الشعر العربي، على ما يبدو، عالم خاص بالرجال. فعدد النساء الشاعرات، على مدى حقبات الشعر العربي، أقلّ بكثير من الرجال. والأمر ليس محصوراً فقط بالعدد، لكنه يطاول النوعية الإبداعية كذلك. فالشاعرات البارزات إبداعاً، في التاريخ العربي، بقين لجهة التأثير خصوصاً، أقرب غوراً من زملائهن الرجال. ربما يكون للظروف الاجتماعية والثقافية والتربوية دورٌ في مثل هذا الواقع، لكن ما لا جدال حوله أن عنصر النساء الشاعرات، في الحقبة الحديثة عربياً، ظلّ يتكثّف باستمرار، وإن من الناحية العديدية وليس الابداعية الفعلية، في معظم الأحيان. الشاعرة العراقية نازك الملائكة تُعتبر، في نظر الكثيرين، شواذاً لهذه القاعدة. فقلّة من الشعراء العرب المعاصرين والمحدثين تمكنوا من فرض شاعريتهم وآرائهم النقدية بالقوة نفسها التي امتازت بها الملائكة من خلال جرأتها التجريبية، شعراً ونقداً وآراء نظرية لا يمكن للناقد المحايد أن يغمطها حقّها، وإن خالفها الموقف وزاوية النظر إلى الفنّ عموماً، وإلى الشعر خصوصاً.
فليس ثمة، على حدّ علمنا، من شاعرة عربية معاصرة وحديثة، أُثير حولها اللغط الذي أُثير حول نازك الملائكة. فلم يبقَ من متعاطٍ في شؤون الشعر، إبداعاً ونقداً ودراسة، إلاّ اتخذ موقفاً ما منها. والمفارقة التي تندر أن تتوافر في خصومة أدبية تتجلّى من خلال تكتّل المحافظين والمحدثين على رفض العديد من آراء الملائكة. فالمحافظون رأوا في كتابها «قضايا الشعر المعاصر» دعوة صريحة لمغادرة الأقاليم الشعرية العربية الراسخة، فناصبوها العداء. والمحدثون لم يقلّوا رفضاً لها بعدما اعتبروا أن آراءها تحاول، تحت ستار الحرية الشعرية الظاهرية، تقييد الشاعر المحدث بشروط قد لا تختلف، في حدّتها، عن قيود عمود الشعر الذي أرسى المرزوقي قواعده قبل قرون بعيدة.
هكذا وقفت نازك الملائكة شبه وحيدة في حقل الشعر، وسط غابة من السهام أثخنتها من كلّ حدب وصوب. وبقيت هي صامدة في مواقعها الاستكشافية الأمامية من دون أن تلين لها عزيمة، أو تفتر لها همّة، ترد على الاتهامات وتنصح أصحابها وتدعوهم إلى التعقّل حيناً، وإلى التخلّي عن تطرّفهم حيناً آخر.
ولعلّ أكبر الحملات التي تعرّضت لها الملائكة، وأوسعها مدى وتجريحاً، هي التي شُنّت عليها في أعقاب إصدار الطبعة الأولى من كتابها « قضايا الشعر المعاصر»، مطلع الستينيات. وكانت، قبل، قد ضمّنت مقدّمات دواوينها العديد من تلك الآراء التي عادت وفصّلتها في الكتاب، شارحة من خلالها نظريتها في الشعر، بكلّ مقدّماته الحديثة، من إيقاع وغموض ولغة واهتمامات.
وإذا ما حاولنا تفصيل آراء الملائكة التنظيرية في الكتاب المذكور، وقعنا على العديد من المحاور التنظيمية التي تسعى إلى تحديد أطر الشعر الحديث، ممارسة وتوجّهات. ومن خلال تلك الآراء يمكننا أن نفهم السبب الذي دفع بشاعر مثل يوسف الخال، وبمجلة مثل مجلة «شعر»، إلى حملة لا هوادة فيها على آراء الكتاب، إلى درجة أن الخال نفسه، في مقال له في «شعر»، عاد ونشره في كتابه «الحداثة في الشعر»، يصفها بأنها الخليل بن أحمد الفراهيدي، لكن بصيغة جديدة!
