عائشة السيفي

(شاعرة عُمانية مواليد نزوى 1988م، لها مجموعة شعرية قيد النشر بعنوان «ربّما»)

صبيحة وفاتها كانت صديقتي العراقية، رفاء، تُريني ما وصلها من رسائل تعزية. كان الذين يعزّونها يفعلون ذلك في وصف نازك الملائكة شاعرة عراقية يُعزّى بها شعبها. وقد دخلتُ في نقاش طويل معها حول مسألة أن شاعرة بحجم الملائكة تتخطّى حدود الوطنية، أو حتّى القومية. لقد منحت الليل صفة الإنسانية، ومنحت الكوليرا صفة العالمية. فهل بعد ذلك نظلمها بأطر التصنيف منتهي الصلاحيّة؟ لقد فعلت ذلك وهي تدرك أنها تحوّل خصوصيتها تلك إلى ملك مشاع يتوحّد به كلّ من يعشق الليل؛ مثلها.

سأعترف أني مررت بصدمتين متواليتين بخصوص هذه الشاعرة، وربما سأفعل ذلك على خجل، لكني سأكون أكيدة حينها أن عدداً من الأصدقاء شاركوني الصدمة.
الصدمة الأولى كانت حين علمت، قبل مدّة قصيرة من بلوغي خبر وفاة نازك الملائكة، أنها حيّة ترزق! ولم أكن لأعرف بذلك إلا حين قرأت في خبر «صغير جدّاً» أنها أُدخلت المستشفى لتأزّم حالتها الصحيّة. أوه... نازك حيّة؟!

شعرت بالصدمة لأنها ظلّت طوال الفترة الماضية مغيّبةً تماماً عن الساحة الثقافية الفكرية التي منحتها هذه الشاعرة أقصى ما تمنحه امرأةٌ من حبّ، أقصى ما تمنحه امرأة مزجت دماءها بالثقافة والعاطفة على السواء. لم نعرف قبلها أنها، وإن خذل عظامها المرض، لا تزال الحياة تمنحها تمائمها، أو تمارس العكس. كان الشعراء العرب يحتفون (يتراشقون؟) أيّامها بـ«مؤتمر الشعر العربي» المقام في القاهرة، والذي علّق أحد الكتّاب عليه بأنه مؤتمر لا يحبّ النساء، إذ لم تحظ شاعرة عربية واحدة من رائدات الشعر بنصيبٍ من كعكة التكريم التي ذهبت إلى من أراد تكريمه القائمون على تنظيم المؤتمر! وقتها تساءلت: ألم تقنع نازك الملائكة بإثارة عنوان واحد فقط من العناوين الفضفاضة التي حفل بها المؤتمر كمحاور للنقاش؟! وعلّقت بسخرية من أنها ستعدم من يحتفي بها حيّةً، وستنتظر، كما صلاح عبد الصبور، 25 عاماً كي يقرّر العرب عقد مؤتمر لتكريمها (ميتةً)! يا إلهي، كم نحن أمّة تعبد الجثث!

أمّا الصدمة الثانية التي داهمتني فهي أني لم أكد أحتفي بنازك الملائكة حيّةً حتى غادرتنا بعد أقلّ من شهرين. فيا له من احتفاء باذخ بالحياة، ويا له من احتفاءٍ أبذخ بالموت. ربّما عرفتُ نازك الملائكة من بعيد، كشيء من الذاكرة التي تدخل في إغماءاتها الخاصة، ثم تعود لتفرض نفسها مجدّداً. ربّما عرفت نيرودا ورامبو وطاغور أكثر. نقرت كثيراً على وقع دندنتهم، وهي تعوق الصمت داخلي. ربّما قرأت لهم أكثر، كعادتنا في القفز بجغرافيّات الشعر إلى البعيد، متناسين الأقرب والأجمل. لكن نازك الملائكة أسست لقليل ما عرفته عنها بياضاً مختلفاً. ربما لأنها الجدّة - الطفلة التي منحت الموت في مفهومي الشعريّ الأنثويّ صيغته الأولى، والشعر كذلك. ولن أكون معنيّة لحظتها بالحديث والدخول في بروباغندا التحزّب الثقافي حول ريادتها في الشعر الحديث من عدمها، وحول مساندة مواقفها السياسية التي تصلّبت في جليدها. لن أكون لحظتها معنيّةً بالحديث عن أسباب غيابها عن النشر الشعريّ منذ أكثر من عقد من الزمان. لن أفعل ذلك إطلاقاً، لأنني لست معنيّةً سوى بالحبّ الذي أُصيبت به نازك الملائكة منذ أذّن الشعر في أذنيها.

