عتبة:
الشعر رعشة الوجود، وعرش الكلام، يقول نثر العالم الكبير في نظم العالم الصغير، هاجسه السؤال، ومتوجّسه المآل، متجاوزاً مسالك الكلام إلى ممالك الكلم، ومجا(و)زاً الكوجيتو العرفاني (أنا أفكر، أنا موجود) إلى الكوجيتو الوجداني (أنا (أ)شعر، أنا موجود)، وهذا ما تعبّر عنه قصيدة «أنا» لنازك الملائكة، بين قلق شعريّ وألق شاعريّ.
كيف ينبغي لنا مقاربة هذه القصيدة؟ ربما على هذا النحو؛ أن نستسلم للرغبة، أن نقول، انطلاقاً من القصيدة نفسها، أين تكمن خصوصيتها، وعلامَ تقوم هذه الخصوصية؟ وكي يتمّ لنا ذلك ينبغي أن نكون على قدر من التآلف التامّ معها، من خلال محطّات ثلاث مهمّة:
1- الشعر مسكن الكينونة:
يرى هايدغر أن اللغة هي مسكن الكينونة المتمثّلة في ذلك الشعر الذي يسكنها ويسكن إليها، فالشاعر - الساكن يحتاج في استضافته للآخر السكينة التي لن يجدها إلا في شعره، وإن كانت عن قلق وحيرة مفجّرة لتلك الأسئلة الوجودية التي تُظهرها القصيدة. فالشعر سؤال الكينونة في مأدبة الأدب - اللغة، وهذا ما أرادت نازك الملائكة استضافتنا فيه (إليه)، لنصغي معها إلى (في) بيت الشعر أين يتكلّم الآخر في الأنا:
«الليل يسأل من أنا
أنا سرّةُ القلقُ العميقُ الأسودُ
(...)
والريح تسأل من أنا
أنا روحها الحيران أنكرني الزمانْ
(...)
والدهر يسأل من أنا
أنا مثله جبّارة أطوي عصورْ
(...)
والذات تسأل من أنا
أنا مثلها حيرى أحدّق في ظلام...».
فنجد أن الأنا تسأل وتجيب عن الآخر، بمساءلتها عن كلّ شيء بغية الحفاظ على حيوية الولع بالسؤال، لكن جميع أسئلتها تستهدف سؤالاً واحداً، هو السؤال المركزيّ، أو السؤال المتعلّق بكلّ شيء، مكثّفاً في ما سكت عنه ذلك العنوان المتخفّي الذي يلمح ويلوح:
(الـ)قصيدة [تسأل من] أنا
فالقصيدة تبحث عن كينونتها المنسية في قلقها الوجودي، وصمتها المتكلّم، وفي روحها الحيرى، وفي عمق ذاتها، ولسان حالها يقول: «أنا من أكون؟». سؤالها هو شقاء الفكر الباحث عن الجواب، والجواب عنه هو شقاء السؤال نفسه، إلا أن الجواب لن يغلق (يشفي) السؤال عن طول ردّ، كون هذه القصيدة تقع في برزخ السؤال والجواب، باحثة في مناطق اللاحسم ومناطق البين عن ذلك الآخر/ الجواب الذي ما إن يقترب حتى يبتعد كسؤال:
«أبقى أسائل والجواب
سيظل يحجبه سراب».
وبهذا، فالسؤال عن الأنا (من أنا؟) حجاب، والجواب عنه (الآخر) سيظلّ سراباً، وما على الأنا إلا أن تخرج على ذاتها لتتحاور مع ذوات الآخرين، علّها ستجيب، أو يستجيب لها الآخر المأمول.
