(شاعرة عراقية مواليد قلعة سكر 1981، لها قيد الطبع مجموعة شعرية بعنوان «عطلة حياة»)
تعرّفتُ إلى نازك الملائكة وأنا طالبة في المرحلة المتوسطة من حياتي الدراسية، وقد كنت في الخامسة عشرة من عمري، أي قبل عشر سنوات، حيث قرأت لها قصيدة «الكوليرا» المقرّرة في منهاجنا الدراسيّ؛ هذه القصيدة فتحت أفقاً جديداً للشعر العربي محوّلة إيّاه من وحدة البيت إلى وحدة التفعيلة. أما كيف حدث هذا الفتح على يد أنثى نجفيّة تربّت على تراث الشعر الفحوليّ بجزالته وعموده، فمن المؤكّد أن المرأة تختلف في إحساسها للعالم ومعايشته ومعاناته عن الرجل، خصوصاً إذا كانت الأنثى شاعرة رقيقة وشفّافة مثل نازك الملائكة، صاحبة الشعور المبصر والمشعّ، والذي قادها إلى كتابة مختلفة وقراءة مغايرة.
المرأة تحسّ بالعالم وتتصوّره وتتعامل معه بشكل مختلف عن الرجل. إنها تقرأ بطريقة تختلف عن الرجل، وإذا اختلفت عنه في القراءة، فالنتيجة الطبيعية أن تختلف عنه في الكتابة، وفي كتابة القصيدة قبل كلّ شيء. هذا ما حدث بالضبط لشاعرتنا حين قرأت الشعر الإنكليزي وتأثّرت به، على طريقتها، فتعرّفت بعمق إلى املي ديكنسون، واديث ستويل، وكيتس الذي تهديه إحدى قصائدها، وإدغار آلان بو الذي تذكر تأثّرها به في مقدّمة ديوانها «شظايا ورماد». أعود إلى قصيدة «الكوليرا» وكيف كتبتها، حيث عايشت أخبار هذا المرض الواقع على الشعب المصري وتحسّست عمق معاناة ضحاياه، فتعمّق انفعالها وفاضت عاطفتها بحادثة موت الشباب والأطفال، واتسع وجدانها وضاقت عليها الأوزان المزدوجة والمركّبة... اختنقت بالقافية، فسارعت إلى اختراق وحدة البيت الفحوليّ، وذهبت بإحساسها الأنثوي الشفّاف إلى تأنيث قصيدتها، وطراوة تفعيلتها الواحدة.
نازك الملائكة اختلفت عن معاصريها بإحساسها ومعاناتها وقراءتها وكتابتها، فكوّنت لها رؤيا، وبدأت ترى العالم بشكله الجديد. كتبت قصائد لم نكتشف سرّ روعتها حتى اللحظة، مثل: «مرثية امرأة لا قيمة لها»، «أنا»، «الخيط المشدود في شجرة السرو»، «أغنية حبّ للكلمات»، «مرثية يوم تافه»، وقصيدة «مرّ القطار» التي يصفها الشاعر فوزي كريم بـ«قصيدة الحداثة الرائدة». لقد تعلّمت منها كيف أكتب القصيدة بشكل مختلف، وكيف أكون أكثر حساسية. تعلّمت منها استخدام عنصر الحكاية في بناء قصيدتي، وتحسّست كثيراً الجهد الاستبطاني والتأمّلي الذي ينتقل بقصيدتها إلى أعماق النفس البشرية، فهي بحقّ شاعرة التأمّل والاستبطان التي حفرت في البنية العميقة للإنسان. في مقدّمة ديوانها «شظايا ورماد» كتبت تقول: «في الشعر، كما في الحياة، يصحّ تطبيق عبارة برنادشو «اللاقاعدة هي القاعدة الذهبية» لسبب هام، هو أن الشعر وليد أحداث الحياة، وليس للحياة قاعدة معينة تتبعها في ترتيب أحداثها، ولا نماذج معيّنة للألوان التي تتلوّن بها أشياؤها وأحاسيسها». من هنا أقول إن شعرية نازك الملائكة قامت على قاعدة اللاقاعدة الذهبية، قاعدة الخرق والتجديد، وهذا ما نسعى إليه، ونحن نحمل روح أمّنا الكبيرة.