ويعيب هؤلاء الخصوم على الملائكة أن آراءها لم تكن ثابتة. فهم يقولون إنها تدّعي دوراً تأسيسياً في الشعر الحرّ، لكنها عادت وبشّرت بتراجع هذا الشعر الحرّ. وهم يؤكدون أنها أوهمت الشعراء بحرية موهومة، لكنها وضعت أمامهم قيوداً لا تقلّ حدّة عن التقليد. ثم هم يعيبون عليها تراجعها و«هشاشة» شعرها بالرغم من أنها طرحت نفسها رائدة في هذا المجال.
ومهما يكن من أمر، فإن عملية مسح شامل وسريع لمحاور نظرية الملائكة في «قضايا الشعر المعاصر» تُظهر الأمور الآتية:
- الإيقاع الوزني الخارجي للقصيدة المعاصرة لا يستند بالضرورة إلى نغمية الأوزان في البحور التقليدية. بل إنها تدعو إلى اعتماد التفعلية كوحدة إيقاعية، وتضع شروطاً لطبيعة تلك التفعيلة، ولعددها الأقصى، داخل السطر الشعريّ الواحد.
بطبيعة الحال لم يُرضِ هذا الطرح نصراء قصيدة النثر، باعتبار أنهم يقولون بالإيقاع الداخلي وليس بالايقاع الخارجي، سواء كان بحراً تقليدياً كاملاً، أو تفعيلة وزنيّة مجتزأة. ولقد دارت حملات، ونكاد نقول معارك، بين الملائكة وأصحاب قصيدة النثر، عبّرت عنها هي في فصول «قضايا الشعر المعاصر» وفي مقدّمة دواوينها، وردّوا هم التحية لها بأقسى منها على صفحات الدراسات والمجلات المتخصصة، لا سيما مجلة «شعر». هذا مع العلم بأن الملائكة التي بشرّت بالتفعيلة كوحدة إيقاعية، عادت وتراجعت لتقول إنه «لا بدّ من العودة إلى بحور الخليل بن أحمد الأكثر قدرة على التعبير عن بعض الأغراض».
أكثر من هذا فإن موقفها من القافية، كمكمّل للوزن الخليليّ، جاء مفاجئاً، إن لجهة تناقضه مع دعوتها إلى التحرّر، أو لجهة تراجعها عنه في مراحل لاحقة، نظرياً وممارسة. فهي، مثلاً، تعلن أنها مع القافية فتصفها بأنها «سياج متين يشدّ الأبيات المتفرّقة». لكنها، مع تمسّكها بالقافية، تعلن أنها ستنوّع القوافي في القصيدة الواحدة. وفي موقف حماسيّ تقول إنها ستبشّر بضرورة «إرساء الشعر الحرّ على قافية موحّدة»، متناسية أنها كانت قد أعلنت، في مكان آخر، «ان القافية الموحّدة ألحقت أفدح الأضرار بشعرنا على مرّ القرون». - الصورة الشعرية في القصيدة المعاصرة هي، في نظرها، مظهر سلبيّ يشدّ بالشاعرية إلى الأسفل. وهذا ما أقام عليها قيامة المحدثين الذين يرون في الصورة الشعرية عنصراً أساسياً لا بدّ من توفّره كي تكتسب القصيدة معناها وحضورها. وقياساً على الصورة تتعامل مع الأسطورة والرمز، فتقرّر أنه لا يحقّ لشاعر أن يستعمل هاتين الطريقتين الأسلوبيتين، ما لم يكن قادراً على الدفاع عنهما، وعلى فرض شعره. وتضرب بالسيّاب مثلاً، فترى أنه كان بادئاً بالتركيز على الأسطورة، لكن المشكلة أن من جاء بعده، وحذا حذوه، غرق في التقليد فأفقد الأسطورة أهميتها.
