بقلم: علي المنّاع
(ناقد وشاعر عراقي)

اهتمّت الدراسات الحديثة بدراسة توظيف الشخصية التراثية بجميع أشكالها، الشخصية الدينية والصوفية والأسطورية والفولكلورية والتاريخية...، ولم تُعنَ الحكاية التراثية بالاهتمام نفسه. هذا لا يعني أن ثمة فصلاً واضحاً بين دراسة الشخصية التراثية ودراسة الحكاية التراثية، فعندما يستحضر الشاعر شخصيةً ما ليُسقط عليها الأبعاد المعاصرة، أو يوظفّها رمزاً، أو ما إلى ذلك، فلا بدّ من أن يرافق هذا الاستحضار وجود دور أو مغزى أو حدث أو مجموعة أحداث، وعندما يستحضر الشاعر حكاية تراثية فلا بدّ من شخوص للحكاية لا مناص من استحضارها. لكن ثمة عوامل فنية في القصيدة تحتّم على الشاعر الاهتمام بالحكاية على حساب الشخصية، أو بالعكس. فعندما تطغى الحكاية على الشخصية التي قامت بها فهنا توظيف للحكاية. ركّز الشعراء الروّاد، ومن تبعهم، على الشخصية التراثية، وهنا نلاحظ أن شاعراً قد استخدمها رمزاً، أي لوّنها بأبعاد تجربته الشعرية، وشاعراً آخر اكتفى باستحضار الشخصية التراثية ليُجري التناظر بينها وبين تجربته الشخصية لما يرى من أوجه تشابه أو اختلاف بين التجربتين، وشاعراً آخر استحضرها كي يقرأ التاريخ من خلالها، وهكذا. نازك الملائكة شاركتهم هذا التوظيف في قصائد كثيرة، نذكر منها على سبيل المثال «آدم وحوّاء» المنشورة في ديوان «مأساة الحياة» (1945)، التي توظّف فيها شخصية أبينا آدم وأمّنا حواء، والتي تقول في مقطع منها: «حَسبُها أننا دفعنا إليها/ ثمنَ العيشِ حيرةً ودموعا/ أيّ ذنبٍ جناه آدمُ حتى/ نتلقى العقابَ نحنُ جميعاً؟»، إلا أنها في قصيدة «الماء والبارود» موضوع هذا البحث، والتي كتبتها عندما سمعت أن فرقة من الجيش المصري محاصرة في سيناء، وأن أفرادها صائمون وحلّ الفطور ولم يكن معهم الماء فراحوا يتضّرعون كما تضرّعت السيدة هاجر إلى ربّها أن يفكّ كرب ابنها العطشان، فاستجاب الله لدعائها وفجّر ماء زمزم، وحدث الشيء نفسه للجنود المحاصرين عندما جاءت الطائرات الإسرائيلية وقصفت معسكر الجنود، لكن القذائف أصابت أنابيب الماء المدفونة تحت الأرض فتفجّر الماء ليروي الجنود العطشى... أقول إن الشاعرة حاولت في هذه القصيدة أن تستحضر حكاية العطش الذي تعرّض له إسماعيل وأمه هاجر عندما تركهم إبراهيم في عرض الصحراء لترسم خطّين متوازيين في القصيدة: خطّ يسرد لنا حكاية تراثية دينية تحمل إرثاً دلالياً في الوعي الجمعي، ولا يكتنفها أي غموض، وحكاية معاصرة تفتقر إلى الإرث الدلاليّ في الوعي الجمعي، فهي حكاية خاصة تعرّض لها بعض الجنود وسمع بها بعض الناس. لكن توظيفها للحكاية الدينية كان من شأنه أن تكون «أنا القارىء ليست ذاتاً بريئة وأجنبية على النصّ تتعامل معه وكأنه مادة للتحليل أو منتجع للسكنى. إن هذه الأنا التي تتقدّم نحو النصّ هي نفسها «جماعية» تكوّنت من نصوص أخرى، ومن شفرات غير متناهية» (1). ولأن الكلمات تختلف في ما بينها من «حيث طاقتها المخزونة في الذاكرة الجمعية»، عمدت الشاعرة إلى توظيف العناصر التراثية داخل بنية النصّ «لما تتمتع به هذه العناصر من نشاط حيّ في الوعي الجمعي» (2). أجرت الشاعرة مقارنةً بين الحكايتين فبرّزت أوجه الشبه: العطش، الصحراء، التضرّع، التلبية (تفجّر الماء)، أيّ إنها لجأت إلى تقنية التآلف، لا التخالف، في توظيف الموروث.

