1
أعبّر عمّا تحسّ حياتي
وأرسم إحساس روحي الغريبِ
فأبكي إذا صدمتني السنين
بخنجرها الأبديّ الرهيبِ
وأضحك مما قضاه الزمان
على الهيكل الآدميّ العجيبِ
وأغضب حين يُداس الشعور
ويُسخر من فوران اللهيبِ
2
كم في سكون الليل، تحت الظلامْ
رَجَعْتُ للماضي وأيّامهِ
أبحث عن حبّي بين الركامْ
فلم تصدني غير آلامهِ
3
وأصبحتْ ذكراكَ وهماً يلوحْ
يشتاقه قلبي الكئيب الغريرْ
يا جسداً، كالقبر، ما فيه روحْ
سمّيتُه قلباً، فيا للغرورْ
4
أضواؤكِ الراقصات جميعها
يا شمسُ أضعف من لهيب تمرّدي
وجنون ناركِ لن يمزّق نغمتي
ما دام قيثاري المغرّد في يدي
فإذا غمرتِ الأرضَ فلتتذكّري
أني سأُخلي من ضيائكِ معبدي
وسأدفن الماضي الذي جلَّلتهِ
ليخيّم الليل الجميل على غدي
5
فأنا يا بحارُ شاعرة الأحلام
ضمّختُ بالفتون نشيدي
وتغنّيتُ بالحياة ولكن
لم تبرّ الحياةُ لي بالوعودِ
6
فوداعاً من قلب عاشقة الليل
وداعاً وأنتَ يا موت هيّا
هكذا تذبل الحياة ويخبو
لحنُ أحزانها على شفتيّا
7
إيه يا ضفّةُ ما ذاك الخيالُ؟
فوق صدر الموج، تحت الظلماتِ
أإلهٌ قد تصبّاه الجمالُ؟
أم غريقٌ عزّه حبل النجاةِ؟
8
ما زلتُ، منذ ذهبتَ، حيرى في الدجى
شهِدَ الأسى أني لزمتُ مكانيا
ما زال روحي راعشاً متمزّقاً
يستنطق السرّ الغريب الخافيا
وهمي يصوّر لي خطاكَ ووقعها
فإذا أصختُ صحوتُ من أحلاميا
لا شيء غير الريح تعصف في الدجى
لا شيء غير تنهّدي وبكائيا
9
كلّ صوت في الدجى رعب جديدْ
عند مَن قد كان مثلي مُفرَدا
ذا فؤادٍ مرهف الحسّ شريدْ
دَفَن الأمسَ ولم يرجُ الغدا
10
طبيعتها أبداً باكيهْ
فصمت الدجى وأنين الرياحْ
وتنهيدة النَّسَم الساريهْ
ودمع الندى في عيون الصباحْ
11
ومضى العام كلّه، كل يومٍ
أتلقّى الصباح بالأحلامِ
كلّ يوم أقول: يا قلبيَ الظمآن
للصحوِ لا تضقْ بالغمامِ
ربّما أشفقتْ بنا الصُّدَف العمياء
هذا الصباح بعد الظلامِ
لن يضرّ الأقدار في ليلها أن
تتلقّاكَ مرّةً بابتسامِ
12
ها أنا أرحل، يا أشجارُ، عنكِ
تحت عبءٍ من شرودي وخشوعي
ليتني أجرؤ أن أُلقيْ عليكِ
نظرةً ثانيةً، دون دموعِ
منتخب «شظايا ورماد» 1949
كبرياء
لا تسلني عن سرّ أدمعي الحرّى
فبعض الأسرار يأبى الوضوحا
بعضها يؤثر الحياة وراء الحسّ
لغزاً وإن يكن مجروحا
(...)
ومئات الأسرار تكمن في
دمعة حزن تلوح في مقلتينِ
ومئات الألغاز في سكتة تهتزّ
خلف انطباقة الشفتينِ
وعيون وراء أهدابها
أشباح يأس في حيرة وانكسارِ
تؤثر الظلّ والظلام ارتياعاً
من ضياء يبوح بالأسرارِ
(...)
وشفاه تموت ظمأى ولا تسأل
أين الرحيق؟ أين الكأسُ؟
ونفوس تحسّ أعمق إحساسٍ
وتبدو كأنها لا تحسُّ
(...)
لو تكلّمتُ كيف ترتعش الأشعار
حزناً. وترتمي في عياءِ
لو كشفتُ السرّ العميق فماذا
يتبقّى منّي سوى الأشلاءِ
لو تكلّمت رعشةٌ في حياتي
وكياني تلحّ أن أتكلّمْ
وسكوتي العميق يكتم أنفاسي
وقلبي يكاد أن يتحطّمْ
(...)
وتظلّ الحياة تخلق من وجهي
قناعاً صلداً يفيض رياءا
جامداً بارداً أصمّاً ويخفي
بعضَ شيء سمّيته كبرياءا
يوتوبيا الضائعة
(...)
سأبقى تجاذبني الأمنيات
إلى الأفق السرمديّ البعيدْ
وأحلم أحلم لا أستفيق
إلا لأحلم حلماً جديدْ
(...)
صراع
(...)
تعذّبني حيرتي في الوجود
وأصرخ من ألمي: من أنا؟
مُنحتُ عيوناً تحبّ الدموع
وقلباً يحبّذ أن يُطعنا
(...)
أحدّق من قمّتي في الثرى
فيُضحكني دودُه الناخرُ
وأضحك ضحكة ربّ كئيب
تمرّد مخلوقه الكافرُ
(...)
أريد وأشعر أني أحسّ
ويسخر مما أحسّ الوجودْ
وأرغب في حلم غامضٍ
فليس له هيكلٌ أو حدودْ
(...)
ففي عمق نفسيَ صوتٌ غريب
يعلّم قلبي ازدراء الحياهْ
ويصرخ بي: أهربي أهربي
ويُتعب إحساسَ روحي صداهْ
فأهتفُ يا عالمي: لا أريد!
وتصرخ بي ذكرياتي: النجاهْ!
(...)
أحبّ وأكره ماذا أحبّ
وأكره؟ أيّ شعور عجيبْ؟
وأبكي وأضحك ماذا ترى
يثير بكائي وضحكي الغريبْ؟
أريد وأنفر، أيّ جنونٍ
حياتيَ؟ أيّ صراع رهيبْ؟
لماذا أغنّي؟ لماذا أعيش؟
ومنذا أصارعه، من يجيبْ؟
عندما انبعث الماضي
أمسِ في الليل وكانت صور الأسرار شتّى
تتصبّى حاضري الغافي وكان الأمس مَيْتا
خِلتُني كفّنته ذات مساءِ
وتحصّنتُ بدعوى كبريائي
سمعتْ روحيَ في إغفاءة الظلمة صوتا
لم يكن حُلْماً خرافيّ الستورِ
بعثته رغبةٌ خلف شعوري
كان شيئاً، كان في صمت الدجى صوتكَ أنتا
ذلك الصوت الذي يعرفه سمعي مليّا
صوت ماضيّ الذي مات وما خلّف شيّا
غيرَ أشتاتِ احتقارٍ باهتِ
رسبتْ في قعر قلبي الصامتِ
(...)
ومضى عامان ممطوطان مَرّا في شحوبِ
كان عمري خربةً يصبغها لون الغروبِ
تذرع الأشباحُ في الصمت دجاها
ويعيش البوم في ظلّ أساها
كلما جالت بيَ الحيرةُ في القبو الغريبِ
مدّت الذكرى ذراعيها إليّا
لونُها يخلق من رعبيَ دنيا
ويثير الوترَ الميّتَ في قلبي الكئيبِ
(...)
مرّ القطار
الليل ممتدّ السكون على المدى
لا شيء يقطعه سوى صوتٍ بليدْ
لحمامة حيرى وكلب ينبح النجم البعيدْ،
والساعة البلهاء تلتهم الغدا
وهناك في بعض الجهاتْ
مرّ القطارْ
عجلاته غزلتْ رجاءً بتُّ أنتظر النهارْ
من أجله.. مرّ القطارْ
وخبا بعيداً في السكونْ
خلف التلال النائياتْ
لم يبقَ في نفسي سوى رجعٍ وَهُونْ
وأنا أحدّق في النجوم الحالماتْ
أتخيّل العرباتِ والصفَّ الطويلْ
من ساهرين ومتعبينْ
أتخيّل الليلَ الثقيلْ
في أعين سئمت وجوه الراكبينْ
في ضوء مصباح القطار الباهتِ
سئمتْ مراقبة الظلام الصامتِ
أتصوّر الضجر المريرْ
في أنفسٍ ملّت وأتعبها الصفيرْ
هي والحقائب في انتظارْ
هي والحقائب تحت أكداس الغبارْ
تغفو دقائقَ ثمّ يوقظها القطارْ
ويطلّ بعض الراكبينْ
متثائباً، نعسانَ، في كسلٍ يحدّق في القفارْ
ويعود ينظر في وجوه الآخرينْ
في أوجه الغرباء يجمعهم قطارْ
ويكاد يغفو ثمّ يسمع في شرودْ
صوتاً يغمغم في برودْ
«هذي العقارب لا تسيرْ!
كم مرّ من هذا المساء؟ متى الوصول؟»
وتدقّ ساعته ثلاثاً في ذهولْ
وهنا يقاطعه الصفيرْ
ويلوح مصباح الخفيرْ
ويلوح ضوء محطّة عبر المساءْ
إذ ذاك يتئد القطار المجهدُ
... وفتىً هنالك في انطواءْ
يأبى الرقاد ولم يزل يتنهّدُ
سهران يرتقب النجومْ
في مقلتيه برودة خطَّ الوجومْ
أطرافها.. في وجهه لون غريبْ
ألقت عليه حرارةُ الأحلام آثار احمرارْ
شفتاه في شبه افترارْ
عن شبه حلم يفرش الليل الجديبْ
بحفيف أجنحة خفيّات اللحونْ
عيناه في شبه انطباقْ
وكأنها تخشى فرار أشعةٍ خلف الجفونْ
أو أن ترى شيئاً مقيتاً لا يطاقْ
هذا الفتى الضجر الحزينْ
عبثاً يحاول أن يرى في الآخرينْ
شيئاً سوى اللغز القديمْ
والقصّة الكبرى التي سئم الوجودْ
أبطالها وفصولها ومضى يراقب في برودْ
تكرارها البالي السقيمْ
هذا الفتى.....
وتمرّ أقدام الخفيرْ
ويطلّ وجهٌ عابس خلف الزجاجْ،
وجه الخفيرْ!
ويهزّ في يده السراجْ
فيرى الوجوه المتعبهْ
والنائمين وهم جلوس في القطارْ
والأعين المرتقبهْ
في كلّ جفن صرخة باسم النهارْ،
وتضيع أقدام الخفير الساهدِ
خلف الركام الراكدِ
مرّ القطار وضاع في قلب القفارْ
وبقيت وحدي أسأل الليل الشَّرُودْ
عن شاعري ومتى يعود؟
ومتى يجيء به القطارْ؟
أتراه مرّ به الخفيرْ
ورآه لم يعبأ به.. كالآخرينْ
ومضى يسيرْ
هو والسراج ويفحصان الراكبينْ
وأنا هنا ما زلت أرقب في انتظارْ
وأودّ لو جاء القطارْ....
عروق خامدة
(...)
ونلتقي تفصلنا الأيام
وأدمعٌ خرسُ
يعزّ أن تجمعنا الأيامْ
وبيننا الأمسُ
(...)
خرافات
قالوا الحياة
$$$$$$$$$$هي لون عينَيْ ميّتِ
$$$$$$$$$$هي وقع خطو القاتل المتلفّتِ
$$$$$$$$$$أيامها المتجعّداتْ
$$$$$$$$$$كالمعطف المسموم ينضح بالمماتْ
(...)
قالوا الخلودْ
$$$$$$$$$$ووجدته ظلاً تمطّى في برودْ
$$$$$$$$$$فوق المدافن حيث تنكمش الحياهْ
(...)
$$$$$$$$$$قالوا وقلتُ وليس يبقى ما يقالْ
$$$$$$$$$$يا للخرافة! يا لسخرية الخيالْ!
جحود
(...)
في كياني فتورْ
في دمي نَوْءُ
لقّبوه الشعورْ
وهو لا شيءُ
في إسار الألمْ
روحيَ المبهمْ
يا معاني العدمْ
آهِ لو أفهمْ
(...)
وسكوني حياةْ
وظلامي بريقْ
ألنجاة النجاةْ
من شعوري العميقْ
(...)
إن يكُ الإيمانْ
هو هذا الجحودْ
فأنا نكرانْ
أنا كلّي جحودْ
مرثية يوم تافه
لاحتِ الظلمة في الأفق السحيقِ
وانتهى اليوم الغريبُ
ومضت أصداؤه نحو كهوف الذكرياتِ
وغداً تمضي كما كانت حياتي
شفةٌ ظمأى وكوبُ
عكست أعماقه لون الرحيقِ
وإذا ما لمسته شفتايا
لم تجد من لذّة الذكرى بقايا
لم تجد حتى بقايا
(...)
ألغاز
دعني في صمتي في إحساسي المكبوتِ
لا تسأل عن ألغاز غموضي وسكوتي
دعني في لغزي لا تبحث عن أغواري
إقنع من فهم أحاسيسي بالأسرارِ
(...)
دعْهُ، ماذا يعنيك لتسأل في إصرارْ
ألحبّ يموت إذا لم تحجبه أسرارْ
(...)
فافهمني إن فُهم الليلُ، إفهم حسّي
والمسني إن لُمس النجم، إلمس نفسي
جامعة الظلال
(...)
سنبقى نسيرْ
وأبقى أنا في ذهولي الغريرْ
ألمّ الظلال كما كنت دون اهتمامْ
عيونٌ ولا لونَ، لا شيء إلا الظلامْ
شفاه تريد ولا شيء يَقرَب مما تريدْ
وأيدٍ تريد احتضان الفضاء المديدْ
وقلب يريد النجومْ
فيصفعه في الدياجير صوتُ القَدومْ
يهيل التراب على آخر الميّتينْ
وأقصوصة من يراع السنينْ
تضجّ بسمعي فأصرخ: آه!
أخيراً عرفتُ الحياهْ
فواخيبتاهْ!
نهاية السلّم
(...) مرّت أيامْ
لم نلتقِ، أنتَ هناك وراء مدى الأحلامْ
في أفْق حفّ به المجهولْ
وأنا أمشي، وأرى، وأنامْ
أستنفد أيامي وأجرّ غدي المعسولْ
فيفرّ إلى الماضي المفقودْ
أيامي تأكلها الآهات متى ستعودْ؟
مرّت أيام لم تتذكّر أن هناكْ
في زاوية من قلبك حبّاً مهجورا
عضّت في قدميه الأشواكْ
حبّاً يتضرّع مذعورا
هَبه النورا
***
عُدْ. بعضَ لقاءْ
يمنحنا أجنحةً نجتاز الليل بها
فهناك فضاءْ
خلف الغابات الملتفّات، هناك بحورْ
لا حدّ لها تُرغي وتمورْ
أمواج من زَبَد الأحلام تقلّبها
أيدٍ من نورْ
***
عدْ، أم سيموتْ،
صوتي في سمعكَ خلف المنعرج الممقوتْ
وأظلّ أنا شاردةً في قلب النسيانْ
لا شيء سوى الصوت الممدودْ
فوق الأحزانْ
لا شيء سوى رجعٍ نعسانْ
يهمس في سمعي ليس يعودْ
لا ليس يعودْ
أنا
(...)
والريح تسأل من أنا
$$$$$$$$$$أنا روحها الحيران أنكرني الزمانْ
$$$$$$$$$$ أنا مثلها في لا مكانْ
$$$$$$$$$$نبقى نسير ولا انتهاءْ
$$$$$$$$$$نبقى نمرّ ولا بقاءْ
$$$$$$$$$$فإذا بلغنا المنحنى
$$$$$$$$$$خلناه خاتمة الشقاءْ
$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$فإذا فضاءْ!
(...)
والذات تسأل من أنا
$$$$$$$$$$أنا مثلها حيرى أحدّق في ظلامْ
$$$$$$$$$$لا شيء يمنحني السلامْ
$$$$$$$$$$أبقى أسائل والجوابْ
$$$$$$$$$$سيظلّ يحجبه سرابْ
$$$$$$$$$$وأظلّ أحسبه دنا
$$$$$$$$$$فإذا وصلتُ إليه ذابْ
$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$وخبا وغابْ
في جبال الشمال
عُدْ بنا يا قطارْ
فالظلام رهيب هنا والسكون ثقيلْ
(...)