لقد عادت ناسكة الليل إلى صومعتها، تمارس صلواتها الأخيرة بعيداً عن الأصنام كلّها؛ تتشظّى بالحبّ فترشّه قصيدةً بلون نخيل العراق؛ تتهشّم عظامها فتنثرها رماداً في صفحة الفرات الذي سبّحت باسمه كثيراً. وإن كانت فعلت ذلك فليس بعاطفة واحدة: لقد كانت نازك الملائكة تحجّ إلى الشعر بعاطفتين تماماً كما قالت جنفيف كلانسيه: «إذا كان الرجل يكتب بعاطفة واحدة فالأنثى تكتب باثنتين»، وكان ذاك ما فعلته شاعرتنا.

نازك الملائكة فعلت ذلك، وهي تعبر مراراً على جرحها حين طوافها، حيث الجحيم تطلي الليل برائحة الغرباء الذين مرّوا عليها، والذين لم يمرّوا، غاسلةً الريح بغوايتها التي هي روحها اللامنتمية إلى المكان أو الزمان: «الريح تسأل من أنا/ أنا روحها الحيران أنكرني الزمانْ/ أنا مثلها في لا مكان/ نبقى نسير ولا انتهاءْ/ نبقى نمرّ ولا بقاءْ/ فإذا بلغنا المنحنى/ خلناه خاتمة الشقاءْ/ فإذا فضاءْ». هل كانت نازك الملائكة ترثي نفسها في «كوليراها»؟ وهل كانت تقدّم التعازي عن نفسها لنفسها، وهي تتنبّأ بمشهد الموت، وفي جيبه تقبع هي، صاعداً على السلالم بروحها إلى الأعلى؟ هل كانت تخبرنا بأن الموت أسلوب نضالٍ هو الآخر تمارسه لتسبقه، كما سبقت الأشياء كلّها؟ لقد علّمتنا نازك الملائكة أطفالاً كيف نصغي إلى وقع خطى الموت، بل ونرقص بلا خوف على موسيقاه؟ أعادتنا إلى صورنا الأولى أطفالاً بضفائرنا المجدّلة وبحقائب المدرسة، ونحن نغنّي في انتظار الباص: «لا أريد العيش في وادي العبيدْ/ بين أموات وإن لم يدفنوا/ جثثٌ ترسف في أسر القيودْ/ وتماثيل احتوتها الأعين/ أبداً أسمعهم عذب النشيدْ/ وهم نومٌ عميقٌ محزن». وغنّيناها مراهقين، شباباً، ثمّ كهولاً نمارس نضج الموت على طريقتنا الخاصّة. فهل اكتفت الشاعرة بجرعات الحبّ الزائدة تلك زاداً إلى حين موت؟ وهل أثّثت للموت طقسها الخاصّ الذي لم تعد فيه في حاجةٍ سوى إلى شعر، وقليل ليل؟ إنها العاشقة التي مرّرت أصابعها على ذاكرة المتعبين فاستحالت قوس قزح. هي الإنسانة التي آمنت بالثالوث الذي لا يملك - بعد كلّ ما مهرته من حياةٍ - سوى أن يضمّها كطفل نائم تحت قمر: الشعر، النقد، الموسيقى. وكان أن اكتفت بها نازك الملائكة، قرابين تملأ بها كفّيها وهي تصعد، وتصعد، وتصعد... فالسلام على روحها التي هي الحبّ، والسلام على غنائها الذي هو ناي يراقص غمامة، والسلام على العاشقة التي توحّدت أخيراً مع الليل.