بقلم: عبد العزيز المقالح
(شاعر وناقد يمني)

لا ينبغي أن يكون رحيل نازك الملائكة السبب الوحيد في إزجاء التحية إليها، واستذكار دورها العظيم في إرساء المفاهيم الأساسية للتحوّلات التي شهدتها القصيدة العربية الجديدة خارج تخوم المألوف والمتعارف عليه من الأشكال الشعرية التي كانت في أواخر النصف الأول من القرن العشرين قد وصلت إلى غايتها القصوى، بل لا بدّ من أن يكون هذا الرحيل مناسبة لإعادة قراءة نازك الملائكة، لا في وصفها شاعرة فقط، وإنما ناقدة أيضاً، فقد أسهمت في التنظير للقصيدة الجديدة وتطوّر الرؤية النقدية نحو النصّ الشعري وهكذا، فلم يكن دورها يقتصر على الريادة الشعرية، وإنما تعدّاه إلى كونها رائدة في مجال النقد الأدبي الحديث.

لقد كانت القصيدة الجديدة أو قصيدة التفعيلة، بعدما اتسع نشاطها وتكاثر شعراؤها، تنتظر نقّاداً من داخلها ومن بين أنصارها، وقد تولّى كتاب «قضايا الشعر المعاصر» القيام بهذه المهمّة الريادية خير قيام. وبرغم الملاحظات السلبية التي قيلت عنه، فقد جاء في الوقت المناسب، وطرح كثيراً من الأسئلة والمحاذير على طريق التجربة الشعرية الجديدة، وظلّ وسط ركام الكتابات النقدية التي رافقت ميلاد القصيدة الجديدة شديد الخصوصية، بالغ الدلالة في دعوته إلى ضرورة تغيير الذائقة الشعرية. وإذا كان هذا الكتاب قد أثار معارضة حادّة من قبل البعض، فإنه أيقظ الوعي لدى القرّاء والنقّاد المتابعين لحركة الشعر الجديد، ودعا شعراء هذه الحركة أنفسهم إلى مزيد من اكتشاف الذات.

ولا أعتقد أن هذا الكتاب كان بداية الجهد النقدي لنازك الملائكة، فقد سبقته مقدّمة ديوانها الثاني «شظايا ورماد» عام 1949، ولا أريد أن أبالغ في أهمية هذه المقدّمة، وفي الأثر الذي تركته قراءتها لدى الشعراء بخاصة، فقد كان بمثابة بيان الحداثة الأول. وهو بيان توافرت له كلّ مقومات الإقناع والوضوح، ابتداء من سطوره الأولى التي تقول: «في الشعر كما في الحياة يصحّ تطبيق عبرة برناردشو (اللا قاعدة هي القاعدة الذهبية) لسبب هام هو أن الشعر وليد أحداث الحياة، وليس للحياة قاعدة تتبعها في ترتيب أحداثها ولا نماذج معينة للألوان التي تتكوّن بها أشياؤها وأحاسيسها» (ص 7). يضاف إلى هذا الرأي الجريء المنادي باللاقاعدة في الإبداع والبحث عن طرق جديدة مناهضة للمألوف وخارجة عليه ليتناسب مع تطور الحياة ذاتها وعدم الوقوف أو الدوران... أقول إنه يضاف إلى ذلك حديثها في المقدّمة عن الأوزان، وما كان يضطر إليه الشاعر من تكلّف في إضافة ألفاظ، وأحياناً معاني تخرج بالصورة وبالمعنى الأصلي على هدف الشاعر، حفاظاً على الوزن الخليلي. وهي تقدّم في هذا المجال نموذجاً عملياً من قصائد ديوانها «شظايا ورماد» تبرّر من خلالها الخروج، وترى أن هذا الأسلوب «ليس خروجاً على طريقة الخليل، وإنما هو تعديل لها، يتطلّبه تطوّر المعاني والأساليب خلال العصور التي تفصلنا عن الخليل» (ص 15).

ووقفة ثالثة وأخيرة مع تلك المقدّمة - البيان عند فقرة تتحسّر فيها على الجهد الضائع الذي ذهب في البحث عن الزوائد اللفظية التي لا هدف لها سوى البحث عن استقامة الوزن - وإن أخلّ بالمعنى - وبالصورة المنشودة، إذ تقول: «وليس هذا مكان الحديث عن الخسائر الفادحة التي أنزلتها القافية الموحّدة بالشعر العربي طيلة العصور الماضية، وإنما المهمّ أن نلاحظ أن هذه القافية تضفي على القصيدة لوناً رتيباً يملّه السامع، فضلاً عمّا يثير في نفسه من شعور بتكلّف الشاعر وتصيّده للقافية، ومن المؤكد أن القافية الموحّدة خنقت أحاسيس كثيرة ووأدت معاني لا حصر لها في صدور شعراء أخلصوا لها» (ص 18).

هذا الموقف الجريء في الخروج على المألوف في الكتابة الشعرية وهجاء القافية هو الذي جعل لريادتها النقدية أهمية أكبر ربما من ريادتها الشعرية. والذين تحاملوا على الشاعرة الكبيرة واتهموها بالارتداد لم يكونوا ينظرون إلى شعرها بقدر ما كانوا ينظرون إلى هذه البدايات التنظيرية الجريئة التي تراجعت عنها أو عن بعضها في كتابها «قضايا الشعر المعاصر»، وما ورد فيه من آراء بدت وكأنها تعبير عن تراجع خطير تجاه مفهوم اللاقاعدة في الإيقاع الذي أخذت به وبشّرت بتعميمه، ورفض كلّ ما من شأنه أن يجعل المبدع يختفي أو يهتمّ بأي مرجع خارجي لا يخدم نصّه أو فنّيّة الشعر وجمالياته.