عدْ بنا للجنوبْ
فهناك وراء الجبال قلوبْ
عدْ بنا للذين تركناهمُ في الضبابْ
كلّ كفّ تلوّح في لهفة واكتآبْ
كلّ كفّ فؤادْ
(...)
إلى عمّتي الراحلة
(...)
وأريد أن أنسى فتخنقني
رَعَشات حزنٍ ساهدٍ مُرِّ
أبقيتِ جرحاً حافراً قلقاً
في قلب أحلامي وفي شِعري
كفّ الحنان نسيتُ ملمسها
وفقدتُ معبرها على شَعري
لم يبقَ منها غير أغنيةٍ
جفّت مرارتها على ثغري
وسهرتُ أنشدها وأنشدها
في ليلة مأسورة الفجرِ
(...)
الكوليرا
سكن الليلُ
أصغِ إلى وقع الأنّاتْ
في عمق الظلمة، تحت الصمت، على الأمواتْ
صرخاتٌ تعلو، تضطربُ
حزن يتدفّق، يلتهبُ
يتعثّر فيه صدى الآهاتْ
في كلّ فؤاد غليانُ
في الكوخ الساكن أحزانُ
في كلّ مكان روحٌ تصرخ في الظلُماتْ
في كلّ مكان يبكي صوتْ
هذا ما قد مزّقه الموتْ
ألموتُ الموتُ الموتْ
يا حزن النيل الصارخ مما فعل الموتْ
طلع الفجرُ
أصغِ إلى وقع خطى الماشينْ
في صمت الفجر، أصخْ، أنظرْ ركب الباكينْ
عشرة أمواتٍ، عشرونا
لا تُحصِ أصِخْ للباكينا
$$$$$ إسمعْ صوت الطفل المسكين
موتى، موتى، ضاع العددُ
موتى، موتى، لم يبقَ غدُ
في كلّ مكان جسد يندبه محزونْ
$$$$$لا لحظة إخلادٍ لا صمتْ
$$$$$هذا ما فعلت كفّ الموتْ
$$$$$ألموتُ الموتُ الموتْ
تشكو البشريةُ تشكو ما يرتكب الموتْ
ألكوليرا
في كهف الرعب مع الأشلاءْ
في صمت الأبد القاسي حيث الموت دواءْ
إستيقظَ داء الكوليرا
حقداً يتدفّق موتورا
$$$$$هبطَ الوادي المرِح الوضّاءُ
يصرخ مضطرباً مجنونا
لا يسمع صوتَ الباكينا
في كلّ مكانٍ خلَّفَ مخلبُه أصداءْ
$$$$$في كوخ الفلاّحة في البيتْ
$$$$$لا شيء سوى صرخات الموتْ
$$$$$ألموتُ الموتُ الموتْ
في شخص الكوليرا القاسي ينتقم الموتْ
ألصمت مريرْ
لا شيء سوى رجع التكبيرْ
حتى حفّار القبر ثوى لم يبقَ نصيرْ
ألجامع مات مؤذّنهُ
ألميّت من سيؤبّنهُ
$$$$$لم يبقَ سوى نوح وزفيرْ
ألطفل بلا أمّ وأبِ
يبكي من قلبٍ ملتهبِ
وغداً لا شكّ سيلقفه الداء الشريرْ
يا شبح الهيضة ما أبقيتْ
لا شيء سوى أحزان الموتْ
ألموتُ، الموتُ، الموتْ
يا مصرُ شعوري مزّقه ما فعل الموتْ
جنازة المرح
(...)
سأغلق نافذتي فالقتيل
يحبّ الظلام العميق العميقْ
وأكره أن يتمطّى الضياء
على جسمه الشاعريّ الرقيقْ
(...)
فأحمل هذا القتيل البريء
إلى هوّةٍ من كهوف المساءْ
أسيرُ بأشلائه موكباً
بطيء الخطى كليالي الشتاءْ
(...)
وأبصرتُ في أثري ألف طيفٍ
حزينٍ تلفّع بالعبراتْ
عرفتُ بها البسمات التي
لَقيتُ بها لَطَمات الحياةْ
عرفت بها الضحكات التي
سكبتُ نداها على الذكرياتْ
(...)
وجوه ومرايا
(...)
آه لو لم يَحُلْ رجائي الإلهيُّ
سراباً ضحلاً وبعضَ عزاءِ
آه لو كانت السعادة شيئاً
غير هذي الفقاعة السوداءِ
(...)
ثمّ ماذا! أمدّ كفّيَ في شوقٍ
عميقٍ فلا أعانق ذاتي
صدمةٌ صدمةٌ تمزّق روحي
ليس إلا برودة المرآةِ
الزجاج الجبّار شفّ ولكن
عن مثال مشوّه للحياةِ
(...)
ضربةٌ من يدي تحطّمت المرآةُ
فوق الثرى وعادت شظايا
ليتني كنتُ صنتُها عاد وجهي
ألفَ وجه تطلّ منه الضحايا
ليتني كنت صنتُها ليتني أعلم
كيف المرآة عادت مرايا
تهم
(...)
وأهتف يا نارَ قلبي الغريبْ
وموجَ أحاسيسيَ الثائرهْ
إذا اتّهموا فلماذا أجيبْ
بغير ابتسامتيَ الساخرهْ؟
الخيط المشدود في شجرة السرو
1
في سواد الشارع المظلم والصمت الأصمِّ
حيث لا لونَ سوى لون الدياجي المدلهمِّ
حيث يُرخي شجرُ الدفلى أساهُ
فوق وجه الأرض ظلاّ،
قصةٌ حدّثني بها صوتٌ ثمّ اضمحلاّ
وتلاشت في الدياجي شفتاهُ
2
قصّة الحبّ الذي يحسبه قلبكَ ماتا
وهو ما زال انفجاراً وحياةَ
وغداً يعصرك الشوق إليّا
وتناديني فتَعيَى،
تضغط الذكرى على صدركَ عبئا
من جنونٍ، ثمّ لا تلمس شيئا
أيُّ، شيء، حلمٌ لفظٌ رقيقُ
أيُّ شيء، ويناديك الطريقُ
فتُفيقُ.
ويراك الليل في الدرب وحيدا
تسأل الأمس البعيدا
أن يعودا
ويراك الشارع الحالم والدفلى، تسيرُ
لونُ عينيكَ انفعالٌ وحبورُ
وعلى وجهك حبٌّ وشعورُ
كلّ ما في عمق أعماقكَ مرسوم هناكْ
وأنا نفسي أراكْ
من مكاني الداكن الساجي البعيدْ
وأرى الحلم السعيدْ
خلف عينيك يُناديني كسيرا
. . . . وترى البيت أخيرا
بيتنا، حيث التقينا
عندما كان هوانا ذلك الطفلَ الغريرا
لونُه في شفتينا
وارتعاشاتُ صباه في يدينا
3
وترى البيت فتبقى لحظةً دون حَرَاكْ:
«ها هو البيت كما كان، هناكْ
لم يزل تحجبه الدفلى ويحنو
فوقه النارنج والسرو الأغنُّ
وهنا مجلسنا...
$$$$$$$$$$$$$$$ماذا أحسُّ؟
حيرةٌ في عمق أعماقي، وهمسُ
ونذيرٌ يتحدّى حلم قلبي
ربما كانت... ولكن فيمَ رعبي؟
هي ما زالت على عهد هوانا
هي ما زالت حنانا
وستلقاني تحاياها كما كنّا قديما
وستلقاني....».
$$$$$$$$$$وتمشي مطمئناً هادئا
في الممرّ المظلم الساكن، تمشي هازئا
بهتاف الهاجس المنذر بالوهم الكذوبِ:
«ها أنا عدت وقد فارقتُ أكداس ذنوبي
ها أنا ألمح عينيكِ تطلُّ
ربما كنتِ وراء الباب، أو يخفيك ظلُّ
ها أنا عدتُ، وهذا السلّمُ
هو ذا الباب العميق اللون، مالي أحجمُ؟
لحظةً ثمّ أراها
لحظةً ثمّ أعي وقع خطاها
ليكن.. فلأطرقِ البابَ...»
$$$$$$$$$$$$$$$وتمضي لحظاتْ
ويَصِرُّ الباب في صوت كئيب النبراتْ
وترى في ظلمة الدهليز وجهاً شاحبا
جامداً يعكس ظلاً غاربا:
«هل...؟» ويخبو صوتك المبحوح في نبرٍ حزينْ
«لا تقولي إنها...»
$$$$$$$$$$$$$$$«يا للجنونْ!
أيها الحالمُ، عمّن تسألُ؟
إنها ماتت»
$$$$$$$$$$$$$$$وتمضي لحظتانْ
أنت ما زلتَ كأن لم تسمع الصوت المثيرْ
جامداً، ترمق أطراف المكانْ
شارداً، طرفكَ مشدودٌ إلى خيط صغيرْ
شُدَّ في السروة لا تدري متى؟
ولماذا؟ فهو ما كان هناكْ
منذ شهرينِ. وكادت شفتاكْ
تسأل الأختَ عن الخيط الصغيرْ
ولماذا علّقوه؟ ومتى؟
ويرنّ الصوت في سمعكَ: «ماتت..»
«إنها ماتت..» وترنو في برودِ
فترى الخيط حبالاً من جليدِ
عقدتها أذرعٌ غابت ووارتها المنونْ
منذ آلاف القرونْ
وترى الوجه الحزينْ
ضخّمته سحُبُ الرعب في عينيكَ. «ماتت..»
4
هي «ماتت..» لفظةٌ من دون معنى
وصدى مطرقةٍ جوفاء يعلو ثمّ يفنى
ليس يعنيك تواليه الرتيبُ
كلّ ما تبصره الآن هو الخيط العجيبُ
أتراها هي شدّته؟ ويعلو
ذلك الصوت المملُّ
صوتُ «ماتت» داوياً، لا يضمحلّ
يملأ الليل صراخاً ودويّا
«إنها ماتت» صدىً يهمسه الصوت مليّا
وهتاف ردّدته الظلماتُ
وروتهُ شجرات السرو في صوتٍ عميقِ
«إنها ماتت» وهذا ما تقول العاصفاتُ
«إنها ماتت» صدىً يصرخ في النجم السحيقِ
وتكاد الآن أن تسمعه خلف العروقِ
5
صوت «ماتت» رنّ في كلّ مكانِ
هذه المطرقة الجوفاء في سمع الزمانِ
صوت «ماتت» خانقٌ كالأفعوانِ
كلّ حرفٍ عصبٌ يلهث في صدرك رعبا
ورؤى مشنقةٍ حمراءَ لا تملك قلبا
وتجنّي مخلبٍ مختلجٍ ينهش نهشا
وصدى صوتٍ جحيميٍّ أجشا
هذه المطرقة الجوفاء: «ماتت»
هي ماتت، وخلا العالم منها
وسُدىً ما تسأل الظلمةُ عنها
وسدىً تُصغي إلى وقع خطاها
وسدىً تبحث عنها في القمرْ
وسدىً تحلم يوماً أن تراها
في مكانٍ غير أقباءِ الذِّكَرْ
إنها غابت وراء الأنجمِ
واستحالت ومضةً من حُلمِ
6
ثمّ ها أنتَ هنا، دون حَراكِ
متعباً، توشك أن تنهار في أرض الممرِّ
طرفكَ الحائر مشدودٌ هناكْ
عند خيطٍ شُدَّ في السروة، يطوي ألف سرِّ
ذلك الخيط الغريبْ
ذلك اللغز المريبْ
إنه كلّ بقايا حبّكَ الذاوي الكئيبْ.
7
ويراك الليل تمشي عائدا
في يديك الخيطُ، والرعشةُ، والعِرْق المدوّي.
«إنها ماتت..» وتمضي شاردا
عابثاً بالخيط تطويه وتلوي
حول إبهامكَ أُخْراهُ، فلا شيء سواهُ،
كلّ ما أبقى لك الحبُّ العميقُ
هو هذا الخيط واللفظ الصفيقُ
لفظ «ماتت» وانطوى كلّ هتاف ما عداهُ
منتخب «قرارة الموجة» 1957
طريق العودة
(...)
نعود إذن في طريق الإياب المرير
وكنّا قطعناه منذ زمان قصير
وكنّا نسمّيه، دون ارتياب، طريق الرواحْ
ونعبره في ارتياح:
يمدّ لنا كلّ شيء نراه يدا
يكاد يعانقنا ويصبّ علينا غدا
دقائقه نسجتها المنى
وكنّا نسمّيه، دون ارتياب، طريق الأملْ
فما لشذاه أفلْ
وفي لحظة عاد يُدعى طريق المللْ؟
(...)
لماذا نعودْ؟
أليس هناك مكان وراء الوجودْ
نظلّ إليه نسير
ولا نستطيع الوصول؟
(...)
ونحن نسير ونقطع درب الرجوعْ
ونذرعه بالدموعْ
(...)
سئمنا فأين المفرّ؟
ولا بدّ من أن نعودْ
فليس هناك مكان وراء الوجودْ
نظلّ إليه نسيرْ
ولا نستطيع الوصولْ.
مرثية امرأة لا قيمة لها
(...)
والليل أسلم نفسه دون اهتمام، للصباحْ
وأتى الضياء بصوت بائعة الحليب وبالصيامْ،
بمواء قطّ جائع لم تبقَ منه سوى عظامْ،
بمشاجرات البائعين، وبالمرارة والكفاحْ،
بتراشق الصبيان بالأحجار في عرض الطريقْ،
بمسارب الماء الملوّث في الأزقّة، بالرياحْ،
تلهو بأبواب السطوح بلا رفيقْ
في شبه نسيان عميقْ.
الزائر الذي لم يجئ
ومرّ المساء، وكاد يغيب جبين القمرْ
وكدنا نشيّع ساعات أمسية ثانيهْ
ونشهد كيف تسير السعادة للهاويهْ
ولم تأتِ أنتَ.. وضِعْتَ مع الأمنيات الأُخرْ
وأبقيت كرسيّك الخاليا
يُشاغل مجلسنا الذاويا
ويبقى يضجّ ويسأل عن زائر لم يجئْ
(...)
ولو كنتَ جئتَ... وكنّا جلسنا مع الآخرينْ
ودار الحديث دوائرَ وانشعب الأصدقاءْ
أما كنتَ تصبح كالحاضرين وكان المساءْ
يمرّ ونحن نقلّب أعيننا حائرينْ
ونسأل حتى فراغ الكراسي
عن الغائبين وراء الأماسي
ونصرخ أن لنا بينهم زائراً لم يجئْ؟
***
ولو جئتَ يوماً - وما زلتُ أؤثر ألا تجيءْ -
لجَفَّ عبيرُ الفراغ الملوّن في ذكرياتي
وقُصّ جناحُ التخيّل واكتأبتْ أغنياتي
وأمسكتُ في راحتيّ حطام رجائي البريءْ
وأدركتُ أني أحبّك حُلْما
وما دمتَ قد جئتَ لحماً وعظما
سأحلم بالزائر المستحيل الذي لم يجئْ
كلمات
شكوتُ إلى الريح وحدةَ قلبي وطول انفرادي
فجاءت معطّرةً بأريج ليالي الحصادِ
وألقت عبير البنفسجِ والوردِ فوق سهادي
ومدّت شذاها لخدّي الكليل مكان الوسادِ
وروّت حنيني بنجوى غديرٍ يغنّي لوادِ
وقالتْ: لأجلكِ كان العبيرُ ولونُ الوهادِ
ومن أجل قلبك وحدكِ جئت الوجودَ الجميلْ
$$$$$ففيمَ العويل؟
وصدّقتُها ثم جاء المساء الطويلْ
وساد السكونُ عباب الظلام الثقيلْ
فساءلتُ ليلي: أحقٌّ حديث الرياحْ؟
فردّ الدجى ساخرَ القسماتْ
«أصدّقتِها؟ إنها كلماتْ.»
***
وأصغيتُ في فجر عمري إلى أغنيات البشرْ
وشاركتهم رقصهم في شحوب ليالي القمرْ
وغنّيتُ مثلهمُ بالسعادة، بالمنتظرْ
بشيء سيأتي، بيوتوبيا في سنينٍ أُخرْ
وآمنتُ أن حياةً بلون الندى والزَّهَرْ
ستمسح أيامنا المثقلات بعبء الضجرْ
وقالوا لنا في أغاريدهم إننا خالدونْ
$$$$$خلود القرونْ
وصدّقتُهم ثمّ جاء المساء الصديقْ
يجرّ سلاسله في جمود وضيقْ
فساءلتُه: أهو حقٌّ هتاف البشرْ؟
فحدّق بي صائحاً: «يا فتاة!
أصدّقتِهم؟ إنها كلماتْ.»
(...)
أسطورة عينين
عينانِ طِلِّسْمٌ ولغز أصمّْ
يحار في تفسيره التائهونْ
غيبان من عهد سحيق القِدمْ
وضفّتا شطٍّ طوته القرونْ
(...)