2- الخروج إلى الأنا:
ها هي نازك الملائكة تدفع بالأنا إلى أقصى شاعريته، لأن الشعر رعشة عن قلب (يحمل قلب العضو معنيين؛ القلب بمعنى التحويل)، والشعر عرش إن فهم (أي أنه يتكلّم بالأقصى/ بالأعلى، Archi)، بخروجه على أناه لتحاور الآخر هنا/ ك (الليل، الريح، الفجر، الذات... العالم)/ مجـ(ـتـ)ـازة هذا الخطّ المائل؛ خط المكان/ atopie إلى الهناك؛ خط لامكان/ utopie:
وبقيت ساهمةً هنا [مكان]
(...)
أنا مثلها في لا مكان
مرتحلة هذه الأنا عن المكان إلى لامكان، وهذا دليل على مرحلة العماء التي وصلت إليها الأنا في رحلة الخروج على ذاتها للبحث عن الآخر، التي سنتشوّفها من خلال ثلاث جمل جامعة وهي (الجملة البدئيّة/ المنطلق للقصيدة، الجملة القنطرة/ الواصلة، الجملة الختميّة/ الوصول):
2 – 1 - الجملة البدئيّة:
أما الجملة البدئيّة في قصيدة «أنا» فتعمل على افتتاح القول/ الكلام الشعري، وتهيئة مساره الوجدانيّ، وشدّ انتباه قارئه به، لأنه أوّل ما يقع على الأسماع، فالقصيدة تستهلّ مقاطعها الأربعة بجمل تتركنا ننتظر ما يعقبها، فهي بهذا تنشّط أفق انتظارنا واستجابتنا للآتي:
الليل يسأل من أنا
الريح تسأل من أنا
الدهر يسأل من أنا
الذات تسأل من أنا
2 – 2 - الجملة القنطرة/ الواصلة:
لتأتي الجملة القنطرة مولّدةً لجمل أخرى، واصلةً هذه الأسئلة بأجوبة واصفة وشارحة ومفكّرة في قلق أسئلتها:
- أنا سرّةُ القلقُ العميقُ الأسودُ
(...)
قنّعتُ كنهي بالسكونْ
ولففت قلبي بالظنونْ (وما بعدها)
(...) - أنا روحها الحيران أنكرني الزمانْ
أنا مثلها في لا مكان (وما بعدها)
(...) - أنا مثله جبّارةٌ أطوي عصورْ
وأعود أمنحها النشورْ
أنا أخلق الماضي البعيدْ
من فتنة الأمل الرغيدْ
(...) - أنا مثلها حيرى أحدّق في ظلامْ
لا شيء يمنحي السلامْ
(...)
2 - 3 - الجملة الختميّة/ الوصول:
لتقوم هذه الجملة الختميّة بإيذان قرب الخروج من (على) الذات، وإقفال هذا النصّ الشعري، لتنفتح على جمل قرائيّة سينسجها القارئ من تأويلاته لهذا النصّ الشعريّ:
- أرنو وتسألني القرونْ
أنا من أكونْ؟ - فإذا بلغنا المنحنى
خلناهُ خاتمة الشقاءْ
فإذا فضاءْ - وأعود أدفنه أنا
لأصوغ لي أمساً جديدْ
غده رغيدْ - وأظلّ أحسبه دنا
فإذا وصلتُ إليه ذابْ
وخبا وغابْ
وبهذا تكتمل دورة الارتحال الشعريّ بحثاً عن الكينونة المنسية الضائعة بين السؤال المؤمّل والجواب المأمول، ويبقى الشاعر مولعاً بسكنى هذا البين... بين الشارع (الآلهة، الإبداع، عمود الشعر)، والشارع (المجتمع، القارئ...)، لهذا تكثرت أنياتها حتى تكوثرت في البحث عن الآخر في صيدلية قـ(صيد)ة أنا.
