ لم تقطع صمت الظلماء/ بمدامع ذكرى أو أشواق/ كنّا قد كفّنّا الماضي ودفنا اللهفة والأشواق/ في الظلمة في صمت الأعماق».

فالماضي لدى الشاعرة، ونتيجة لما امتلأت به ذاكرتها من حكايات وأساطير سمعتها من أهلها أو قرأتها، أصبح حزيناً لا طعم فيه، حتى في لحظاته السعيدة المتمثّلة بأحلام العشّاق: «وقفنا في الظلمة نحلم/ بالموج وبالليل المبهم/ ونحوك من الأنجم والرؤيا والأمواج لنا أطواق». هذه الأحلام لا تكتمل في ماضيها الذي قُدِّر له أن يكون التابع الذي يقتفي أثرها، والذي تستطيع الهرب منه: «لكن إذ كنّا نحلم/ أحسسنا شبه صدى مبهم/ في الأمواج الداكنة الصمت، سمعنا شبه صدى خفّاق/ الجنيات المنتقمات/ يصعدن إلينا في عربات».

وليست الأشباح وحدها التي ارتبطت بالذكريات، أو حكايات الجدّة، بل إن التفاؤل، أو التشاؤم، بأشياء معيّنة أيضاً، مرتبطان بذكرياتنا، ولهما ظلال من ماضينا. فإذا كنت ذاهباً إلى مكان معيّن وصادفك قطّ أسود فهذا نذير شؤمٍ، وإذا اشتركت في مسابقة، وجاء تسلسلك 13، فهذا لا يدعو إلى التفاؤل، وكذا السمكة الميتة في هذه القصيدة: «وصرخت: رفيقي، أين نسير؟/ لنعد، فالجثة همس نذير/ أرسلها عملاق شرير/ إنذار أسى ودليل فراق».

تكتب نازك الملائكة قصيدتها هذه بلغة تتلاءم والموضوع الذي اختارت كلّ لفظة فيه بعناية، حتى أننا نستطيع أن نجزم بقصديّتها، فلفظة الليل، أو الظلمة هنا منتقاة لتساير الموضوع الرئيس في القصيدة، فلو أننا استبدلنا الظلام بالنور في هذه القصيدة لما أعطت المعنى المتكامل لها، لأن الأحلام ارتبطت سيكولوجياً بالليل والظلام، فما بالك إذا كانت هذه الأحلام عبارة عن كوابيس تلاحق الشاعرة أينما ذهبت: «وبقينا نهرب والسمكة/ تتبع أرجلنا المرتبكة». ثم إن التشخيص، هذا الضرب القديم من البلاغة العربية، والذي يوحي بلامعقولية الأشياء، نجده حاضراً بقوّة في هذه القصيدة ليوحّد بين لاواقعية الأحلام والذكريات ولاواقعية الإسناد في التركيب البلاغي المتمثّل بالتشخيص؛ فللزمن لعنة، والظلمة تمضغ، والصمت يفكّر، وللضوء نعش كالإنسان، واللاشيء له خطو، وللأفق كأس ترضع من أوشال الشفق، والأمواج خرس ولها عينان فيهما لون الشمس، والمغرب والأبد الخلاّق لهما خشوع، والماضي يُكفّن، واللهفة والأشواق تُدفن، والمغرب يريق ألوانه، والأشباح حيرى، والريح حالمة، والشاطئ يُشفق، والأحداق لها لعنة، والقمر له وجه ومبسم برّاق... وهي تكتب أيضاً، وتقصد ما تكتبه، بجمل لامنطقية لأنها تتناول في قصيدتها هذه موضوعاً مرتبطاً بالحلم من جهة، والذكريات التي يشوبها شيء من الضبابية من جهة أخرى. لذلك فارتباط نفسية الشاعرة - العاشقة بحكايات الطفولة ومعرفتها التراكمية بأبعاد الحلم، ساعداها كثيراً على رسم هذا المشهد، فتلك الترسّبات التي ما زالت عالقة في ذهنها، والتي لا يحدّها منطق أو نظام، وكذلك الحلم، أجبراها على اختيار جمل لامنطقية، من حيث أن لامنطقية الأشياء في هذه القصيدة تعطيها مجالاً أكبر للتعبير عن عدوّها الأزلي (الزمن)، فللجنّيّات عربات، وهذه العربات مصنوعة من عطر الأزهار الخجلات: «ونجوب العالم في عربات/ صنعتها أذرع جنيات/ من عطر الأزهار الخجلات/ من أسلاك الضوء الألاّق» (من يقرأ هذين السطرين لا بدّ من أن تقفز إلى مخيلته وصفة المشعوذين اللامنطقية في خلط المواد).

لقد نجحت الشاعرة في قصيدتها هذه بتجسيد موضوع القصيدة عبر تقنيتَي التوظيف والاختيار، فوظّفت بعض حكايات الطفولة، وما قرأته من خرافة وأساطير في القصيدة، مختارةً لها لغة تسير في ركاب موضوعها بحيث لا تطغى اللغة على الموضوع، ولا الموضوع على اللغة.

الهوامش:

  1. دارسة في شعر نازك الملائكة، د. محمد عبد المنعم خاطر، الهيئة المصرية العامّة للكتاب، 1990، ص 13.
  2. المصدر نفسه، ص 15.
  3. يُنظر ما كتبه الدكتور محمد فتوح أحمد تحت عنوان «الرمزية النفسية» في كتابه «الرمز والرمزية في الشعر المعاصر»، دار المعارف، القاهرة، ط 3، 1984، ص 265، وما كتبه الدكتور مسلم حسب حسين تحت عنوان «بنية التكافؤ والتضادّ، وآلية الترميز في شعر نازك الملائكة» في كتابه «جماليات النصّ الأدبي (دراسات في البنية والدلالة)»، دار السيّاب، لندن، 2007، ص 132.