وأنها، كما روى آخرونْ،
بقيّةٌ من أعين آفلهْ:
عينا (ميدوزا) أفرغ الساحرونْ
ما فيهما من قوّة قاتلهْ
***
ستلبث العينان سرّاً عميقْ
ويذرع الراوون أرض الخيالْ
أسطورةٌ تظلّ سكرى البريقْ
ما بقي الشعر وعاش الجمالْ
الوصول
سأحبّ نفسي في ارتعاش ظلالها تحيا عصورْ
ملأى بألوان الخيالْ
وهناك في أحنائها ألقى الجمالْ
وعوالماً نجمية الإشراق مُسكرة العطورْ
وهناك كم لونٍ ترسّب في كؤوس الذكرياتْ
كم قصّةٍ نامت وغطّت سرّها خلف الشعورْ
كم خطفةٍ من طيف حبّ عاش حيناً ثمّ ماتْ
(...)
ساعة الذكرى
(...)
وأحسّ الخطى تمرّ حيارى
خلف بابي كما مررن مرارا
وأحسّ الوجوه هبّت من الماضي
وعادت مملوءةً أسرارا
(...)
دعوة إلى الحياة
إغضبْ، أحبّك غاضباً متمرّداً
في ثورة مشبوبةٍ وتمزّقِ
أبغضتُ نوم النار فيك فكن لظىً
كن عِرْقَ شوقٍ صارخٍ متحرّقِ
***
إغضبْ، تكاد تموت روحك، لا تكنْ
صمتاً أضيّع عنده إعصاري
حسبي رمادُ الناس، كن أنت اللظى
كن حُرْقةَ الإبداع في أشعاري
إغضبْ، كفاك وداعةً. أنا لا أحبّ الوادعينْ
النار شرعي لا الجمود ولا مهادنة السنينْ
إني ضجرتُ من الوقار ووجهه الجهم الرصينْ
وصرختُ لا كان الرماد وعاش عاش لظى الحنينْ
$$$$$إغضبْ على الصمت المهينْ
$$$$$أنا لا أحبّ الساكنينْ
(...)
أنا لا أحبّك واعظاً بل شاعراً قلق النشيدْ
تشدو ولو عطشان دامي الحلّق محترقَ الوريدْ
إني أحبّك صرخةَ الإعصار في الأفق المديدْ
وفماً تصبّاه اللهيب فبات يحتقر الجليدْ
$$$$$أين التحرّق والحنينْ؟
$$$$$أنا لا أطيق الراكدينْ
***
قطِّبْ، سئمتُكَ ضاحكاً، إن الربى
بردٌ ودفء لا ربيعٌ خالدُ
العبقرية، يا فتايَ، كئيبةٌ
والضاحكون رواسبٌ وزوائدُ
***
إني أحبّك غُصّةً لا ترتوى
يفنى الوجود وأنتَ روح عاصفُ
ضحكٌ جنونيّ ودمعٌ محرقٌ
وهدوء قدّيسٍ وحسٌّ جارفُ
***
إني أحبّ تعطّش البركان فيك إلى انفجارْ
وتشوّق الليل العميق إلى ملاقاة النهارْ
وتحرّق النبع السخيّ إلى معانقة الجرارْ
إني أريدك نهرَ نارٍ ما للجّته قرارْ
***
$$$$$فاغضب على الموت اللعينْ
$$$$$إني مَللتُ الميّتينْ
منتخب «شجرة القمر» 1968
خمس أغانٍ للألم
(...)
هذا الصغيرُ... إنه أبرأ مَن ظَلَمْ
عدوّنا المحبّ أو صديقنا اللدودْ
يا طعنةً تريد أن نمنحها خدودْ
دون اختلاج عاتب ودونما ألمْ
(...)
أغنية للقمر
كأس حليبٍ مثلّجٍ تَرِفِ
أم جدولٌ سائلٌ من الصَدَفِ؟
أم غسقٌ أبيضٌ يسيل على
خدود ليل معطَّر السُّدَفِ
(...)
ما أنتَ يا دورق الضياء ويا
كواكباً في الظلام منصهرهْ؟
يا قُبَلاً سوسنيّةً سكبتْ
شهداً مُصفّىً في ليلة عطرهْ
يا مخلباً للجمال يا حُزماً
من زنبقٍ في السماء مُنعصرهْ
ويا شفاهاً من الضياء دنتْ
تمسح وجه العرائش النضرهْ
يا بركة العطر والنعومة يا
سلّة فلٍّ في الأفْق منحدرهْ
***
يا زورق العاشقين تحملُهم
عبر بحار الأحلام والكسلِ
على جناح مريّشٍ يقظٍ
يفرش درب الغرام بالأملِ
يا منبعاً يسكب النعاس على
ما أرّقته الأشواقُ من مُقلِ
يا ساقيَ الأعين الرقاقِ رؤىً
يا كوبَ نومٍ مخدّرٍ ثملِ
يا إصبعاً يلمس الجراح ويا
مُبعثر الأغنيات والقُبَلِ
(...)
يا توبةَ القُبْح يا شراع هوىً
ملوّنٍ ناعمِ الأساريرِ
يا ندم الليل والظلام ويا
كفّارة الغيم والأعاصيرِ
(...)
غزلتَ أحلامنا وأرضعَنا
ضياؤكَ العذبُ ومضةً ومضهْ
يا كوّة الفجر في دجى تَعِبٍ
يا مُطعم الياسمين في الروضهْ
(...)
أنتَ منحتَ الغناءَ لذّتَهُ
يا نبضة الوزن في حناياهُ
فابْقَ وراء الحياة أخيلةً
الشعر فيها والحبّ واللهُ
أغنية حبّ للكلمات
فيمَ نخشى الكلماتْ
وهي أحياناً أكفٌّ من ورودِ
باردات العطر مرّت عذبةً فوق خدودِ
وهي أحياناً كؤوس من رحيقٍ منعشِ
رشفتْها، ذات صيف، شفةٌ من عطشِ
(...)
الصديقات التي تأتي إلينا
من مدى أعماقنا دافئةَ الأحرف ثرّهْ
إنها تفجؤنا، في غفلةٍ من شفتينا
وتغنّينا فتنثال علينا ألفُ فكرهْ
(...)
عمرنا نحن نذرناه صلاةْ
فلمن سوف نصلّيها... لغير الكلماتْ؟
النهر العاشق
«نظمتها الشاعرة خلال الفيضان الرهيب عام 1954»
أين نمضي؟ إنه يعدو إلينا
راكضاً عبر حقول القمح لا يلوي خطاهُ
باسطاً، في لمعة الفجر، ذراعيه إلينا
طافراً، كالريح، نشوانَ يداهُ
سوف تلقانا وتطوي رعبنا أنّى مَشَيْنا
***
إنه يعدو ويعدو
وهو يجتاز بلا صوت قُرانا
ماؤه البنّيّ يجتاح ولا يَلْويه سدُّ
إنه يتبعنا لهفانَ أن يطوي صبانا
في ذراعيه ويسقينا الحنانا
***
لم يَزَلْ يتبعنا مبتسماً بسمةَ حبِّ
قدماه الرطْبتانِ
تركت آثارها الحمراء في كلّ مكانِ
إنه قد عاث في شرقٍ وغربِ
في حنانِ
***
إنه يعمل في بطءٍ وحزمٍ وسكينهْ
ساكباً من شفتيهِ
قُبَلاً طينيةً غطّت مراعينا الحزينهْ
***
ذلك العاشق، إنّا قد عرفناه قديما
إنه لا ينتهي من زحفه نحو رُبانا
وله نحن بَنَيْنا، وله شدنا قُرانا
إنه زائرنا المألوف ما زال كريما
كلّ عامٍ ينزل الوادي ويأتي للقانا
***
نحن أفرغنا له أكواخنا في جُنْح ليلِ
وسنؤويه ونمضي
إنه يتبعنا في كلّ أرضِ
وله نحن نصلّي
وله نُفرغ شكوانا من العيش المملِّ
***
إنه الآن إلهُ
أَوَلم تغسل مبانينا عليه قدميها
إنه يعلو ويُلقي كنزه بين يديها
إنه يمنحنا الطين وموتاً لا نراهُ
من لنا الآن سواهُ؟
منتخب «مأساة الحياة وأغنية للإنسان» 1970
1
كيف يا دهر تنطفي بين كفّيكَ
الأماني وتخمد الأحلامُ؟
كيف تذوي القلوب وهي ضياءٌ
ويعيش الظلامُ وهو ظلامُ؟
2
يا ضفاف الأفراح يا ليتني أعرف
شيئاً عن أفقك المجهولِ
لم أعد أستطيع أن أكتم الشوق
فأيّان يا ضفاف وصولي؟
3
وغداً ترسم الظلال على قبري
خطوطاً من الجمال الكئيبِ
وغداً من دمي غذاؤكَ يا صفصاف
يا تينُ أيّ ثأر رهيبِ
4
يا رُفات الأموات في الأرض ماذا
رسم الموت فوق هذي العيونِ؟
أي رعب وحسرة وشَكاة
أيّ معنىً من الرجاء الحزينِ؟
5
هاته حسبُ رملكَ البارد القاسي
خداعاً لنا وحسبُكَ هُزءا
يا لحلمٍ نزيد منه اقتراباً
وهو ما زال أيها الشطّ ينأى
6
حيث تبقى الغيوم في الجو رمزاً
لحياة سوادها ليس يفنى
حيث تبقى الرياح تصفر لحناً
هو سخريّة المقادر منّا
7
فهو قلب قد صيغ من رقّة الزهر
وعينٌ قد طُهِّرت بالدموعِ
وحياة حسّاسة ليس يدري
سرَّها غير شاعرٍ مطبوعِ
8
ويغيب الضياءُ في ليل قبرٍ
ليس تبكي له سوى الأمطارِ
ليس يرثيه غير ذاوي صباهُ
وبقايا القيثار والأشعارِ
9
هكذا في العذاب تمضي حياة الشاعر
الملهم الرقيق وتُنسى
هكذا يملأ الوجود جمالاً
ويذوق الآلام كأساً فكأسا
10
أين تلك الأحلام؟ كيف ذوى الحبّ؟
وأين الوجه الحبيب النضيرُ
يا لغدر الأيام لم تحفظ العهد
لقلب جنى عليه الشعورُ
11
يا عيون الأقدار لا ترمقي دمعي
ولا تهزأي بقلبي الحزينِ
إن يكن في دمي طموح نبيّ
فأسى اليائسين ملء عيوني
12
يا معاني الزوال والعدم الرائع
رحماكِ وارفقي بصبايا
لا تُطلّي عليّ من كلّ شيء
في وجودي فقد سئمتُ أسايا
13
فهو ذلك القلب الذي طوّقتهُ
حادثات السنين بالأشواكِ
منحته الحسّ الرهيف وقالت:
لتكن في الحياة أوّل باكِ
14
ولْيقولوا إني فتاة جنى الشعر
عليها، فعشت للأحزانِ
وعبرتُ الحياة كالشبح الضلّيل
في غيهب الوجود الفاني
15
يا معاني الذهول في جبهة الميّت،
لا لن أخاف هذي المعاني
سأرى فيك بلسماً يُنقذ الأحياءَ
مما يَلْقَون من أحزانِ
16
المساكينُ يا سماءُ فمدّي
لأساهم كفّيكِ يفنَ الشقاءُ
إن يكونوا جنَوْا فقلبكِ أسمى
أو يكونوا ضلّوا فأنت السماءُ
17
وشعوري الرقيق؟ أوّاه من عمق
شعوري وحسّيَ المشبوبِ
كيف أنجو من الأحاسيس من حبّي
وكرهي؟ من هدأتي ولهيبي؟
18
أين أين الذين غنّوا على الأرض
طويلاً واستبشروا وأحبّوا؟
لا صدىً من غنائهم لا لهيبٌ
من أحاسيسهم يثور ويخبو
19
لم أعد أستطيع أن أحكم الزهر
وأرعى النجوم في كلّ ليلِ
لم أعد أمزج الوجود بقلبي
وأعدّ الحياة قصّة طفلِ
20
وجمال الوجود ما عاد يبدو
لي مثيراً لنشوة لا تُحَدُّ
بعض شيء فيه يلخّص لي القصّة
في لفظتين: مهدٌ ولحدُ
21
إيه حوّاءُ! كيف عوقبتِ بالنفيِ
ولولاكِ ما عرفنا النورا
أنتِ يا من بعتِ الخلودَ بأحزان
لياليكِ واشتريتِ الشعورا
22
وتمنّوا ألاّ تمرّ بها ريحٌ
عبيريّة الصدى والنشيدِ
فشفاه الرياح تكمن فيها
قُبَلٌ عذبةٌ وذكرى خدودِ
23
ويغنّي القُمْريّ تجري السواقي
ويلاقي الضياءُ تلّة زنبقْ
ويُراق الجمال في الفجر أكواباً
ولا قلب في القرى يتذوّقْ
منتخب «للصلاة والثورة» 1978
الخروج من المتاهة
(...)
جرحنا ممطرٌ، ونأكل شوكاً
وكَرَانا مفاوزٌ وسعالي
وطريقٌ أنّى مشينا مخيفٌ
أسود الضوء مخلبيّ الظلالِ
(...)
للصلاة والثورة
(...)
يا قبّة الصخرهْ
حيث الخراب مُسْدلاً شعرَهْ
يا رعشة التقوى، ويا انخطافة الصلاهْ
يا أثر السجود في الجباهْ
(...)
منتخب «يغيّر ألوانَه البحرُ» 1974
دكّان القرائين الصغيرة
في ضباب الحلم طوّفتُ مع السارين في سوق عتيقِ
غارق في عطر ماء الورد، وامتدّ طريقي
وسّع الحلم عيوني، رشّ سُكْراً في عروقي
ثملت روحي بأشذاء التوابلْ
وصناديق العقيقِ
وبألوان السجاجيد،
$$$$$$$$$$بعطر الهيل والحنّاء،
$$$$$$$$$$$$$$$بالآنية الغرقى الغلائلْ
سرقت روحي المرايا، واستدارات المكاحلْ
كنتُ نشوى، في ازرقاق الحلم أمشي وأُسائلْ
أين دكّان القرائين الصغيرهْ
أشتري من عنده في الحلم قرآناً جميلاً لحبيبي
يقتنيه لحن حبٍّ،
$$$$$$$$$$قمراً في ليلة ظلماء،
$$$$$$$$$$$$$$$خبزاً وخميرهْ
عندما في الغد يرحلْ
من مطار الأمس والذكرى حبيبي
يتوارى وجهه خلف التواءات الدروبِ
سرتُ في السوق،
$$$$$إذا مرّ بقربي عابرٌ ما،
ثمّ أسألْ:
سيّدي في أيّ دكّان ترى ألقى القرائين الصغيرهْ
أيّ قرآن، سواءٌ أحواشيه حروف ذهبيّهْ
أم نقوش فارسيّهْ
أيّ قرآن؟... وفي حلمي يقول العابرُ
لحظة يا أختُ، قرآنكِ في آخر هذا المنحنى، في «مندلي»
اسألي عن «مندلي»
فهو دكّان القرائين الصغيرهْ
ويغيب العابرُ...
وجهه في الحلم لون فاترُ...
ثمّ أمضي في الكرى باحثةً عن «مندلي»
حيث أبتاع بما أملك قرآناً وأهديه حبيبي
(...)
بطاقة
ولدت نازك الملائكة في بغداد العام 1923، ونشأت في رعاية أمّها الشاعرة سلمى عبد الرزاق (أم نزار الملائكة) وأبيها الأديب الباحث صادق الملائكة. وما إن أكملتْ دراستها الثانوية حتى انتقلت إلى دار المعلمين العالية وتخرّجت منها العام 1944. وفي العام 1949 تخرّجت من معهد الفنون الجميلة (فرع العود)، ثمّ درست اللغة اللاتينية في جامعة برستن بالولايات المتحدة الأميركية. أيضاً، درست اللغتين الفرنسية والإنكليزية، وأتقنت الأخيرة مترجمةً بعض الأعمال الأدبية عنها. وفي العام 1959 عادت إلى بغداد لتتفرّغ لانشغالاتها الأدبية في مجالَي الشعر والنقد، قبل أن تلتحق العام 1954 بالبعثة العراقية إلى جامعة وسكونسن لدراسة الأدب المقارن، وقد ساعدتها هذه الدراسة في الاطلاع على أخصب الآداب العالمية. اشتغلت في التدريس بكلية التربية ببغداد العام 1957، وخلال عامَي 1959 و1960 تركت العراق لتقيم في بيروت، وهناك أخذت تنشر إنتاجها الشعري والنقدي، ثم عادت إلى العراق لتدرّس اللغة العربية وآدابها في كلية التربية بجامعة البصرة. توفّيت بتاريخ 20 حزيران 2007 في القاهرة التي أمضت فيها سنواتها الأخيرة.