3 - صيدلية الأنا:
فارماكون الكتابة الشعرية لدى نازك الملائكة يعمل على إظهار الطاقة الاختلافيّة للأنا، في نثرها وبذرها وتشتيتها للآخر كنصّ مؤجّل في أنياتها المتعددة المتوحّدة (الأنا الباذرة، والأنا الناثرة، والأنا المشتتة)، فهو ذلك المستضاف الذي توهّمنا أنه لم يقل بعد بين السؤال والجواب:
3 – 1 - الأنا الباذرة (الأنا الساكنة الماكنة):
وهي التي عملت على بذر هذا الذي لم يقل بعد في أرضها وآثاره دالّة عليه:
- أنا سرّة القلق العميق الأسود...
قنّعت كنهي بالسكون...
وبقيت ساهمة هنا - أنا مثلها في لا مكان (اللامكان هو مكان نصيّ/ لغويّ)
- وأعود أدفنه أنا
- فإذا وصلت إليه ذابْ
وخبا وغابْ
3 – 2 - الأنا الناثرة (الأنا السائلة الحائرة):
وهي أنا كثيرة السؤال عن الذي هناك، عن ذلك المتخفي في حيرتها وقلقها، عن ذلك الحجاب/ الخطاب الذي خبا وغاب، متى يظهر في أرض السراب/ اليباب النصيّ، ليتجلّى في سماء الآخرين/ المؤجّلين:
- أنا من أكون
- أنا روحها الحيران أنكرني الزمان
- أنا أخلق الماضي البعيد
من فتنة الأمل الرغيد - أنا مثلها حيرى أحدّق في الظلامْ
لا شيء يمنحني السلامْ
3 – 3 - الأنا المشتتة (الأنا الراهبة الهاربة):
وهي أنا مشتتة في مجامع القصيدة، كُتب عليها الشتات في أرض السراب حتى تجد الجواب/ الآخر، في اللامكان واللازمان، فهي دائماً راهبة راغبة في سكناه، ساربة هاربة من لقياه:
- ولففت قلبي بالظنونْ
- نبقى نسير ولا انتهاءْ
نبقى نمرّ ولا بقاءْ...
فإذا فضاءْ
3- أعود أمنحها النشورْ
4- أبقى أسائل والجوابْ
سيظلّ يحجبه سرابْ
وبعد هذا الترحال مع هذه الأنا المتكثرة - المتكوثرة على نفسها، التي تختلف في الآخر، لتأتلف مع الآخر، فهو هي، لكن هي دائمة السؤال: أنا من أنا؟، نقول هذه بحقّ قصيدة مفكّرة في سؤال وجودي عميق بكيفية تفكير الذات مع الآخرين، فاللحظة التي تبتعد الأنا عن ذاتها لتقترب من الآخر هي اللحظة نفسها التي تقرّبها من ذاتها أكثر، وهذا ما سمح لنا أن نقرأها في توحّدها المتعدّد لأنه من يدخل بيت/ مسكن الأنا لا يخرج إلا أنا آخر/ أخرى، أو ما أسميناه في أحد بحوثنا (الأناخر، ككائن الكينونة القصوى): الجامع بين لحظة السواء بين الأنا والآخر، فقصيدة نازك الملائكة هي قصيدة الآخر المختلف المؤتلف على لسان الأنا، فلا بدّ من تدبّر أن الأنا لغة (الكينونة المنسية)، فلنتفاهم مع الآخر.
المصادر:
- مارتن هايدغر، المنادى إنشاد، قراءة في شعر هولدلرن وتراكل، تلخيص وترجمة: بسام حجار، المركز الثقافي العربي، ط 1، 1994، بيروت، لبنان.
- موريس بلانشو، أسئلة الكتابة، ترجمة: نعيمة بنعبد العالي، وعبد السلام بنعبد العالي، دار توبقال، ط 1، 2004، المغرب.
- هيو ج. سلفرمان، نصيات، بين الهرمنوطيقا والتفكيكية، ترجمة: علي حاكم صالح وحسن ناظم، المركز الثقافي العربي، ط 1، 2002، بيروت، لبنان.
- Jacques Derrida,la pharmacie de Platon,in la dissémination,ed du seuil,paris,- 1972.