على هذا الأساس نراها تقرّر أن الصورة والاستعارة «تلعبان دوراً ثانوياً جداً» في بنية القصيدة المعاصرة، وأن التركيز عليهما إن هو إلاّ مظهر من مظاهر الضعف الكثير التي يشكو منها الشعر العربي المعاصر. أكثر من هذا، فإنها تتخذ من غياب الصورة معياراً لجودة الشعر، كما فعلت في قراءتها لإنتاج الشاعر علي محمود طه، في كتاب مستقلّ بعنوان «محاضرات في شعر علي محمود طه» حيث تخلص إلى نتيجة تجعلها تقول: «إن شعر علي محمود طه شعر جيّد بدليل عدم وجود صور كثيرة لديه»! - الالتزام في الشعر قضية نافلة ومؤذية في نظر نازك الملائكة. فغرض الشعر هو الشعر وليس التبشير بقضية ما، أو الدفاع عن موقف ما. والالتزام في الشعر، كما تقرّر، يعني «إقحام أشياء من غير طبيعة الشعر على القصيدة». لذلك نراها تعيب كلّ شعر ملتزم وتعتبره غير أهل لدخول مملكة القصيدة الحقيقية.
النتيجة الأولى لهذا الموقف كلّف الملائكة حملات شعواء من الشعراء الملتزمين الذين خالفوها الرأي، معتبرين أن خلوّ الشعر من أية قضية يحوّله إلى أداة زينة فحسب. والمفارقة هنا تكمن في أن الذين هاجموا الملائكة ضمّوا في صفوفهم نصراء الالتزام وخصومه على السواء. وإذا كان البيّاتي خير من يمثّل موقف الذين عابوا عليها نظريتها الرافضة للالتزام في الشعر، فإن يوسف الخال يمثّل الموقف الآخر. فالخال الذي كان يؤمن بعدم مزج السياسة بالشعر، لم يوفّر الملائكة في نقده. هكذا التقى على خصومتها الملتزمون وغير الملتزمين! - الأخلاق في الشعر موقف ثابت عند نازك الملائكة. وهي في هذا، إنما تتبنّى آراء قديمة لدى النقّاد العرب يربطون فيها بين الشعر الجيّد والأخلاق الحميدة. فكلّ قصيدة لا تتوافق مع الأخلاق، من وجهة نظر الملائكة، هي بالضرورة قصيدة ساقطة.
هذا في المبدأ. والأمر لا يختلف في التطبيق. فهي مثلاً، في معرض تقويمها لإنتاج الشاعر اللبناني الياس أبو شبكة، تقرّر أنه صاحب صوت شعري مميّز، لكنه، مع الأسف، سقط في بعض قصائده في هوّة اللاأخلاقية!
كذلك هي ترى في نزار قباني شاعراً مبدعاً، لكن دائماً في القصائد التي لا يخدش فيها الأخلاق العامّة! هكذا تقيم الملائكة حاجزاً أخلاقياً بين صنفين من إنتاج الشاعر الواحد، إلى درجة أن تقرّر أنها في ديوان قباني الواحد، إنما تقرأ القصائد «السويّة» وتفرح بها وحين تصل إلى القصائد «اللاأخلاقية» تطوي الكتاب وتأسف لها! - لغة الشعر، في نظر الملائكة، هي العربية الفصحى الخالية من كلّ الشوائب والأخطاء. وهنا أيضاً مقدار متانة اللغة هو معيار الشاعرية عندها. ففي كتابها «قضايا الشعر المعاصر» تجزم بأن عيب اللغة الركيكة هو أبرز عيوب شعراء مجلة «شعر» التي تصفها بأنها «تصدر في بيروت باللغة العربية، ولكن بروح أوروبية»، و«بأنها تهدف إلى تدمير اللغة».