لها
شعر:
«عاشقة الليل» 1947، «شظايا ورماد» 1949، «قرارة الموجة» 1957، «شجرة القمر» 1968، «مأساة الحياة وأغنية للإنسان» 1970، «يغيّر ألوانَه البحرُ» 1974، «للصلاة والثورة» 1978.
نقد:
«قضايا الشعر المعاصر» 1962، «الصومعة والشرفة الحمراء» 1965، «التجزيئية في المجتمع العربي» 1974، «سيكولوجية الشعر» 1993.
***
مسرح محمد الماغوط... اغتصاب عذرية الشرف
على خلاف المسرح، أو النصوص الوعظية التي تطلب منك رفع يديك إلى فوق لتستنجد أو تستغفر، يمدّ مسرح محمد الماغوط يده - يدفع أيادينا إلى تحت ليفرجيها صوت الأحداث، لا صوت الكلمات؛ التي تصنع منها هذه التراجيديا التي نعيشها، والتي اسمها زوراً: حياة. وكأن محمد الماغوط، وبفطرته الثورية في أشعاره وفي مسرحياته ومقالاته، ينعى حركة الثورة العربية التي لم تستطع أن تنتج معرفتها النظرية، ما أدّى إلى إخفاقها في إنجاز مشروعها. فلا اليسار ولا اليمين ولا الوسط ولا الذي بين بين، استطاع أن يفرّق، أو يستفيد من غيفارية أرنستوتشي غيفارا، ولا من غيفارية أبي ذر الغفاري الذي مات وحيداً في صحراء الربذة. محمد الماغوط في مسرحه كما في شعره، نعى الثورة والثوريين، ولم يندمج بهما، بل شقّ طريقه لوحده، واستطاع، بنزعته الفردية التي بدت «فوضوية»، وإلى حدّ ما «متطرّفة»، أن يربح صفّ الشارع الشعبي. حتى تلك السلطة «الثوروية» التي هجاها، بل التي انتقدها في مسرحه، كانت مرتاحة له، وعندما نزلت إلى الشارع بصفتها مواطنة وشافت مسرحه، رأت في ما بعد أن تستخدمه في تحرير الفرد (المواطن) من سخطه عليها، في معنى إمكان التنفيس عن ضيق هذه الجماهير وكربها. وهنا رأى المواطن العربي في الماغوط مثقفاً (فطرياً) ما يزال يحافظ على طهارته القومية. من جانب آخر؛ كان الماغوط يثير في مسرحه اللعبة «الأيديولوجية»، ويدفع بها نحو الانفجار، وهي أيديولوجيا السلطة العربية؛ أيديولوجيا القمع. وظهرت أفكاره وآراؤه المعارضة لكلّ أشكال الهيمنة التي يتعرّض لها المواطن في معظم مسرحياته، وبدا الماغوط ديموقراطياً هازئاً ساخراً ناقماً، وليس حاقداً. كما ظهر حنينه إلى كلّ ما هو طبيعي وشعبي، بل وافتتانه به - افتتانه بالشعبي وباندفاعاته الطبيعية، فبدت شخصياته شديدة التجريد (الكهل - الطالب) في مسرحية «العصفور الأحدب»، و(المهرّج - صقر - دحام) في مسرحية «المهرّج». في هذه الأخيرة ثمة ظاهرة، هي موقف نجده في مسرح الماغوط، وكذلك في شعره، وهو أن حرّيته الشخصية تصطدم، وبشكل مباشر، مع القانون الذي تشرّعه الدولة القمعية، وذلك لأنه يريد أن يستعيد دور المثقف الناقد، وليس دور المثقف الهلامي، فنراه - نرى الصراع تحرّكه حماسة «أخلاقية». هنا الماغوط يستند إلى مرجعيات أخلاقية هي «فطرية شعبية» أخذ منها عهداً على نفسه بأن يعمل على تحقيق أهدافها السامية، فصرنا نرى في مسرحه البشاعة - بشاعة القمع تصطدم مع عذابات الروح - روحه، فتسمو المعاناة التراجيدية لأبطاله، خصوصاً في مسرحه الذي اشتغله مع دريد لحام، فبطله يدخل الزمن المسرحي جريحاً، ويخرج منه جريئاً جريحاً، وهو يحسّ بالخجل النبيل، لأن أهدافه/ أحلامه لم يقدر على تجسيدها، فالسلطة القمعية ما تزال تسوّر أحلامه وتسجنها من طريق رعايتها الفساد والرشوة والغشّ والتسيّب والفوضى. بل إنها شجّعت على تكريس قطيع (المتنمّرين) الذين لا يردعهم ضمير أو وجدان، ولا تفيد معهم الشكوى ولا الدموع ولا صرخات الرجاء، لتصبح محاولات البطل اغتصاباً لعذرية الشرف الوطني والقومي، وهدراً لروح المقاومة؛ مقاومة أي اعتداء خارجي قد يقع على الوطن. لذلك نرى الماغوط بقدر ما يتمسّك بحرية روحه ويدافع عنها - يدفعها إلى الصدام مع قوانين الدولة القمعية، نراه، وبقوّة الشعر الذي يسكنه، يشقّ عن هذه الدولة ثوب الوقار، فصراعه معها هو صراع أخلاقي، ومعركته معها معركة فارس لفارس، وعشرة لفارس: ينشر غضبه على كامل الزمن المسرحي وقد مسّنا لهبه، فلا يعود قبح الدولة القامعة قبحاً جميلاً، كما تصوّر هي نفسها به. فالطبيعة البشرية بفطرتها، وبمرجعياتها الشعبية التي تسكن أعماقه، صارت تحرّك، صارت تصنع الفعل التراجيدي لشخصياته وتشوفها وقد أصبحت شخصيات مرعبة، لأنها شخصيات متماسكة روحانياً وعقلانياً، شخصيات تنتزع حقاً ضائعاً، مضيّعاً لها، فلا تبطش ولا تقمع، بل تقاتل وبفروسية؛ الشهوة العمياء للتنمّر عند قطيع المتنمّرين الذين يرعون في جسد الوطن وروحه. ومردّ ذلك غزارة أفكاره - التي يصيّرها فعلاً تراجيدياً - وتدفّقها بسلاسة ومرونة. قد يخطر لدارس مسرح الماغوط أن شخصياته تحمل قدراً من السوقية بسبب من إفراطها في إظهار مشاعرها الحاقدة والغاضبة وبسخرية وهزء مريرين، لكن هذا لا يقلّل من سمو طبيعتها الفطرية، لأن غضبها أساسه الحزن - هو من جرح ينزف حزناً قديماً - دماً حزيناً فيه صورة لمشاعرها السياسية النبيلة، التي هي مشاعر بطولية . فأين «يدفر» الماغوط، بل أين يفرّ بأهواء هذه الشخصيات التي اغتصب وانتهك حقّها في ممارسة حياتها بحرّية؟ هو سيبقى في الأرض، ولن يهرب منها إلى الفردوس. الماغوط سيبقى يبحث ويجتهد في الشأن الأرضي، وكما قلنا في السفلي، ولن يرفع عينيه أو يديه إلى العلوي لا بصفته سيصنع معجزات، لكن بصفته فارساً محارباً، ولو اضطر إلى أن يحارب بفأس الحطاب، أو بأصابع يديه التي تسيل منها مفرداته اللغوية. هذه المفردات، رغم شعبيتها، لم تكن متقوقعة على ذاتها، ثم إن الماغوط لم يُقم مسرحه على المواقف اللغوية فحسب، بل هو اجترح اللغة، أخرجها من خدرها، من نعاسها ودفشها إلى المحافل الرسمية والشعبية، وإلى مجالس السمر والعزاء، وأطلق لها لسانها؛ فكّ عقدة خجلها وحيائها، فصارت تتنفّس وتصرخ حين تتوجّع بلا حرج وبأعلى صوتها، حتى لو أخطأت. والماغوط يدرك أن اللغة تحمل في معناها دلالات وإشارات؛ هي تعبّر عن أفكار. في مسرحيته «العصفور الأحدب» يقول صانع الأحذية للكهل في جواب عن سؤال له «ماذا تشتهي؟»: «أشتهي أن أصنع خفّاً من المطر لكلّ الحقول الحافية في العالم». فتشوف أن صانع الأحذية لزم مهنته، ولم يطالبنا بأن يصنع سجناً أو طائرة، لكنه عبّر عن فكرته/ حلمه، بعدما يأس من البشر؛ من صنع أحذية لهم، بجلاء وصفاء قبضنا فيهما على لحظة من أشدّ لحظات المكاشفة مع النفس حين تتكلّم بصوت الضمير الجمعي للأمّة، فكان مفاجئاً، لكنه لم يكن غريباً رغم سورياليته. فمن المستحيل صنع خفّ من حبّات، من قطرات المطر، وللحقول كي تمشي بها. الماغوط هنا وبسوريالية فيها صوفية، فيها عشق يتوحّد فيه العاشق بالمعشوق، يُفرجينا صورة من أغرب الصور: الحقول وهي تنتعل خفّاً من قطرات المطر وتتمشّى، فتتبادل الزيارات في ما بينها، وربما تلعب بخفّها هذا بالكرة حين ترمي به الجسد وقد انسحبت منه الروح. الماغوط يرفع الغطاء، فلا حجاب بينه وبين اللغة - هو يفجّر خيالاتها، يحرّكها لترسم صوراً جديدة يدافع فيها عن موته، صوراً تنتشي باللغة - مفردة تخطف قارئها فيسكر. قد يشعر القارئ أحياناً أنها لغة يومية، والماغوط يرسم بها كاريكاتيراً ساخراً وساخطاً، وسخريته لاذعة حارقة، لكنها - وهذه تُحسب له - لغة صامدة أولاً لأنها تسخر من المبتذل والتافه، وثانياً لأنها مغمّسة بنشاط «رجوليّ»؛ رجولة الشعبي الذي لا يخون، وإن مات فيموت واقفاً.
باحث وناقد مسرحي سوري
****
متابعات
عندما تصقل روحك بأرواح الآخرين
ملتقى «صفحة جديدة للأدباء الشباب العرب»
عبد الوهاب عزاوي - خاص «نقد»
اختتمت في تموز الماضي فعاليات الدورة الثالثة من ملتقى «صفحة جديدة للأدباء الشباب العرب» في الأردن، والتي أقامتها مؤسسة «المورد الثقافي» بالتعاون مع «دار أزمنة» الأردنية، وقد شارك في هذه الدورة عدد من الأدباء من دول عربية عدّة، وقدّموا أوراقهم الإبداعية التي توزعت بين الشعر والقصّة والرواية والنصّ الأدبي المفتوح ضمن الورشات التدريبية الإبداعية التي أشرف عليها الشاعر الليبي خالد مطاوع، الأستاذ المساعد في جامعة ميشيغان، والروائية المصرية سحر الموجي الأستاذة المساعدة في جامعة القاهرة. وقد جاءت هذه الورشات كتحدٍّ حقيقيّ لعدد من المشاركين، إذ إنها تطرح أسئلةً تخلخل مفاهيم كثيراً ما كُرِّست في الثقافة العربية، ومن ذلك أن الإبداع مرهون بلحظة الكشف والإلهام إلى حدّ بعيد، والموهبة تأتي فطرةً وتتكفّل بفعل الإبداع...
مضيتُ إلى هذه الدورة محمّلاً بشكوكي حول فاعلية فكرة التدريب على الكتابة وتكنيكاتها، خصوصاً في الشعر، إذ إني أستطيع تفهّم هذه الفكرة في ما يخصّ الرواية أو القصة القصيرة، لكن الشعر أمر مختلف، خصوصاً أن فكرة كتابة نصّ شعريّ عند الطلب تثير الاستهجان إلى حدّ كبير، والأخطر بالنسبة إليّ كان فكرة العمل الجماعيّ لأنه يحتاج إلى جهد كبير وعمل على تشرّب روح الشريك في العمل، وهذا من الصعب أن يتمّ في يوم، أو أسبوع، أو عقد من الزمان، وقد لا يتمّ مطلقاً، والمشكلة تتفاقم باعتبار أننا نعاني من ثقافة الخوف التي تحضر دائماً، فكما تقول الروائية سميحة خريس: «نحن نحمل قروناً من الخوف والقمع حتى عندما نكتب تكون الكتابة فعل بحث عن الحرية منقوصاً إلى حدود كبيرة بسبب حضور الرقيب الداخليّ». وبالفعل بدأت الورشة بحوار مطوّل حول هذه الأفكار، كسرت جموده حميمية التعامل مع المدرّبين.
في اليوم التالي بدأت التمارين بتمرين مألوف لمعظمنا، كثيراً ما نمارسه على نصوصنا، وهو إعادة كتابة النصّ مع الحفاظ على بنيته قدر المستطاع، والفارق أننا نمتلك قدراً أكبر من الحرية في نصوصنا تقود أحياناً إلى خلق نصّ جديد ومغاير للأصل، وغاية هذا التمرين، بالنسبة إليّ، العمل على جماليات اللغة وكمونها الحسّي المتأثر بالصراع في روح المؤلّف ما يغيّر من خيارات الكتابة، بالإضافة إلى البحث في كثافة اللغة وعلاقتها بالموروث وإيقاعها في معناه الأشمل. والجميل في الأمر أن هذا التمرين فتح باباً لاكتشاف الآخرين من المشاركين بالدرجة الأولى، ما سمح لنا جميعاً بالدخول إلى عوالمنا وآلياتنا في التفاعل مع النصّ، وإعادة خلقه. ولاحقاً بدأت تمارين أخرى تعمل على مستويات أصعب تتمثّل في البحث في جماليات المجاز، وإمكان تطويع اللغة لاحتمالات أوسع، وخلق علاقات بين أشياء صغيرة، أو كلمات ما، بأشكال عدّة تمنحها حيوات مختلفة عبر تطوير علاقة الدوال بمدلولاتها. ثم انتقلنا إلى تمارين في البنية الدرامية وتطويرها، وهدمها لاحقاً، واستفادة الشعر من المشهديّة، إذا صح التعبير، ثم تمارين تعمل على اكتشاف مكوّنات النصّ - الحلم، وأنتجت هذه التمارين العديد من النصوص الغنيّة (ستصدر لاحقاً في كتاب مشترك)، والمفاجئ أن التفاعل بين المشاركين ساهم بشكل كبير في تطوير هذه النصوص، إذ إن عيون الآخرين ولمعانها، كلماتهم، انفعالهم، ملامحهم، حركات أيدهم، جنونهم أحياناً ويأسهم، والأهمّ دائماً حميميتهم ومزاحهم اللطيف... كلّ ما سبق شكّل حافزاً غير متوقّع لتصعيد التفاعل، وكأنك تصقل روحك بأرواحهم، وتكتشف نفسك عبرهم؛ تعبرهم لتراقب نفسك وأنت تكتب من خارجك، وتتعلّم نقد ذاتك باعتبارك القارئ الأوّل لنصّك، وتكتشف للمرّة الألف أن فكرة صغيرة تلد عشرات الأفكار، وأن حلماً صغيراً، أو قصيدة لا تتجاوز أربعة أسطر قد تختزل أعواماً من الحزن والأمل، وقد تأتي وليدة لحظة خاطفة، وأن النصّ قابل للتطوّر بشكل مدهش وغير محدود. ولعلّ الفائدة الفعلية من هذا الملتقى غير محسوسة بشكل مباشر، بل تظهر على المدى البعيد، وغايتها اقتراح وسائل لتطوير الإمكانات الفردية في التعامل مع الأدب واللغة والتدفق وفن الحذف... إلخ، والجميل أنه على الرغم من قصر فترة الملتقى فقد تزيّن بالعديد من الأصدقاء والذكريات، والأهمّ هو قدرة تجاوز الذات عبر الوصول إلى الآخرين.