أذكر لمناسبة رحيل الشاعرة الكبيرة أنني قبل عشرة أعوام، اخترت أن أدرّس شعرها لطلاّبي في الدراسات العليا، فاكتشفت من خلال ذلك الدرس أن التنظير النقدي لديها قد جنى على شعرها وعلى شاعريتها أيضاً، لا سيما في أعمالها الشعرية الأخيرة التي ظهرت في الستينيات والسبعينيات من القرن المنصرم، فقد تخلّت عن التلقائية، وبدت كأنها تكتب القصيدة تحت سيطرة المفاهيم النقدية التي نادت بها، سواء في بناء القصيدة أو في أسلوبها الإيقاعي. وهذا ما أفقد شعرها الأخير العفوية التي امتازت بها في أعمالها الشعرية الأولى الخالية من الترتيب والكثافة الذهنية. وربما قادتها المقارنة بين قديمها وجديدها واكتشاف الهوّة السحيقة بينهما إلى أن تهجر الشعر وتتوقّف عن كتابته.

ولا ريب أنه عندما يعلو التنظير لدى الشاعر، ويتحكّم في مخيلته، فإن شعره ينطفىء ويذوب ويغدو محكوماً بالمباشرة والذهنية مهما حاول الشاعر - الناقد الخلاص من مؤثرات التنظير. وقد قيل الكثير عن أسباب توقّف نازك الملائكة عن كتابة الشعر على مدى ثلث قرن، ويعزو بعضهم ذلك إلى ما عانته من إهمال وجحود، والبعض الآخر عزاه إلى الكآبة التي عانت منها نتيجة انقطاع الشعر وعدم استجابته لنداءاتها المتكررة، ولا أستطيع أن أتبيّن هنا كيف ينقطع الشعر عن الشاعرة. فأنا أعرف أن الشاعر هو الذي ينقطع عن الشعر وعن متابعة كتابته وقراءة ما ينشر فيه، وشعراء كثيرون بلغوا من العمر عتيّاً وهم يكتبونه دون الوقوع في مأزق الانقطاع لأنهم لم ينقطعوا عنه وعن متابعة أحدث إصداراته. ومن هنا فإن كل ما قيل ويقال عن انقطاع نازك الملائكة عن مواصلة كتابة الشعر لا يخضع لمنطق الواقع؛ واقعها هي وواقع الكتابة الشعرية.

ولعلّ السبب الرئيس في توقف شاعرتنا عن كتابة الشعر يعود إلى عاملين اثنين، أحدهما إغراقها وتمتّعها في التنظير النقدي كما سبقت الإشارة، والعامل الثاني اصطدامها بأجيال تكتب الشعر على غير مثال سابق مخالفةً بذلك القواعد التي رسمتها في كتابها «قضايا الشعر المعاصر»، وهو ما جعلها تنظر إلى إنتاج هذه الأجيال نظرة دونية، ولم تشعر بحافز يدفعها إلى تأمّل هذا الإنتاج واكتشاف مواهب حقيقية قادرة على إدراك تحوّلات الزمن وأن الشعر هو وليد أحداث الحياة كما أكّدت ذلك في مقدّمة «شظايا ورماد». ومن هنا فهي التي توقفت عن كتابة الشعر، وليس الشعر هو الذي توقّف عنها. ولعلّها فكرة سخيفة تلك التي تقول إن الشعر ينقطع عن الشاعر ولا يستجيب له، وبرغم صحة ما يقال من أن القصيدة هي التي تستدعي شاعرها أحياناً، فإن الشاعر في الغالب الأعمّ هو الذي يستدعي القصيدة، أو أنه هو الذي يهيّىء لمجيئها. وإذا كانت نازك الملائكة قد توقّفت عن كتابة الشعر لأنه لا يستجيب لها، فلماذا توقفت عن الكتابة غير الشعرية بكلّ أنواعها، وهي التي كتبت القصة القصيرة، وكتبت في قضايا الثقافة المختلفة، ولها دراسات اجتماعية وفكرية متنوّعة؟

البحث في هذا الموضوع يستدعي دراسة شاملة للمؤثرات النفسية والاجتماعية التي خضعت لها الشاعرة في العقود الثلاثة الأخيرة من حياتها، وأتذكّر بالمناسبة أنني تعرفت إلى الشاعرة الكبيرة في منتصف سبعينيات القرن المنصرم في القاهرة، وتحدّثت إليها كثيراً محاولاً أن أعرف منها شخصياً ردّها على تهمة الارتداد عن قصيدة التفعيلة وعودتها إلى كتابة القصيدة العمودية بعدما أعلنت بعنف ضجرها من القافية ورتابة الوزن، وقد هاجت وضاجت واستنكرت بانفعال شديد ما يُشاع عن تراجعها أو ارتدادها، وأكّدت - يومئذ - أنها كانت وما تزال عند موقفها من تأييدها المطلق لما كانت تسميه بالشعر الحرّ، وأن هذا النوع من الشعر حقّق إنجازاً بالغ الأهمية في تاريخ الشعر العربي الحديث، ولذلك فإنها تعتزّ بدورها في تأصيله، وأن ملاحظاتها على كثير من الغثّ الذي يُنشر باسمه لا يؤثّر بحال على نجاح التجربة وتصاعدها.