وضمن إطار اللغة نفسه، ترى الملائكة أن ذهاب البعض إلى كتابة الشعر باللغة العامية إنما هو ضرب من العبث. وهنا أيضاً تبرز مفارقات التناقض في موقفها، فهي إذ تبدي إعجاباً واسعاً بالشعر العامي اللبناني، وتحفظ نماذج منه لميشال طراد والرحابنة، وتشيد بشاعرية هذه النماذج، نراها تقرّر، بعد حين، أن العامية لن تعيش، وبأنه لا ينبغي اللجوء إليها على الإطلاق.
وليس هذا هو الموقف المتناقض الوحيد الذي تعبّر عنه الملائكة في رأيها باللغة. ففي حين تنفق وقتها النقدي في تسجيل الأخطاء اللغوية والعروضية لنفر من شعراء «شعر»، وتعتبر أن تصرّفهم باللغة عيب فاضح، نراها تدعو إلى حرية استخدام الألفاظ في قراءتها لشعر علي محمود طه حيث تقول: «إن الشاعر المبدع هو الذي لا يعترف بأي كيان للألفاظ في شعره. فما يكاد يستعمل اللفظة حتى تصبح ملكاً خاصاً به، لها في داخل القصيدة كيان وشخصية وروح».
أكثر من هذا فإنها في الصفحات الأولى من المجلّد الثاني من ديوانها، تقرّر على خطى جبران، «أن شاعراً واحداً قد يصنع للغة ما لا يصنعه ألف نحوي ولغوي مجتمعين»، إلى أن تقول عن الشاعر إنه «قد يخرق قاعدة مدفوعاً بحسّه الفني، فلا يسيء إلى اللغة وإنما يشدّها إلى الأمام. الشاعر أو الأديب إذن هو الذي تتطوّر على يديه اللغة». ولم يقتصر موقف الملائكة المتحرّر إزاء اللغة على نظرياتها، وإنما نقلته كذلك إلى شعرها. نقتطف نموذجاً معبّراً عن دعوتها هذه، من قصيدة «أغنية حبّ للكلمات» المنشورة في ديوان «شجرة القمر» حيث تقول:
«نحن كبّلنا الحروف الظامئهْ
لم ندعها تفرش الليل لنا
مسنداً يقطر موسيقى وعطراً ومنىً
وكؤوساً دافئهْ». - قضية الغموض والوضوح في القصيدة العربية المعاصرة، هي واحدة من القضايا المحورية التي تستقطب تنظير الملائكة، إلى جانب مسألة اللغة وعيوب الوزن. فلا نكاد نقرأ كتاباً من كتبها إلاّ وتتناول فيه هذا الموضوع، دائماً لجهة رفضها لكلّ ما هو غامض ودعوتها إلى كلّ ما هو واضح. ففي كتابها عن «قضايا الشعر المعاصر»، تربط بين اللغة والوضوح المطلوب في القصيدة لتقرّر أن على لغة القصيدة، أداة الشعر الوحيدة، «أن تحتوي على كلّ ما تحتاج إليه لكي تكون مفهومة».
وفي كتابها «التجزيئية في العالم العربي»، تبدي تعجّبها من كون الغموض ما يزال موجوداً في القصيدة العربية. هي لا تتعامل مع الغموض كظاهرة طبيعية مرتبطة حتماً بغموض الرؤيا، بحسب مفهوم الحداثة، بل تنظر إليها وكأنها مظهر مفتعل ومتعمّد لذاته، يتقصّده الشاعر ليثير حوله الاضطراب، وربما ليخلط المفاهيم، كما توحي.