****
بودلير في البصرة
«نقد» - البصرة
أقام «نادي الشعر» في البصرة (3/ 9/ 2007) احتفالية بمناسبة مرور 150 عاماً على الصدور الأول لـ«أزهار الشرّ»، ومرور 120 عاماً على وفاة شاعرها الفرنسي شارل بودلير، ساهم فيها ثلاثة من شعراء المدينة ونقّادها، قدّمهم الفنان المسرحي عامر الربيعي، الذي قام بإسقاط التجربة البودليرية الخلاّقة على الشعر العراقي، خصوصاً في مرحلة ثورة النثر العراقي في خمسينيات القرن الماضي، على يد حسين مردان، بقصائده العارية التي حوكم بسببها، وجان دمو الصعلوك الأبدي. وأشار الربيعي في افتتاحه الأمسية التي حضرها حشد من أدباء المدينة ومثقفيها، والمقامة في قاعة اتحاد الأدباء والكتّاب في البصرة، إلى أن التجربة البودليرية غيّرت مجرى الشعر الكلاسيكي في العالم بإطلاقه ما هو حداثي وجديد وهادم وعبثيّ، ليعلن عن ولادة قصيدة الشعر النثرية؛ الصادمة والمستهزئة بقوانين العالم التقليدي. وأضاف أن بودلير فتح الباب واسعاً أمام التجريب الغرائبي والجارح والمكلّل بالجمال والشفافية، مطلقاً احتجاجه ضدّ مخملية باريس وعلاقاتها السرّية وجحودها المشاعر الإنسانية، فـ«أزهار الشرّ» كانت صرخة تأنيب، وصفعة رافض كونيّ، ولذلك حوكم على هذه المجموعة (الأولى) التي شُطب منها ست قصائد باعتبارها تجديفاً وتطاولاً على الأخلاق العامة. ثم قرأ الربيعي عدداً من قصائد بودلير التي تفاعل معها الجمهور، بالرغم من حرارة الجو الخانقة ومغيب الشمس وراء أفق ظلام يخيّم على المدينة بسبب الانقطاع شبه الدائم للتيار الكهربائي.
الورقات الثلاث التي قُدّمت في الأمسية الاحتفالية، والتي تُعتبر الأولى من نوعها في العراق والمنطقة العربية، لتأكيد انتماء قصيدة الشعر والنثر العراقية إلى ما هو إنساني عابر للقارات وللحداثة، كانت للشاعر علي محمود خضير والشاعر والناقد صفاء عبد العظيم خلف والقاص رمزي حسن، وقد تناولت الأبعاد المختلفة في ذات بودلير؛ شاعراً وإنساناً.
الشاعر خضير قدّم ورقته الموسومة «بودلير دَرْس الجرأة التاريخية»، التي جاء فيها: «بودلير شاعر قادته ظروفه الأسرية إلى أن يكون شاعراً. هو شاعر التجربة والتجريب بامتياز، ولعلنا لا نستطيع أن نصنّفه تصنيفاً نهائياً كسواه من الشعراء ضمن مذهب أدبيّ محدّد، ففي شعره شيء غير قليل من رومنسية جديدة مختلفة، وقصائده تختلف عن قصائد فيكتور هيجو. وتكفينا الإشارة إلى أن الشعر في فرنسا يُقسم إلى: شعر ما قبل بودلير وشعر ما بعده».
بعد ذلك قدّم الشاعر والناقد صفاء عبد العظيم خلف ملخّصاً عن دراسة كان أعدّها عن بودلير بعنوان «خيمياء العقدة، الإنسانية العارية: قراءة في الذات البودليرية»، جاء في مقدّمتها: «سوداوية بودلير لم تكن سوداوية نصّية أو مشاكساتية، بل هي ذلك المركّب الخيميائي الذي يحيي روح الشعر، ويدفعه دائماً إلى ابتكار فضاء كتابة غامض وشفيف في الآن ذاته. فبودلير يتصرّف منذ أن كُسرت آنية الأزهار في روحه، وتشظّت إلى كلّ ما هو عدميّ، فوضويّ، عابث، مؤلم، ومستهجن، بوعي تامّ منه، وعمق استبطن سلوكيته التي رسّخها دائماً بنزوعه المستمرّ إلى رفض «الاستقرار» و«التناغم» وصورة العلائق البغيضة المحافظة على صورة المجتمع الباريسي المخملي الكاذب. كان بودلير يرفض أن تستمرّ هذه الخديعة والنفاق الاجتماعي دون أن يصفع ويهشّم هذه الصورة التي تزعزت ثقته بها وانتمائه إليها، كابن للبرجوازية الفرنسية الأكثر حرصاً على المظاهر من مراعاة المشاعر الإنسانية».
وتُليت بعدها رسالة بودلير إلى مدير تحرير مجلة «الصحافة» أرسين هوسييه، والتي تُعتبر البيان الأوّل لجنس أدبي جديد سيكون التعبير الشعريّ الأسمى للّغة، سمّاه «قصيدة نثر»، نقتطف منها: «مَن مِنّا لم يحلم، في أيام الطموح، بمعجزة نثر شعريّ، موسيقى من دون إيقاع أو قافية، فيه ما يكفي من المرونة والتقطّع حتّى يتكيّف مع حركات النفس الغنائيّة، وتموّجات أحلام اليقظة، وانتفاضات الوعي. وُلدَ هذا المثال المستبدّ في الذهن، خصوصاً من الاختلاف إلى المدن الضخمة ومن تقاطع علاقاتها التي لا تُحصى. وأنت، يا صديقي العزيز، ألم تحاول ترجمة صرخة الزجّاج الحادّة إلى أغنية، والتعبير عن كلّ الإيحاءات المحزنة التي تُرسلها هذه الصرخة إلى السطوح عبر ضبابات الشارع العليا. لكني أخشى أن غيرتي لم تجلب لي الحظّ، فسرعان ما بدأتُ بالعمل حتى أدركت أني لست فقط في غاية البعد عن نموذجي الغامض والماهر الذي اقتديتُ به، بل كذلك طفقت أؤلّف شيئاً (إن كان في وسعنا تسمية هذا «شيئاً») في غاية الاختلاف، حادثٌ لافتخر به غيري بلا شكّ، لكنه يذلّ ناصية أيّ فكر يعتبر ما ينسجه شاعرٌ ما، كما ينبغي وكما خُطّط لذلك، مفخرة كبرى».
القاصّ رمزي حسن قدّم ورقة عنونها «بودلير... شاعر القبح بأبهى جمال»، قال فيها: «يعدّ بودلير، شاعر الحداثة بكلّ عصورها بحقّ، و«أزهار الشرّ» فاتحة لعهد جديد من الشعر، فلم يعد من بعده رقيقاً يداعب أوتار القلب كما الشعر الرومنتيكي، بل صار أكثر قوّة ووإثارة، وطبع بصمته على شعراء كثيرين كبار، ولذلك وصفه الشاعر الأميركي الكبير ت. س. اليوت بأنه أعظم مَثَل للشعر الحديث. لقد تغنّى بودلير بالقبح والجمال، بل فاق ذلك إلى كلّ ما تشمئز منه النفس من شذوذ وتعاسة وقذارة، ولديه القدرة على تصوير كلّ ما هو منحطّ وفاسد في صورة بارعة من صور الشعر».
جدير بالذكر أن النادي يستعدّ لإقامة احتفائية كبيرة للشاعر العراقي المغترب سركون بولص، بمساهمة عدد كبير من الأدباء العرب والعراقيين منتصف هذا الشهر.
مهرجان القامشلي الشعريّ الثاني
«نقد» - القامشلي
أقام «المركز الثقافي العربي» في القامشلي مهرجان القامشلي الشعري الثاني (دورة الشعر السوري المعاصر)، وذلك في الفترة الواقعة بين 1 - 4 أيلول 2007 في صالة المركز الثقافي بالقامشلي. وقد شارك في المهرجان كلّ من الشعراء: أديب حسن محمد، تمّام التلاوي، علاء عبد المولى، سامر رضوان، منير خلف، هنادي كدو، طالب هماش، عيسى الشيخ حسن، جازية طعيمة، حمزة رستناوي، عباس حيروقة، عبد الناصر حداد، بشير عاني، صقر عليشي، بهيجة إدلبي، طه خليل، طارق عبد الواحد، محمد المطرود، قيس مصطفى، رائد وحش، آصف عبد الله، سلام اسحق، أحمد حيدر، بنيان السلامة، راكان حسو، عمار الجمعة، علي جمعة الكعود، أحمد الشمام، مروان شيخي، عبد البركو، ياسر مراد، حسين سباهي. كما أقيمت ندوة نقدية عن الحساسية الجديدة في الشعر السوري المعاصر شارك فيها كل من النقّاد والشعراء: أحمد الدريس، هايل الطالب، خلدون صبح، خالد حسين حسين، أحمد جاسم الحسين (تمّ على هامش المهرجان توقيع ديوان «سبّابة تشير إلى العدم» لأديب حسن محمد، وكتاب «تحوّلات النصّ الشعريّ - قراءة في نماذج من شعر الجزيرة السورية» لمحمد صابر عبيد).
الجدير بالذكر أن الدورة الأولى للمهرجان خُصّصت في العام الماضي لتجربة جيل التسعينيات الشعري السوري، وتمّ إصدار المشاركات في ملفّ خاصّ بمجلة «نرجس» الفصلية الأدبية، عدد صيف 2006.
مكتبة الشباب
«حرير» للمصري عماد فؤاد
الجسد هو الجينولوجيا الوحيدة التي يمكن أن تحفظ شفرة السلالة، وأن تحتفظ بمجسّها السرّي الذي يتسلّل إلى الفراغات كلّها، إذ هو الرمز والاستعارة العالية، هو الفعل الذي يرهب ويحلّ، ينثر غباره - غوايته، ويترك شفراته في التحقق والزوال، يمكنه أن يصير انتماء، مالكاً أو مملوكاً، لباساً، قدراً، خطيئة، عقاباً. يمكنه أن يحوز جوهر الكينونة، ويغدو جوهر الوجود أو جوهر اللعب في آن معاً. هذا اللعب القصديّ الذي ينتهك ويصنع اللذة والاتصال والتنافذ مع الزمن واللغة، هو ميتافيزيقيا المحايثة، كما يسمّيه مطاع صفدي. هو الصناعة الشعرية التي تسيل وتضجّ بسحرية الكائن مثلما هو الأكثر إدهاشاً والأكثر توغّلاً، عبره تتكشّف الروح وينضو الجسد عن أسراره، وأسحاره وطفولته التي ترصّع اللغة بلثغات الأسئلة.
عند توهّجات ما يصنعه الجسديّ، هذا الجسدي - الشعري - المرآوي الذي يريد ويرغب ويكشف، لا يملك الشاعر المصري عماد فؤاد إلاّ أن يكون شاعراً يكتب شفرته من لحظة التوغّل فيه، ينصت إلى أصواته الخبيئة، يعيد تصويرها وتدوينها نصوصاً أو لقطات باعثة على المزيد من التورّط في هذه اللعبة بامتياز، فهو يمارس لعبة الغواية والمراودة والانتهاك، يترك اللغة ترسم المتجسّد، وتصنع المسافة، وتؤجّج الرنين، حتى تبدو القصائد وكأنها في غمار لعبة تعرية رمزية، تنزع عنها ما يحجب الحضور، لتصير فضاء من المرايا الذي تسيل منه تفاصيل الجسد باثّة، مرموزة بإحالات صورية مكثّفة، هي ذاتها فكرة الجسد الذي يبدو، والذي يكون، والذي يجعل من شفرة الحرير/ الغلالة إيحاء إلى ما تحتها من تفاصيل غامضة ومحرّضة على التماهي والاسبتدال والوصل: «حين دخلت/ وأنا منشغل بالكتابة/ كاد سريرنا أن يصرخ بي/ انظر، انظر!/ لكنه كالعادة/ طمع في طلتّك/ كاملة».
عماد فؤاد المسكون بالغواية، غواية الخارج/ الجسد/ شفرات الأنوثة/ اللغة، يندفع عبر كثافة قصيدته وتوهّجها إلى استكناه الرؤيا، تلك التي تجذبه إلى التأمّل العميق، تأمّل الجسد وهو في نوباته الشعرية. جسد معروض، أو جسد يسكنه النداء، جسد مفرط في أنوثاته، وهو الذي يجعله أيضاً في نوبة عاتية من القلق، القلق الوجودي والقلق الشعري، ليقينه أن النوبة الشعرية تضمر ما سواها دائماً، وأن حدوس الشاعر تحتاج إلى هوس هذه الرؤيا الموغلة الكاشفة الباعثة على «استكشاف ابتهالي للعالم وللجسد بواسطة الكلمات والأصوات». ولا شكّ أن هذه الرؤيا تدفعه أيضاً إلى الذهاب بعيداً نحو ما يضمره الجسد من إيحاءات وعلامات، لا يمكن حلّها إلاّ بالانفصال عنه، وإعادة تأمّله وتلمّسه «كتابة أسراره وأسحاره ونداءاته»، وربما السعي إلى إنتاج علائق جديدة أكثر توهّجاً تبدو كأنها تلامس خفّة الجسد في عريه، واعترافه، وربما في لعبة انزياحه التي أشبه ما تكون بحفلة ستربتيز يتكشف الجسد - اللغة فيها عن وصلاته ولحظاته وتوهّجاته بالتتابع. وأعتقد أن شفرة الحرير (العنوان/ العتبة) هنا هي إيحاء بفكرة الفصل الموهوم ما بين الجسد/ كنوزه وما بين صيرورته اللغوية: «من قال إن الحرير يحتاج إلى دانتيللا مخرّمة/ ليغوينا النظر».
في هذه المجموعة تبدو الكتابة الشعرية بسرديتها المكثفة، لكن الفاضحة والأكثر تعبيراً وتوهّجاً في نسج بنية الجملة الشعرية، التي تتشكّل وفق شرط لحظة الكتابة التي تلتقط وتجسّ وتبث، مثلما هي الأكثر تعبيراً في البحث عن لعبة الكشف والحضور، إذ تجعل من بنيتها الصورية المدمجة ولقطاتها السريعة الموحية محاولة في الإفصاح عن نموذج إيهامي للجسد. هذا الجسد الذي نتأمّله، والذي يعيدنا إلى بهجة الوصل وإلى خاصة ما يفيض به ويخلص إليه أو يطير سائحاً فوق كتلته كما يقول المتصوّفة... وهذا لا يعني وسم القصائد بتجريد التأمّل (تأمّل الجسد) وقماشته اللغوية المحدودة، كما كنا نقرأه في قصائد سعيد عقل، أو الاستغراق في كتابة الإيروس الجسدي عبر استحضار علامات فيتشية (الساتان، الكتان، كريمات البشرة، الحرير)، بقدر ما هي محاولة في تكرار تأمّل هذه القصائد عبر ما تجترحته من صياغة شعرية مفتوحة وباعثة على غواية (ما يسوّيه الجسد عبر لعبة الجسد) إذ تفترض الجسد موحياً/صوّاتاً/ عبر لغة الملامح في الوجه والخطوط في اليدين والحركات في الرأس واليدين والقدمين: «ترفعين يدك في ارتباكنا/ وتمسّدين ظهر عنقك الساخن/ أنظر في يدي/ فأجد حبّات العرق الصغيرة كلّها/ فوق أصابعي».
عماد فؤاد لا يكتب بلغة معقّدة، ولا يسعى إلى بلاغة الجملة بعيداً عن اشتباكها مع ما يقابلها من فضاءات صورية، أكثر ما أجده ينحاز إلى لعبة صناعة الصورة، وكأن هذه الصورة هي المقابل السحري الذي يصطنع إيهامية الفكرة - المعنى، حيث تبدو هذه العلاقة أكثر تمثّلاً لجوهر الشعرية الذي لا أجده واضحاً في افتراض «شعرنة السرد» الذي يفترض هو الآخر إيقاعاً خارج شرطه الوصفي والبنائي كما قد يوحي للبعض، وإنما أجده في القدرة الميزة التي يملكها الشاعر في احتياله على الشرط الخارجي الفيزيقي المباح، باتجاه صناعة أكثر سحرية وإثارة للجملة والصورة التي تتكشّف عن توهّج تعبيري له قابلية التسلل مثل غواية الجسد - الشفرة، ولعلّ هذا ما تجسّد أكثر في هذه المجموعة التي بدت أقلّ ميلاً إلى التوافر على استخدام البنية السردية المفتوحة، والانزياح إلى البنية الشعرية المكثّفة بموحياتها الدالة عبر ثريات العنونة المحدودة وغير المعرفة (حرير، إغواء، طواف، طمع، سرّ، إنصات، أنوثة، أوبة، خيبة، غفوة، لدغة...).
ولا شكّ في أن مقاربة هذا التجريد في العنونة يقاطعه التجسيد الصوري في المتن الشعري الذي يجسّ الجسد في لعبة كشفه، عريه، استعراضه، ويجسّ اللغة وهي تتراكب وتتكثّف وتوحي عبر امتلائها وفراغها الذي يمثّل أيضاً صياغة نفسية وتعبيرية تجد في البناء المقطعي المحدود للجملة/ الصورة نوعاً من الإيحاء على تعبير تستحضره القراءة الفاعلة، إذ لا يمكن أن تستوي الشعرية الفاعلة المغايرة دون قراءة فاعلة، ليس على طريقة رفاتير المنهجية التي افترضت القارىء العمدة، وإنما تصيّرها باتجاه أن تكون الشعرية هي المزيد من الحميمية والتدفّق والتوهّج الذي يزعزع الداخل اللغوي، ويسكنه المزيد من الاندفاعات ويحرّضه أيضاً على المزيد من الغوايات.