وعلى الرغم من استحضار شخصيات تراثية دينية، مثل إسماعيل وإبراهيم وهاجر، إلا أن الشاعرة لم تكن تقصد استحضار الشخصيات بذاتها، بل أرادت استحضار حدث تعرّضت له الشخصيات. طبعاً استحضار هذا الحدث فرض عليها استحضار الشخصيات والمكان والموضوع.
تبدأ الشاعرة بتكبيرة الأذان الذي ينتظره الصائم على أحرّ من الجمر، وكأنها تريد أن تشبّه عطش الجنود في قلب صحراء سيناء بعطش الصائم، وما التكبيرة إلا إيذان بحلول المعجزة وتفجّر الماء من الصحراء، فيرتوي الجنود كما يرتوي الصائم حينما يسمع التكبيرة: «الله أكبر/ الله أكبر/ هتافة الأذان في سيناء تبحر/ من موجها تسيل في الصحراء أنهر/ الله أكبر».
تستمرّ الشاعرة بسرد الحكاية معتمدة ضمير الغائب («وينبش الجنود في الرمال، ما من ماء»)، لكن سرعان ما يتغيّر الراوي من ضمير الغائب المتفرّج إلى ضمير المتكلّم، وكأنها تركت عالمها وذهبت تعيش المحنة مع الجنود، تحسّ بالعطش مثلهم، تتضرّع معهم، تعيش حرارة النهار ولهب الصحراء والعطش الذي راح يتوغل في جميع أنحاء الجسم، وكأنّ الدم صار يحمله إلى الفم، إلى الشفاه: «ربّاه ما من قطرة من ماء/ نهار صومنا انقضى، وليلنا قد جاء/ وحولنا تحترق الصحراء/ ووردة الرجاء/ يابسة في دمنا،/ في فمنا،/ فما من ارتواء/ والموت يا ربّاه يهمى مطراً تصبّه قواذف الأعداء».

حتى هذه اللحظة قدّمت لنا الشاعرة الأشخاص (الجنود)، المكان (صحراء سيناء)، الزمان (بدأ في النهار فحلّ الليل). بعد ذلك تنتقل بنا، بلقطة سينمائية، إلى مشهد آخر، لكن هذا المشهد مشهد من الموروث الدينيّ: حكاية إبراهيم يوم أمره ربّه أن يخرج بزوجه هاجر وابنه الرضيع إسماعيل إلى مكّة، وهي يومئذ أرض جرداء لا ماء فيها ولا نبات، وكانت خالية من البشر، بل حتى من الطير وغيره، وقد أرسل الله معه جبرائيل ليدلّه إلى المكان. وعندما مرّ برياض زاهية وأنهار جارية أخذ يسأل جبرائيل: هل وصلنا؟ وجبرائيل ينفي. وعندما وصلا أرضاً قاحلة لا نبت فيها ولا شجر ولا ماء ولا بشر قال جبرائيل: هذا هو المكان. وفعلاً ترك إبراهيم هاجر وابنه اسماعيل، وانتهى بهما إلى موضع البيت فوضعهما ورجع.
تعود الشاعرة إلى ضمير الغائب لتسرد لنا قصة الطفل إسماعيل والعطش الذي تعرّض له بطريقة تجسّم فيها قوى الطبيعة، فتقطر الرياح حبّاً، وتتلمّس خديه كالأمّ الحنون، وتسكب الحياة والخضرة، فتنطق الرياح والبيت العتيق، وتنحني السماء كي تخيّم على إسماعيل وتحميه من حرارة الشمس: «تقطر الرياح حبّاً في شفاه الطفل إسماعيل/ تلمس خدّيه بعطر نسمة بليل/ وتسكب الحياة والخضرة في كيانه النحيل/ وقالت الرياح: إسماعيل/ فردّد البيت العتيق تحت حرّ الشمس: إسماعيل/ وانحنت السماء قوساً أزرقاً يلثم إسماعيل».

تعود ثانية إلى مشهد الجنود، وكأنها تحمل عدسة تصوير تحرّكها حيثما تشاء، وأينما تشاء، من دون الإضرار بالوحدة الموضوعية للقصيدة: «تجمّعوا وخيّموا فوق قفار محرقات الرمل في الصحراء/ وهم عطاش لم يذوقوا منذ أمس الماء/ شفاههم منعصرة/ صيامهم من عطش حناجر مستقرة/ لكن في وجوههم ضراوة الصاروخ والمدافع المزمجرة/ و(الله أكبر) على شفاههم غناء/ بنورها، بسرّها يزحزحون القلعة الشمّاء/ ومن لهاث العطش القاتل باتوا يشربون حرقة الهواء/ عيونهم ستمطر السماء/ ربّاه فجّر بين أيدينا عيون الماء/ هات اسقنا يا ربّ من لدنك كأس رحمة مطهّره/ يا واعد المؤمن بالصحو وبالظلّ الندي الظليل/ هات اسقنا كما اسقيت الطفل إسماعيل/ كما رويت أمّه الوالهة المنكسرة/ بعد هيام ضائع طويل/ في مدن العويل».
مرّة أخرى تغيّر نازك الملائكة ضمير الراوي من الغائب (الذي يفيد الوصف) إلى المتكلّم (الذي يفيد التضرّع)، لكن هذه المرّة يلتحم الخطّان المتوازيان اللذان ابتدأتهما الشاعرة، فأخذ الجنود يقرأون ما يدور في مخيّلة الشاعرة حين راحت تتضرّع معهم، وكأنها في الصحراء مثلهم تشعر بالعطش («هات اسقنا كما اسقيت الطفل إسماعيل»). ثم تعود لتصف حال الجنود المنتشرين في الصحراء وما يعانونه من عطش: «جنود مصر في تلال النار والحمى/ وصفوة الربى المبعثرة/ جاعوا لوجه الله ذاقوا لذعة الصيام/ تهجدت أكفهم صواريخ/ وكانت لهمو الشراب والطعام/ جنود مصر نقمة منفجرة/ وحرقة إلى كؤوس الماء لا تنام/ إيمانهم صيّر سيناء لطياري اليهود مقبرة/ رمالها مزمجرة/ وهم عطاش يتلوون صدى وتعطش الخيام/ وحقد إسرائيل قد صيّر جنات الوجود مجزرة/ وامتصّ نسغ الشجرة».