في قصيدة «يدها التي في مكمن ضعف» يستدرجنا الشاعر إلى غواية التفاصيل، وهي تمارس سيولتها واستعراضها بنوع من التوالي الذي يشبه وصلة ستربتيز. أو ربما هو سيناريو استمنائيّ يكشف من خلاله الشاعر عن شراهة الجسد حين يكون أمام وهم الزمن ووهم مرآته، يشاطره الانتهاك والتوغّل، والتمرأي بتوهّج العري الذي يجعل من الاستعارة اللغوية الشاملة مقاربة في تجاوز الترميز الايروسي إلى إفصاح ما يصنعه الجسد بالجسد عبر سيولة تفاصيله واشتباكها العصي، وخروجها من لحظة المراقبة إلى لحظة الافتراس! وهذا يؤكّد ما افترضته في شعرية عماد فؤاد في أنها تملك الكثير من الحميمية والتدفق: «سبعة وعشرون/ لكنها شبقة بما يكفي/ لتخيّل طعمه في فمها/ هي التي/ سرقته نتفاً في زحام المواصلات/ تلصصت كممسوسة/ على شبابيك جيرانها المتزوجين حديثاً/ أرهفت سمعها/ بحرص/ لطقطقة عظام زوجات أشقائها في الغرف المجاورة/ وتركت نفسها هامدة كجثة/ تحت يد جارها الذي هرس لحمها على بسطة السلم/ حين انطفأ النور».
نصوص فؤاد في مدوّنة الحرير هذه تستند إلى رمزية الجسد كونه المبشّر الكبير لفنتازيا الجنس والموت واللذّة والتصوّف، وكونه الباعث على الدخول إلى التجاذب الفاضح للغة، وكونه المقابل التعويضي لسديم الذاكرة، إذ يرسم هذا الجسد نصاً مفرغاً من قيد البلاغة، إنما متشظّ عند هزّات الغواية، دينامي رغم كثافته، له سحر التعدّد والتوحّد، وكأنه يكتب تحت نوبة ما يحرضّه الحرير/ الغلالة، والحرير المشوب بشهوة التلمّس، والحرير/ التخيّل الذي يهدّد الكتابة وسيولتها. لقد تجاوز عماد فؤاد في شعريته ما أنجزه في مجموعتَيْ «أشباح جرحتها الإضاءة» و«تقاعد زير نساء عجوز» الأكثر تمثّلا للسردانية الشعرية ومغامرة الجملة المفتوحة على التنافذ، مع ما يمنحه السرد من سيولة في الرؤيا وتجاذب في تيه الكتابة، وأظنّ أن مجموعته الثالثة «بكدمة زرقاء من عضة الندم» هي المؤشّر على التطور الواضح في كتابته الشعرية ذات السياق الحرّ الذي تتراكب فيه إيقاعات الجسد ورمزيته القوية مع إيقاعات اللغة بكل شطحاتها وانزياحاتها، والتي تجوهرت أكثر وضوحاً في مجموعته الأخيرة هذه، بكلّ ما تمثّله من تأثير لها شرط التداعي الحرّ بعيداً عن افتراض ما قد يتركه الأثر من خطوط قابلة للمحو.
عماد فؤاد يغرّد خارج سرب الشعر المصري التقليدي، إذ تبدو قصيدته نافرة متمرّدة، تنهل من متون لغوية وتصويرية غاية في الخصوصية، لا شأن لها بميراث القصيدة الواقعية والقصيدة الجديدة، أو بالنبرة الطاردة التي اعتادت وضع سياقات ضاغطة في التعاطي مع «ظاهرة» القصيدة الجديدة، ومنها قصيدة النثر الأثيرة عند عماد فؤاد. ولا شكّ في أن كتابة القصيدة الإيغالية في متون الجسد، هي شكل من أشكال التمرّد على قصيدة الخارج الموضوعي، العقلاني، المتراكم باتجاه تخليق نوع من الكتابة السرّية، الكتابة المحايثة التي تلامس جوهر الأشياء وروحها الحيّة، كي تبدو اللغة في نسقها جسداً قابلاً للحياة والوجود والتمرّد والعري والبوح دونما افتراض لسطوة ما تركته أنساق الكتابة عبر تاريخها المباح للتراكم.
علي حسن الفواز
«حرام C.V» للسعودي عبد الله ثابت
لقد مكَّن عبد الله ثابت تجربة الأدب السعودي خصوصاً، من فرصة كشف ذات الشاعر وتحوّلاته في هذا الزمن العربي القبيح، حين وضع سيرته الثقافية استباقياً في كتابه الروائي «الإرهابي 20» (المدى، 2006) برغم إصداره كتابين شعريين سابقين له «ألـ... هتك» (وزارة الثقاقة، 2004) ولاحقه: «النوبات: تالف يمضغ عصبه» (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2005)، ثم صدور مجموعته الشعرية «حرام C.V» (المؤسسة العربية، 2007).
وما يلفت في شعرية عبد الله ثابت هو ارتباطها بحالة التمرّد والاحتجاج التي تأخذ شكلاً مسطحاً من العنف اللغوي والمجازي الذي يحاكم الأيديولوجي والثقافي، ولعلّ شخصية زاهي الجبالي، الاسم الرمزي الذي وضعه في كتاب «الإرهابي 20»، الذي يحيل على تجربة التحوّل الثقافي التي استطاعتها الموهبة الشعرية أي: شخصية الشاعر، بكلّ ما تحتويه هذه الكلمة من معنى لغوي - اصطلاحي عميق في الثقافة السامية، من كونه مالك النبوءة والبشارة والرسول وصاحب الرسالة والمنشد المبتهل والمغنّي الطروب وصولاً إلى صوت الاحتجاج والترافع انتصاراً في آخر هذا الأمر للإنسان وحضارة تحفظ إنسانيته.
وما يعطي سيرة عبد الله ثابت فرادتها وتحوّلها إلى نموذج ينطق عن مجموعة من الشباب السعودي الذين «خطفت» عقولهم ومشاعرهم وأجسادهم لقسر عمى أيديولوجي غيَّبه عن «مباحات الحياة»، إلقاء نظرة سريعة على عناوين مجموعاته التي تشي بخروج عسر كان قوياً جداً: «الـ... هتك» و«النوبات: تالف يمضغ عصبه»، والأخير: «سيرة حرام أو حرام C.V».
فإذا كانت اللغة الشعرية عند ثابت تبعاً للحالة الشعرية تلعب بين إيقاع التمايز في تباين جمله الشعرية وروابطها (قضايا الإبداع في قصيدة النثر، يوسف جابر، دار الحصاد - 1991)، فهي تجنح إلى إيقاع متفاصم ومُفْقَر في بنيتها النصّيّة (قصيدة النثر وجماليات الخروج والانقطاع، كمال أبو ديب، مجلة «نزوى»، العدد17، يناير 1999). في مجموعته الشعرية «ألـ... هتك»، وقفت بين تصوّر إلهي سلبي وكبت شهوة، وهذا ما تمثّله نصوص عدّة من المجموعة نفسها كهذا: «مذ كان الرضاع زوايا فم/ مذ كان الفطام قريتي ذات انهيار/ كانت الرفوف تعثر بكتاب!/ الآن... وحدي على حافّة شقّ/ على أرض مجردة... فاغرة فمها لنبي!» (ص 20).
وفي نصّ آخر عالي الإيحاء والتفجّر: «لكم الدائرة... انتقوا لاثمها/ القبتان... لتختاروا فارسمهما.../ طينتي بانتظاركم... تقاسموا التفاصيل!/ هو لي... ولتسلموا النبض/ هو لي... واصلبوا جثتي بشوارعكم/ هو لي... وعلموا أطفالكم لعني.../ هو لي... ولتركل أعرافكم جمجمتي/ هو لي، كما الأشياء لله، ليس لكم!» (ص 22).
وإذا كان حالا الانفجار والشراسة المجازية شعرياً هكذا، فإن «النوبات: تالف يمضغ عصبه» يمور بين اللاهوية شخصانياً وتوحّش الذات في معالمها المتشوّهة والمجرّحة كما في جمل شعرية لامعة: «في هذا الوقت... جالساً وراء برميل كبير، أنزوي عن العالم هنا عن غلطة عمري» (ص 41)، «بعد أن أعبر النهر، سأرسم جراحي على ضفته الأخرى» (ص 57)، وأخرى: «تمّ إرسالي إليك، لكن جزءاً من النص مفقود» (ص 98).
يأتي ثابت في «سيرة حرام أو حرام C.V»، ليهدّأ النبر النافر نحو إيقاعية الغواية الشعرية، وهذا لاستراتيجية نصوصية ذات تنوّع واختلاف تلعب بين منطقة الأدبي - المجازي واليومي - العابر، ويتحقّق هذا عبر تنوّع بين وضع الكتاب شعرياً في تركيبة نصّية فائقة التنوّع بين نصوص رسائل الجوّال وحوار المحادثة، ونصوص شعرية، ويفتتح الكتاب بعبارة «تحميل» وينتهي «خروج» كما لو كنا في عالم بريد الكتروني، ما يفتح لنا التطلّع إلى مدى تطوّر تقني بوسيلة، أو استراتيجية التخاطب في عالم الحاضر، وهذا ما لا يغيب عنه الأديب، فكيف بالشاعر وحدوسه العالية.
لقد شهدت هذه المجموعة حال التحوّل من التوحّش والعنوفة إلى الغنائية والإنشادية (أو التسبيح) جاعلةً من حالة التفاصم والتمايز وظيفة نصوص الرسائل والحوارات، فيما راحت تلك الإنشادية إلى حالة من الحنين والحنان معاً بين نصوص غنائية عالية ونصّ الكتلة في شكله النثريّ الكثيف، فهو يقول في مستفتح غنائيّ عذب: «واهٍ واه!/ واسطوة الحالات الخفية، واخفاياي السحيقة،/ واتمائم المصير السحرية.../ يا كلّ كهربائي المرة... مرحباً،/ مرحباً.../ فلا أضيق من جوفي الشرس،/ المثقل باتساعاتك،/ بالورطات الخاصة،/ وأوهن ما في الهواء من لذَّات،/ وأثخن ما في الهواء من خيبات،/ لا أوعر من أحشائي الموبوءة بالصفر،/ وأصغر فاصلة!».
وتبقى تمثّلات الحالة الغنائية والإنشادية تلك القافية المقلوبة وتكرار الجمل التي تمتّعت النصوص في بنيانها الشعري الثري، وسأعرض نماذج مقتصرة على النحو الآتي: «لو أن مجاديفي... -/ أينها مجاديفي المرهقات! -/ لو أنها تكسر القارب،/ لو يقتتل بها اثنان،/ لو يرميانها على الساحل.../ وعليها حروفي الضالّة» (ص 24 - 25).
«بالمدارس التي تجهلت فيها،/ بالابتدائية والمتوسطة والثانوية،/ بالمدرّسين المجرمين، والحصص الثقيلة، وواجب الدين الطويل،/ بالفرح العابر فيّ ووقت الفنية والفسحة والرياضة،/ بالجامعة، والغشّ والامتناع عن الغشّ،/ بالقبيلة والأقارب والحي وولائم/ الأنساب...» (ص 31).
«خارج الاتجاه،/ خارج النبر،/ خارج الصبغات،/ خارج الطيوب والجيف،/ خارج قهوة البدو والكراسي الفرنسية،/ سأخرج حتى عن اللمس،/ حالاً في ما سيأتي... أشطر كلّ سنيني المخذولات،/ أعبر شارع الصوت،/ أصبح غازاً...» (ص 116). في النصّ الفائت إحدى صيغ البيان الشعريّ في بعده الثقافي والاجتماعي.
ولا ينتهي الكتاب الشعريّ في نصوصه إلا معطياً الحرام صيغته البدئية السحيقة في صورة المقدّس والحالة الجنينية في براءتها، والرحمية في غريزتها، لذلك فإن احتفال النصّ بالحرام وتعليق طائر لوصفه لهو شروع في تداول شعلة ما يضيق به، ويتطلع إليه الشاعر العربي داخل حضارة يستشعر خيانتها له، وليست تحقق طموحه، وربما تقهر مستقبله بالسواد ولغة الدم وصورة العنف، لذا يؤسس حلماً لمقبلٍ إن تأخر ذهب إليه: «هكذا قال طائر الحرام، الذي عبر الأرض لمرّة واحدة، ولم يمت لكنه ربما اختبأ في فستقة» (ص 172).
صورة الرمز توحي بعالم روحيّ تتوق إليه الذات المتوحّشة بين اللاهوية الشخصانية، كما قلنا، وقد بانت في مجموعته الشعرية، وكذلك في سلبية الإله وانكبات الشهوة لكونها لم تكن رغبة الإنسان وغريزته، بل إن هذه الإنشادية والغنائية وصلت نحو حالة من الصمت بقدر ما توحي هذه السيرة المقدّسة ذات الحرامات المهتوكة زمنياً والتالفة لمضغها، فهي في رحم تؤسّس هوية وفردية جديدة قوامها التمرّد وزيت قنديلها الحرية!
وفي هذه الشعرية إتمام وتخطّ لما تلوّنت به النظرية الأدبية التي كان ثابت أحد سلاسل نسبها من تطوّر بياني من خلال سيرة ثقافة التحوّل والخلق الجديد، أو بلغة محمد حسن عواد: الخيال والتمثيل والإيحاء (ديوان العوّاد، الساحر العظيم، دار العالم العربي، 1979)، على العكس مما تضيع فيه نظريات نقدية تعوق في تبريراتها وإجراءاتها مسيرة الأدب ومجازاته، إلا إذا كانت في النقد أن يُرى إلى القصيدة الأكثر قدرة على صوغ إحساسنا وتجسيد تطلّعاتنا، بحسب قول الناقد محمد العباس (قصيدتنا النثرية: قراءات لوعي اللحظة الشعرية، دار الكنوز الأدبية 1997)، ولعلّ ثابت في ما روى من سيرة الحرام شعرياً لا يوقع تجربة الأدب السعودي في عزلته التي تهدّد بها نظراً لعدم توازن النظرة إلى الموروث الثقافي والقيمة الشفوية، وطغيان السلب الأيديولوجي، وانعدام التجربة الثقافية التي توحي شعرية ثابت بمدى استباقيّ إلى تجاوزها، برايات الإنسانية، عبر الشعر.
أحمد الواصل
«مهبّ القبلي» للّيبي عبد السلام العجيلي
بعد ديوانه الأول «شجر الكلام»، يقدّم لنا الشاعر الليبي الشاب عبد السلام العجيلي ديوانه الثاني «مهب القبلي»، الصادر لدى «مجلس الثقافة العام الليبي»، حيث متاهة الحياة تستسلم لبساطة الكلمة وانسيابية القصيدة: «هناك زيتون يموت/ بلا توابيت/ برتقال ينطفىء/ على مهل/ هناك.../ لحم البنات/ المتناثر في الهواء/ هناك.../ لا صلبان لا مآذن/ هناك لا شيء/ غير نعوش صغيرة/ تطير خفافاً تاركة الألعاب والحلوى/ على مقاعد الدراسة».
يتركّب «مهب القبلي» من: مطر صيفي، هاربة، وصوصة، نقش، ليبية، نعاس على ركبة قرقارش، كل عام وأنت، اقتربي، وهم، جسد، قمر فرنسي. وفيه نقع على حياة داخل حياة، بتلويناتها المتعدّدة. نقع على الحزن المزيّن بأفراح صغيرة، والوحشة المبثوثة في مفاصل الجُمل. ثمة عزلة كبيرة يعيشها الشاعر، وثمة طقس مخمور بالبرد يحاول التغلّب عليه: «الفرح زبد/ يحتسي/ وجع الشواطئ/ ويُلْبس/ الحصى/ أجنحة ومصابيح/ وكتاباً لعاشقة أدمنتها/ ألسنة الملح/ ومزّقها لغو الطرقات».
بلغة تفهم بساطتها، فتبرع في سَوْقها إلى مطارح العادي واليومي، يكتب العجيلي قصيدته التي تنضج بين كتابين؛ بين «شجر...» و«مهب...».
خلود الفلاح
«أعلى من الشهوة وألذّ من خاصرة غزال» لحسين حبش
تبدو قصيدة النثر إبحاراً في ثنايا اللغة وبحثاً عن مساحة تفترق عن المجازات المألوفة، ومن هنا فإن مهمة الشاعر تزداد صعوبة في بناء نصّ جديد يثبت شعريته بعيداً عن المظاهر المعروفة والمتداولة للشعرية.
مجموعة الشاعر السوري المقيم في ألمانيا حسين حبش، والمعنونة «أعلى من الشهوة وألذّ من خاصرة غزال» (صدرت حديثاً لدى «دار ألواح» في مدريد بإسبانيا)، تشكّل عملاً جادّاً في هذا المنحى، ويبدو الشاعر متمكناً، منذ البداية، من التعامل مع اللغة، التي تُسرد على طول النصّ على شكل جزر متكثفة يربطها إطار من المعنى العائم الذي تغوص فيه الصور الشعرية.
تتحوّل النساء في نصوص حسين حبش إلى أطياف أثيرية تجتاز القصائد في خفّة، تاركةً عبيرها يرنّ في جنبات الكلمات، وأحياناً كثيرة يحوّل الشاعر النساء إلى كائنات تحفّ بنا، وتطلّ على شبابيكنا كالسنونوات: «جاراتي السنونوات/ يرقدن على ظهورهن طريات/ رطبات/ ليّنات/ مكتنزات/ ينعشن أرواح الشموع/ ويهزهزن قيافة الليل/ ثم يداعبن في غفلة/ قمصان الغرباء» (ص 13).
بالطبع، قمصان الغرباء في خاتمة المقطع مدعاة لسؤال يظلّ يتردّد عن مدى تأثير الغربة على الشاعر وشعره، وهل أفرز الشعر المكتوب في بلاد الاغتراب سماته الموضوعية والأسلوبية التي تجعلنا نتكلّم بثقة على شعر مهجري وشعر متوطّن؟ أغلب الظن أن الجواب عن سؤال كهذا غير ممكن بشكل جازم. لكن في وسعنا القول إن الغربة تقطر من لغة حسين حبش، وتبدو الكلمات مغموسة في «مستنقعاتها»، ففي قصيدة «الفستان المشروخ بمقصّ حكيم» ترد الكثير من العبارات ذات المرجعية الاغترابية، مثل: «الحانة المتربّعة على خصر الشاطئ»، «قباب السفن المبحرة»، «حبّات الأسبرين التي تطفئ الصداع»، «التهاب الصوت خلف الجبال»... إلخ.
هذا على صعيد المفردات التي يستعملها الشاعر، أي أن الاغتراب يحضر هنا في صيغة «قاموسية» بحيث تدلّ المفردة في حدّ ذاتها على الغربة، وثمة أسلوب ثانٍ تحضر فيه الغربة من خلال الإيحاء؛ إيحاء العبارة أو الصورة الشعرية، أو حتى إيحاء الطقس العام للقصيدة، فرغم أن المواضيع المتداولة في القصائد هي هي، لا سيما موضوعة العشق، فإن الأسلوب الذي يقارب به الشاعر حالة العشق مترع بانكسارات داخلية غير بارزة على السطح، كما في قصيدة «وجد يقارب الشرود» حين يقول: «مجيءٌ غريب من عبث المتاهات/ خلخال يفتك برنينه جدل الطرقات/ مرح يرجّ مشارف الاختفاء/ أغصان تستوفي هتاف الربيع/ .../ قميص ينفر من أزراره ويدبّر حيلة متموّجة/ تفضي من خلف الضجر إلى عمق الشهوات» (ص 31).
ورغم أن المدلول العام للمقطع السابق هو العشق، إلا أنه عشق مفعم باغتراب عميق تدلّ عليه الصور الشعرية الوجيعة، مثل: «مجيء غريب من عمق المتاهة»، «خلخال يفتك برنينه جدل الطرقات» (لنلاحظ أن الخلخال كلمة ذات مدلول غجري تدلّ على الترحال وعدم المكوث)، «قميص ينفر من أزراره»... كلّها عبارات تؤدي بشكل أو بآخر إلى طاحون الغربة.
أيضاً، ما يلفت النظر حقاً في هذه المجموعة العناية الخاصة بالعناوين، بدءاً بعنوان المجموعة «أعلى من الشهوة وألذّ من خاصرة غزال»، ومروراً بعناوين القصائد: «أنفاسك قاسية بما يكفي لهدم ظهيرة كاملة»، «اكتشاف المغمى عليه في الجسد والعبارة»، «الفستان المشروخ بمقص حكيم»، «حالة حمى بضربة أزل»... فنحن نلاحظ ميل العناوين إلى الصورية، فهي عناوين مركّبة تشكّل صوراً شعرية في حدّ ذاتها، حتى وإن كانت، في العموم، عناوين غرائبية متمنّعة تلعب على استفزاز القارئ وشحنه لقراءة نصّ مختلف، وجرّه إلى أقصى حدود التفاعل مع مقولات النصّ.
حسين حبش يستعمل العشق ليكيد به يأسه وموته وسواد أقداره، وهو لذلك لا يكاد يخرج من العشق، من بابه، إلا ليعود من نافذته، هو عاشق يؤجّل خيباته بالمزيد من الحمّى اللذيذة التي تفتك برصانة اللغة، وتجعله شاعراً يأخذ مفرداته إلى أقاصي التضوّر وأعالي الشبهات؛ إنه تعويذة النبل، أو كما يقول: «النُّبْلُ أن أعرّي كوامنك/ وآخذ بيديك، أحزّ بهما عنق اليأس/ ثم أدحرجك إلى الورد الكامن في شقائي» (ص71).
إذاً، ثمة في عمق شقاء الشاعر وردٌ بهيّ، وهو شقاء غريب وفاتن لا يليق إلا بالشعراء المبدعين، وحسين حبش واحد منهم بالتأكيد.
أديب حسن محمد
****
سلسلة نقد/ 1
سلسلة تُصدرها نقد للشعراء العرب الشباب - رقم 1
حقوق النشر محفوظة لـ نقد مدّة ثلاث سنوات
حافلة تعمل بالدخان والأغاني الرديئة
الطبعة الأولى، أكتوبر 2007
في هذا العدد تضيف نقد تقليداً جديداً إلى عالم النشر، حيث ستنشر في كلّ عدد من أعدادها مجموعة شعريّة جديدة لشاعر شابّ، متمنّيةً من القرّاء والكتّاب والنقّاد التعامل مع هذه المجموعة على مثال ما يتمّ التعامل مع المجموعة المنشورة بشكل مستقلّ.
(إلى نبيل سبيع وفارس العليّ: صديقان بلا حدود)
أُصغي كثلجٍ قبل أن يذوب
في صحراء النوم القاحل من الأحلام
أراكِ
بظهر مطعون بنظرة الملايين المكبوتة للوراء
بكلمات كلماتي أراكِ
وأشرب عذوبة صمتك المسموعة
أصمت اخضراراً
ولشدّة فقدي أكاد أخلقكِ
ولستِ بعيدة
أراكِ تنفّساً
أدغدغني وأعجز أن أضحك
أدغدغ ريح ظلال أحلامك:
فينهض ماءٌ في يدي
بحجم الحياة
وتسمعينني بماء شَعركِ النهريّ
فأتسع صمتاً بكِ
في تراب الريح
وربيع الأزهار الشاهقة
في سقوط ورقة خرافة
اقترنت قصيدة هومير الإغريقي
بالملحمة
منذ ما قبل ميديا يوريبيديس
أما ملحمة الشرق اليوم
فصارت تعني:
مكان الذبح
غير أن شفاف صدركِ
أستوديوه طبيعة مفتوحٍ
لم يكتشفه بعد:
لا أحد.
صدركِ الذي لا يقبل الشرح
يتّسع لجهات كثيرة
وسمواتٍ أخرى لم أكتشف لونها بعد
أعيشكِ عشقاً رفيعاً
كخيط ماءٍ - لا أظمأ بعده أبداً -
أعاني كثيراً
من فرط المعنى
ووهم الالتئام
أحيا بحياة نظرتكِ
تكسر زجاج المسافة
وتدلق نعاس الماء المشتجر
مع فراسِكِ الحلم
وبشهي قُبلِكِِ الشهيّ
كمشمش الضوء بصيف بارد
أحيا بخيال خيالكِ المعصور
كشمّامٍ حلوٍ بلا سكّر في الدم
أحيا بحياة حبّكِ العصافيرية
أرتني يداكِ عروق ماء الضوء
لحظة مداهمة حلم
في نأمةِ يمام
القصيدة: شاعري المُفضّل.
وأنت القصيدة التي أعشق
بلا غزو
أو غزلٍ.
بحياتكِ
أُميتُ حياة الموت
وأقطرُ عسل هواءٍ بلا حدود
بفرشاة مائكِ الذي يروي الماء
أحطّ على ريش نومكِ الهادىء كمحيطٍ
خارج المحيط.
في زرقة عينيكِ السوداوين
أعلو كبرق أشرعة خفيفة
وأغفو على ذهب أجنحة الفَراش
بحرير سمائك أدفأ
يبلّلني كريستالُ ضوئك
ويتلفّعني بردٌ
فارّاً من قسوة ِصفاتِهِ.
لاشفاهية أنتِ
ولا مُرتجَلة في فم
يُطبق بثرثرته على عابرين
ويوصد الفضاء
ونوافذ منفوخة كخشب البالون
أكتبكِ لا لأكذب
لا... لأكون صادقاً
لأصغي إلى حنو حنجرتكِ إذ تصمتين
لورد شجركِ الناعس في يقظته
لأعلن مروري في حقيبة الماء
التي تحملين
في حيرةِ صمتك المطلول
في إناء زهر إناء يبتسم
كطينة ريح مغسولة بالمشاع
والقُبلِ النظيفة.
أصمت ولا أتشابه
كطفل عينيك في استعارة المرايا.
أراني في نهد تنهّداتكِ
أصلّي في ضلالكِ
وأسيرُ في ظلالكِ البعيدة
والأقربُ مما: أتصوّري/ ن.
لشجر مُعطّر بخفّتكِ
أسافر.
ألمسُ حواف الريح في وريدكِ
وأصغي كثلج:
قبل أن يذوب.
أنفض غباراً عن - سطح العالم -
أمشي كشجر قُرب نوّار ظلالهِ
ككلمةِ صامتةٍ
تتأمّل «بكاء الدموع».
وبفمٍ لاسطحي
أبوس شفاه صوتكِ
وقُبلكِ الطائرة
أروي نومكِ بآبار حلمي الجوفيّة
ليفيض عنب النبع
وينمو زهر الصمت
في اختلاف الظلال
ويعشب الماء على رفّ كتاب الهواء
أعرف كثيراً أن صمتي سيُسرقُ
من غرفِ - حقوق الملكية -
سيسرقه استبداد جمهوريات الموز
بوفرة مؤخّراتها الفقيرةِ
ومن يكتبون على مرايا ليلهم
أنا الموقِّع أعلى هذا:
أكتبُ لأصمت.
لأتحدّى بلا أعصاب.
لتصغي إليّ الملائكة
و«شياطين الإنس»
ليصغي إليّ الإصغاء
في ضجيج السكاكين
والموتى
في عبورهم اليوميّ.
لتصغي إليّ البيوت الكائنة:
في الحي الميّتِ
جوار المقبرة
وتظلّين أنتِ عنوان الدليل
إلى نفسهِ
وكفّ رؤية الكفيف
لا المبصر الأعمى
مهندس الخطأ
وحضيض الأغاني.
حافلة تعمل بالدخان والأغاني الرديئة
كما يليق بأحذية عاطلة
على البابِ:
يرتّب الليليون أسماءهم
على منصّة الرمز
كطهارةٍ نقديةٍ
تمنحهم شرف المُخـ... ـلصـ... ـوص
«كلباً»
كلباً
وسعادةً
سعادة.
فيما أرى الصمتَ
بلمس بياضه
ألاطفه كطير
تُحلِّق في أجنحته سماء بكاملها
نازحة كالمجاز
شهية كـ«بنت الصحن»
وحلوى زنود السِّتّ
وصافية كقمر تحت الضوء.
أشتمُ صمتاً في البياض
فتشمِسُ حواس الطريق
وتزهر الكثافة كبهجة بلا عيدٍ
بالضرورة.
أنا طعنة شمس باردة
في قلب حجر رهيف
قطرة هواء تلامس ورقة طبيعة
ورقتها
في مكانٍ
خالٍ من المكان.
أسقط على مطر فيُورق
كآهةِ غريب ٍ
وأحزان فرحٍ باذخ
كشساعة صمتٍ
في بوحه العزيز
أنا ريح عليها أثر خطوات متعبة
كبلاد مُكدّسةٍ على جدار أصفر
أنا صمتٌ مطعونٌ بالسكوتِ
أفهمُ الصمت كمكان صالح للعيش
والحياةَ كمفردة واحدة:
هي الحياة.
ومحتشداً كجهات أعضائي
أمسكُ حزمة ظلال محروقة
في - ثقاب الوقت -
وحيداً كالمكان
رحباً كالفراغ
إنساناً كموسيقى
هواءً ككلمة حبّ
بلا زواج.
الماء وسيلتي في السفر
وأنا أتسلّق أعشاب المرايا
وظلال الجبل من الداخل
أسيرُ
يجرحُني الطريق
ولا تعتذر المسافة
يتنهّد الظلّ
ولا يعتذر الجالس
في ظلّ فاكهته.
أزهر في الخطوة
كشجرة ينبوع
تتحسّس ظلالها المسروقة في الكتب
تتأمّلني نظرة العالم
لينام الربيع
بعد فائض الصحو.
وأنا أراكِ
أنتظركِ معاً.
في اخضرار قيامتكِ الشاهقة
لا أجد غير هواءٍ مُواربٍ
خلف شموسٍ غاربةٍ
في الظلال.
أُنزلُ اسمي من أعالي ظلالهِ
صاعداً شفق يديكِ المجرّحتينِ
(بغربة الماء في الحجر).
أرمّم ما انكسر من صورتي
في العينين الواسعتين لوجه السماء
أرمّم صورة الضوء
وصوته على أجنحة التربة
وغزارة الجدول اليابس
أرمّم زجاج الفضاء المصروع
بصمت الريح.
الزهور المشروخة
كأسطوانة العادة.
أرشّني بشفة العطرِ
وألتفّ بزرقة لون الضباب
محتفظاً بماءِ اللغةِ
رافضاً صُرُة الممدوح
أرمّم الأغنية بنثر الحياة
وبذهب القصيدة:
أكسرُ الإيقاع كالشرف
ليسقط مسلّحون
بإسمنت الكلام
ما أرهف ضباب
يصّاعد بلا دخان
ويخترق جسمي بلا أذى
كأجنحة ملائكة
لا تقبل الرشوة.
ما أكثر ما أستحمّ في فضاء يديكِ
أسكبُني على مطرٍ جافٍّ
ومساءٍ مكرّر
كالحليب المُحّلب
فيصير مسائي:
حقلاً أخضر
من الألوان
سماءً نظيفة كعشب البرق.
ما أجمل الرغبة
في عدم الرغبة.
المشكلة
أنني حفظت جدول الضرب
ولم أحفظ جدول الماء.
الليل بجعةٌ سوداء
في بحيرةٍ
من إسفلت النجوم
وذهب السكوت المزيّف.
وصمتي بُحّ من فرط نداءاته.
أقصى ما أستطيعهُ
كتابة ذكريات ميتة
كمدينةٍ بلا بحر
أو الجُلوس على مقعدٍ مهترىءٍ
في مؤخرة حافلةٍ تعمل بالدخان
والأغاني الرديئة
وتسير باتجاه القاع
غير أن الوصول ما يؤرّقُ
لا المسافة.
الكلام وحده لا يغيّر شيئاً
في المكان المكرّر كطلقات سريعة.
وحيدٌ
كحقيبة سفر ضائعة.
أقدامي وحدها
من يتداول سِلمياً أحذيتي
تعبتُ من المشي في الحلم
لكني سأظلّ أحلم
كما أشتهي ترجمة الأشجار
أبتكر مكاناً جديراً بالحياة
وأخاطب نصف المجتمع.
أخاطب أمّي
بطفولةٍ متأخرة:
نظراتُكِ إليّ
تشرحُ ألم الجهاتِ
يكفي أن تمرِّي بدخانٍ ما
ليفوز الهواء
بجائزة البيئة.
أنام على نعاس يديكِ
وأستيقظ دهراً
فلا أحسّ بالجوع:
بسبب يقظة الأرغفة الدافئة
لمشاعركِ.