بعد هذا الوصف التقريريّ المباشر لحال الجنود وعطشهم وحرارة الصحراء وحقد الأعداء، تتفجر أنابيب الماء بعدما أخطأت الطائرات الاسرائيلية الهدف فأصابتها، مثلما تفجّر ماء زمزم ليروي الطفل إسماعيل وأمه. هذا التشابه في القصة والانفراج وظّفته الشاعرة، وكانت مخطّطة له منذ البداية، فقد بدأت قصيدتها بخطّين بقيا متوازيين يعمّق أحدهما الآخر حتى جاء الانفراج وكأنه إيذان بالتحام الخطّين، فأصبحت اللقطات متشابكة بحيث بات من الصعوبة بمكان فصل الواحدة عن الأخرى: «وانبجس الماء النمير حيث عسكروا/ ونام طفل الضوء إسماعيل: حول وجهه يضوع عنبر/ وأشرق العالم بالضياء/ سبحان معطي الماء/ مفجّر الندى من الصحراء».
وعندما تتقدّم الأحداث، وتوشك القصيدة على الانتهاء، تفاجئنا الشاعرة بارتجاعة فنّيّة تُرجعنا من جديد إلى قصّة إبراهيم: «رمل... وريح تزفر/ وبطن وادٍ ساكن معفر/ ينهض في جانبه العطشان بيت الله/ وخيمة صغيرة لهاجر... وليس من حياه/ لا ظلل ندية لا مهد أعشاب ولا مياه/ وصوتها يهتف: إبراهيم!/ يا مغدق الحنان والرأفة، إبراهيم/ لأين تمضي مسرعاً؟ لأين إبراهيم؟/ وفيما قد تركتنا في قلب رمضاء هنا نهيم؟/ لا حبّ، لا شفاه/ تمنحنا أغنية، تبارك ابتهالنا في خشعة الصلاه/ وحولنا وادٍ سحيق مقفر ضيّعنا مداه/ وليس من شاة هنا فما الذي سننحر؟/ وليس من شجيرة تظلّنا وتثمر/ وليس من سحابة تمنحنا رشاسها وتمطر/ ويهتف الصوت الحزين:/ أين قد تركتنا؟ وفيمَ إبراهيم؟/ ويختفي خلف التلال شخص إبراهيم/ وهاجر باكية والطفل إسماعيل فوق صدرها يتيم».
تعكس هذه القصيدة صراعات الشاعرة مع العالم الخارجي الذي يحيط بها، فالقصيدة عادةً تتولّد نتيجة صراعات معيّنة يعيشها الشاعر، فإما صراعات تدور في العالم الداخلي، وإما صراع الشاعر مع العالم الخارجي المحيط به (كيف يتعامل معه؟ كيف يتأثّر به فيحاول أن يؤثّر فيه؟). عندما تكون القصيدة تعبيراً لصراعات داخلية يحسّ بها الشاعر، ستكون عندئذ مجرّدة من المناسبة، تتقاطع فيها الأمكنة وتتداخل فيها الأزمنة، وتبتعد عن اللغة التقريرية المباشرة لأنها لا ترصد تفاصيل الحياة اليومية الدقيقة. وإذا كانت ترجمة لصراع الشاعر مع العالم الخارجي فستكون عندئذ قصيدة مناسبة، الأمر الذي ينطبق على قصيدة «الماء والبارود». فهي قصيدة مرحليّة أسهمت في تسجيل تاريخ حادثة معينة، وكذلك تسجيل ردّ فعل الشاعرة تجاه هذه الحادثة. لكن ما يؤخذ على مثل هذه القصائد، قصائد المناسبات، أنها تنتهي وتزول بزوال المناسبة، وفي أحيان كثيرة قد تترك آثاراً سلبية في مسيرة الشاعر، فالأوضاع متغيرة، لا سيما السياسية منها، وما نراه اليوم صحيحاً قد ينجلي عنه الغبار فتنكشف حقيقته، وبذلك تُحسب القصيدة على الشاعر.

الهوامش

  1. محمد عبد الله الغذامي، نموذج الخطيئة والتكفير، من البنيوية إلى التشريحية، النادي الأدبي الثقافي، جدّة 1995، ط1، ص 140.
  2. أحمد مجاهد، أشكال التناص الشعري، ص 388.