أحتاج إليكِ
حاجة الشجرة إلى ضوء النهار
الحياةِ إلى عين ماءٍ
لترى
الترابِ ليزهر
الوليدِ إلى حليب أمّه:
حاجته إلى النوم
لينمو
حاجة الصيف إلى الساحل
والبحر إلى امرأةٍ لا تُملّ
حاجة الربيع إلى ابتسامة النفس
الغريبِ إلى المساواةِ
من فرط الشتاء
حاجة الخريف إلى لاشماتةِ النظرةِ
حاجة الطفل إلى أن تنموَ عظامهُ
قبل تكسّر الحلمِ
على جدار البيت
حاجة العراء إلى العراء
ليدفأ
حاجة الهواء إلى العزلة
ليتنفّس...
لو قليلاً
بعيداً عن كلفة الزحام
حاجة القسوة
إلى رهافة الحجر
حاجة الماء
إلى ادّعاء الظمأ
حاجة الفراغ إلى نفسه
ليكتشف
حاجتي إليك:
لأكون.
اسمه الربيع
الجدار ليس اسمَهُ وصورَتهُ
في الجدار.
الليل ليس عتمَتهُ المضيئةَ وجهَ القمر.
النهارُ ليس ضوءَهُ
في فساد الفوتوغرافيا.
الهواء ليس اتساعَهُ
في ما يتنفّسون من رائحةٍ
وأصباحٍ متأخّرة.
الطائر ليس سماءه
في رماد الأجنحةِ
وبهجة الألم المتبقّي
تحت الأنقاض.
حياته ليست حياتَهُ التي تسقط كلّ يوم
إلى أعلى.
الوقت ليس ظلالهُ
في الأمكنة المصابةِ بفاقةِ الضجيج.
الشمس القليلة
ليست سطوعَه المتمثّل في الغياب.
الزهرةُ رؤيتهُ المبكرة
في أكثر من طبيعة.
لا يبلغُ من العمر ربيعاً
واسمُهُ الربيع.
أسىً آسيوي
شَعرٌ
كليلٍ في آخره.
فاحمٌ كثلج ٍ يضيء.
شَعرٌ يصلح كثيراً للنظر فيه عميقاً
إلى عتمة الخارج.
وغير مبالٍ بي
أسير كطيور الضوء
في الصمت.
لا مبالٍ بظلّي الماطر في الورق.
ولا بندى الصواعق
على أسلاكه.
أسير على «نوكيا» صمتٍ
مزدحماً بمطرٍ
في تأمّلي
وبهواءٍ خفيفٍ
لفرط خفّته أشربهُ.
أوصل السير في الصمت الفسيح
ماشياً كخيال الصمتِ
على حافة نودٍ تهبّ
أسير بمحاذاة الهواءِ
كأنما أجنحته
وأمطاره التي لا تسقط كعادة الفصول.
أسير في السهر. أنام في صحوه.
أُدحرجُني ككرات ماءٍ
على سطح ليل.
أجرحُ الصمتَ
في كتف التأمّل.
وأنحر ثُريّة ضوءٍ
تشرق في عيون الدمع
كأسىً آسيويٍّ.
صه أيها الصمت
لم أتعوّد نهر الصمت
لكنني هذه المرّات
أستجمع ضعفي كلّه
لأقول له دون كلام:
صه أيها الصمت.
كن صامتاً إن شئت
ولا تُكثر من الثرثرة
في تأمّلاتك
وصميم صمتك
في صفحة ضوءِ الهواء
وأنت يا كلامُ
كن صامتاً
واصغِ إلى موسيقى
البعيد
كنبات الصمت لا تتحدّث
أو تصمت ببنت شفة
كن مكاناً يتسع للمكان
هواء مشاعاً لا يَمتلِك
ولا يُمتلَك
هواءً مُخزَّناً
في رئات المنازل من الداخل
وطائراً في نفسه
لا في إسطواناتٍ
حمراءَ فارغة
تُوضع عادة
في جُدُر واطئة
كي نتحضّر
فإذا بنا نحتضر
بأمل إطفاء حرائق القلب:
يشعلها ماء الجدار الأسود
بأحبار سرّيةٍ.
المتضخّم بدم النقود
المتوّج بملح التماثيل
ورأس مال الحروب المفداة بالدم
والعظم
وبالبواسل.
أنسى
لأتذكّر ما حصل لي
في اليوم الذي لم يأتِ بعد.
غداً سأنسى
ما سيحصل لي بالأمس
كما لغيري.
ودائماً الأبيض ليس أبيضَ
كما يجب أن أصدق
الأسود بملامحه الزرقاء قد يتغيّر
لست متشائماً:
لأن ثمة بالطبع أشياء كثيرة
تدعو إلى ذلك.
ضبابٌ أسود من حرير
يا صمتُ
يا الندى الحيّ
تدحرج حبّات كريستاله
في الأوراق اليابسة
يهرق الرياح في إناءٍ مكسور
ويرتجف في ضوئه كالغيوم
كإزهار ظلٍّ في غياب
وذوبان شمسٍ في غناء الحجر
يا طريقاً يسير في طريقٍ ولا يصل
وظلاً يشع في عتمةٍ من نور
يُفسِّر الملح بالعذوبة المُرّة
ضبابٌ أسود من حرير
وثلج أدفأ من صيف
شموس تضيق خلف حجابها
وكعاصفة تسبق هدوءاً
تضيء العتمة المُعتمة للغرف.
الجبال
(إلى الراحل محمد حسين هيثم)
الجبال التي كرزقٍ
جئنا من ترابها الأزرق
وذؤابات المطر
الجبال المطعونة بظهورنا
الجبال المكحولة أعاليها
بأسود البرق. وفحم الظلام.
والمضمّدةُ بطن معادنها بالسواقي
الجبال المكوّمة في الغرف
بوعورة النوم. وحرير العبد.
الجبال التي ألفناها بالنظرة
في أكثرمن ليل
وألّفناها كالكتاب
الجبال التي كم باهى الأجداد بأوكارها
خوف أن نموت
فصرنا مع الوقت فرائسَ للنسر
سائغة وأسلاباً
وصارت أضلاعنا عددٌ
تُرى في الصدر الشفّاف
كبقايا روائح من تراث العظم
الجبال التي شرّدتنا لمدن بلا مدى
أو رحمةٍ تستعير أسماءها
من المدن الفاضلة البعيدة
الجبال التي ورثنا روثها
وهزءَنا بالرمال
فنعّتتنا التهائِم:
بالجباليا.
الجبال المعلوفة بغناءٍ آسرٍ
كغروب حقل من الدُّخن
ومقايضات الصبايا في احتفال المواسم
الجبال التي جرّحت جراحنا
وسكبت الماء في دلاء الغريب
الجبال التي هاجرتنا طويلاً
إلى الجبال
الجبال المُغبَّرة كوجوهنا في الشتاءات القاسية
الخضرة الشعثاء
في صحراء المدن الحداثية: بالاستهلاك
حتى الغبار
الجبال التي صعدنا سلالمها مراراً
إلى غرفة نوم الهواء ولم نتنفّس
قطفنا من أزيهرات مطرها نبات الريح
وعشقنا في مدرّجها بنات الأفكار
الجبال التي تقوّسنا في ظلالها
كشموس الشمع
في ظهيرة ليل مُقطَّرٍ
كالبلاستيك على جلد التراب
الجبال التي خدعتنا كحربٍ
وواعدتنا كحُبّ
الجبال التي نسيتنا كبحر
وأراقتنا كحبر قلوب راعفة
على قار النسيان
كم وعدتنا بالدفء وبالمواقد
وصالحتنا بالرصاص
الجبال التي أسرتنا بجمال صيفها
وأخذتنا أسارى بقيود سلاسل صدئة
في ثلج رحيلنا اليابس
الجبال التي كسرت أهلها:
«كشوكة العدو»
كم كسرنا عليها بيض الحمائم
وقواقع الحلم
وأسلنا النجوم في عماء العتمة
وفي احتلاماتنا البيضاء الساهرة:
كم أسلنا ماءً يابساً
على قمصانها المُشجّرة بالأمل
كم توجّهنا كالجهات
وتوهّجنا كجوهرة الأفعوان:
حتى استيقظنا الفجرُ
ولم نستيقظ الفجرَ
الجبال التي صافحنا بها الغيم والهبوب
ولوّحت بالوداع
الجبال التي سريعاً يجفّ بها عرق الشقاء
ويُعتِم البيرق
الجبال التي تصلها آلة الإله المُدرّعة/
قبل صباح المدرسة
ويصل أعاليها «مدفع الإفطار»
قبل الصوم والصائم.
الجبال التي تصلها الممحاة ُ
قبل الطبشور.
الرصاصة. قبل الكلمة.
الصرف بالصندوق.
ومسدس الطوارىء.
قبل النحو. أو الطريق.
الجبال التي تصل أعاليها:
«حِدرةُ العسكر»
قبل العَلم.
الجبال.
ا ل ج ب ا ل.
قابيل
ما زال فارّاً من وجه اللاعدالة
قضيّته مقيّدة
ضدّ مجهول
حتى اللحظة التي بلا وقت
يحتاج إلى أكثر من حياة ليعيش
وإلى أكثر من موت ليحيا
أن يلامس الصمت
مصافحته يد الثرثرة.
أكلتُ سحاباً
أمسكتُ ريحاً من شعرها
وطرحتها على السرير
أكلتُ سحاباً كثيراً
حتى شبعتُ
سرت في شارع ليس في مكانٍ
أو بلد.
استعرت نوماً من عين يقظى
فصرت النوم
وطمأنينة النائم.
زرقاء بلا لون
صورة الريح في جدار مرآة
في عتمة نومهم الذي بلا نوم
منذ زمن غابر في الغبار
يعتاشون على رماد الذاكرة
كعتماتٍ حمراء مدلاةٍ في وجوه
تفرّ من رعبها الطرق
والمرايات.
في حين تسيل من مخدّات ورديّة
أحلام مكسوّة بالمطر
لظلال عبرات ساخنة
ومنسية
كتراب عالق على الخارطة.
الامتلاء الحقيقيّ في اتساعه للعبور
1
الطيور لا تهاجر
تحلّق في الهواء فحسب
وما ان تحطّ على الأرض
تهاجر
ا
ل
ط
ي
و
ر
2
الأطفال الذين من فرط جوعهم
أكلوا الزهور:
صاروا حديقة.
3
في الفراغ لايوجد شيء
سوى الفراغ:
الامتلاء الحقيقيّ في اتساعه للعبور
وتأمّل النوم في أحلام الملاك.
4
الدُّمى في الفترينات:
حياة.
الشارع ميت/
كموقف سيارات غير واقفة.
لا يوجد مدينة
ولا حديقة
سوى حديقة الجيش:
يُمنع التصوير إذاً
البلاد كلها/ منطقة عسكرية.
5
في «سوبر ماركت الهُدى»:
تعرّفتُ إلى العولمة
اشتريتُ علبة تاريخ
وما إن رأيتُ أسفل العلبة
كان التاريخ مُنتهياً.
كلمات فوتوغرافية
الحدائق تتنزّه فيّ
كما تعيش الأسماك الشاعرة
تحت هواء الماء
وبنظراتها تنظر إليّ النظرات
تعشقني الوجوه الشموس
المطعونة بالتقاليد
البحر يطيل الوقوف أمامي كعصافير
كما يحرق الرمل أصابع الانتظار
كحدقة ماء مغسولة بمطر
يبقى في سقوطه مطراً
تحملني في ضوء عينين:
إلى آخر البدايات الأخيرة
وهدوء المحيط المتخيّل في الغياب
كما يسافر السفر ولا يعود الراحلين
كما لا يصل إليّ غير بقايا ظلّ
طلته نجوم مشمسة بطرطشاتها
في زرقة تستحمّ بها مجرّات
وصبايا يتلمّسن أعضائهنّ في الماء
محلوطاتٍ بأشرطة الجينز المُحجبة
خلف ليل المدن الفقيرة:
بسبب سَبابها
وسبّاباتِها
وإبهاماتها المُبهمة
في ليل النَخبِ
والانتخاب
وارتكاب الكبت
وبعيداً في الأنظار المنصفة
يرتدين معاطف ضوء مغزولة
من حرير أزهارهن
وخرير صمتٍ
لا ينقطع في سماء الأصابع
يشف تراب لم يُكتشَف
في صدورهن الرحيبة
كأعشاب الريح
يسبحن بوصال من القرع في عالية ماء خفيف
ويدَّرعنَ بسموات أسمائهن
نجمات أليفات يلبسن بروقاً
في عتمة الأضداد
إلا من مايوهات تشفّ سوداء
تسلب أطراف النهار في مساء ليل رهيف
كحافّة مائية تتّسع لفضاء لانهائيّ
من أفراح الحروب
وأحزان السلامات المموّهة.
أعصب عينيّ:
أتمرّى
يتخشّب الظلّ أمامي
لا أرى سوى طهارة الحقيقة
في لذّة غيابها
لحظة يعجز فيها التعبير
عن كلمات فوتوغرافية
لعدسة روحي المتعبة.
تحسّس الهواء بحذر على الورقة
ظلّ أخضر في شموس يابسة. خيالي الصامت وثمّ حضور لامع لأحذية مشغولة بجلد موروث. نوم نائم في يقظة مهرّج. فضائحية مباشرة. تحت سقف المرفوع كفتحة مُقدَّرة على آخره. لا تقرأ حياتك لصديق الغد الماضي. أو تتنهّد بشكل مرتفع. ستجدها منشورة في الليل التالي. على جدار جريدة. لكن ذلك ليس مهمّاً. الأهمّ في الأمر ما لا يهمّ. إخفض الماء أعلى ما تستطيعه من حنفية حضورك. في لحظة منشورة على صفحة سوداء أو بازار بأسعار منافسة. قد تفقأ عين توقّعك أو تفقد مزاجك حينما تجد جزءاً كبيراً من حياتك المسروقة منشوراً دون أي اعتذار. ثمة من يتصرّف بحياتنا نتيجة موتنا عن الانتباه. حياتك ليست حياتك. لأنك لا تجيد الإصغاء إلى حياتك. لأنك تقرأها غالباً على حبل غسيل أحمر في السطح المصوّب كفوّهة. تلك حياتك التي لا تنشرها بشكل أفضل. أو تنشّفها في مغسلة بخار نظيفة. لا تقرأ حياتك إذاً لبعض موتك. قد تفقدها كما يفقد عاملٌ ساهٍ إبهاماً أو سبّابة في مخلب آلة أو ماكنة بلا عقل. لا تقرأ حياتك أو تنشرها في سطح وعي يبول إرادياً على نفسه كلّ يوم كنوع من الاحتجاج. لا تقرأ حياتكَ لأحد. أنت حُرّ: على افتراض كونك لست كذلك. يمكنك فعل ما لا تريد، أنت حرّ بالفطرة لا بالاكتساب. أنت حرّ. كعريك في الولادة. أن تنشر حياتك مثلاً على مشجب الريح. أو في صحيفة بازار. سيكون أجدى من ملاحق الصرف. إن نشرت في بازار ستقرأ حياتك مجاناً وستوزع حياتك بالآلاف. سيقرأك الباحث عن وظيفة. والعقاري. وسيكتب عنك مراسلو «رويترو الإسشتد يوبريس» خبراً عاجلاً. سيقرأك الباحث عن حياة بالتقسيط أو «قبر» للإيجار. ستنتشر حياتك كثيراً في بازار فحسب. ويمكن لحياتك أن تعيشكَ بدلاً منك. كدعسات متروكة على الباب. لا تفرط كثيراً في كتابة حياتك. قد تضيع منك حياتك. بمجرّد عبورك سلّة مهملات. وقد يمرّ حوت النظافة فيلتهم حياتك مثل «شوارما» أو«بيتزاهت». قد تفقد موتك العزيز في حافلة بسبب أنك لا تقرأ دعاء السفر أثناء خروجك من الحمّام. لا تقرأ حياتك المخنوقة بأصدقاء الوهم: من. يخيطون جسد حياتك كلّ يوم بإبرة الغياب. حياتك التي قد تجدها منشورة في خازوق كبير لثقب صغير. سفراء النوايا التي لم يُكتشف لونها بعد. انتبه من المرور في إشارة المرور. ليكن جيبك مرقوعاً بدقة. تحسّس حياتك في جيب أنفك النازف. تحسّس الهواء بحذر على الورقة. وأنت في خطّ طويل على متن سيارة «فرنسية» تأكل الطريق بعجلاتها. كما بعجلتهم المتأخّرة دائماً. لا تقف ولا تنتظر. لا تقرأ حياتك. حتى في صمت صمت جدران غرفتك الواسعة. إذا لم تجد حياتك اليوم أو غداً قد تقرأها منشورةً في صفحة الهويّات المفقودة. أو تقرأها كنصف حياة مقسّمة إلى أسهم في ضمير البنك الوطنيّ المُفلس دائماً كشارع رئيسي يسير بياقة وسخة، حذاء جدار سميك من التحايا والدم البارد لجدران حياة مثقوبة بالموت.