لذلك هي تستهجن كلّ غموض في الشعر الحالي، وذلك لأن الحاجة إلى الغموض قد انتقت نهائياً من العالم العربي، كما تقول. فالغموض في نظرها، ثمرة قمع السلطة لحرية الشاعر. لذلك هي تعرب عن دهشتها إزاء استمرار الغموض في الشعر العربي المعاصر «رغم وصول حكومات اشتراكية ثورية إلى السلطة في الدول العربية»! - التراث والعلاقة مع الغرب نقطة محورية أخرى في نظريات نازك الملائكة. نقطة يشوبها الكثير من الاضطراب الذي يلامس التناقض. والأمثلة على ذلك كثيرة نكتفي بعيّنة منها. ففي حين نراها تشبّه الشاعر الذي يدع الماضي يسيطر عليه «برجلٍ يرتدي اليوم ثياب القرن الأول للهجرة»، نلاحظ أنها، في مكان آخر، تحرص على رفض كلّ الأسئلة التي يمكن أن يطرحها الاحتكاك بالغرب على الشاعر المعاصر. وهي تزاوج بين التراث بمعنى التقليد، وبين العروبة، بمعنى الانتماء القوميّ، لتقول في «التجزيئية»: «إذا كانت الثقافة ستجعلني أشكّك بوطنيتي العربية، وستُفقدني الثقة بنفسي، سأقول: وداعاً يا ثقافة. إن عروبتي أعزّ عليّ منك، وأنا لا أريد أن أتخلّى عنها مقابل حفنة من كلمات لا قيمة لها»!
هذا الموقف الرافض للغرب، كمصدر تأثير على الشاعرية المعاصرة، يجعل الملائكة تصرّ على التمسّك بكلّ ما هو، في نظرها، عربي. هي متمسّكة بالمقاييس العربية التقليدية إلى درجة أنها تتعامل، كما في رأيها في شعر علي محمود طه، مع كلّ بيت شعري أو قصيدة من زاوية تضمّن هذا الأثر لكل ما هو عربي - إسلامي، فترى أن شعراً من هذا النوع «هو بالضرورة رائع». - مفهوم نازك الملائكة للتجديد يتناقض، كذلك، مع الكثير مما كانت قد دعت إليه في السابق، إضافة إلى تعارضه مع مفهوم التجديد. فالشاعرة - الناقدة التي رأيناها تدعو الشاعر إلى التجديد الدائم في اللغة، وإلى التطوير في الإيقاع، ولو على أساس تراثيّ، تتخذ موقفاً غريباً من قضية التجديد تفصّله في أكثر من مكان في مؤلّفاتها، وإن كان تناولها له في كتابها «التجزيئية في المجتمع العربي» هو الأكثر تعبيراً، حيث تقول: «وكما أنه لا يمكن، عقلاً، أن تأكل حيّةٌ مأكولة حيّةً أخرى أكلتها قبل ذلك، كذلك لا يستقيم معنى التجديد في حياتنا إذا استمرّ إلى ما لا نهاية له. فالتجديد ينبغي أن يحدث مرّة واحدة، ثم تليه أعوام طويلة مرتخية بطيئة يقلب فيها المجتمع ذلك الجديد، ويهضمه، ويستوعبه، ويستخلص ثماره، ويُبدع منه قيماً ذاتية من صنع نفسه»!
هل الهدف من هذا المفهوم للتجديد إقفال الباب أمام شعراء آخرين، خصوصاً جماعة «شعر»، كي يكفّوا عن محاولات التجديد، طالما أن الملائكة جدّدت لهم وعنهم، وطالما أن التجديد «لا يحدث إلاّ مرّة واحدة»!؟
مهما يكن من أمر، فإن أفدح ما في هذا الموقف للملائكة، أنه تحوّل، أحياناً كثيرة، إلى نوع من الردّة، بحيث أنها تخلّت عن كلّ ما كانت قد بشّرت به على صعيد التجديد. ألم تقل عن الشعر الذي بشّرتْ به، ونظرّت له: «أنا واثقة من أن الشعر الحرّ سيتوقف في وقت قريب»! - من المواضيع الأثيرية لدى نازك الملائكة موضوع الأسبقية إلى الشعر الحرّ، في العالم العربي. ولقد كتبت في هذا الموضوع مراراً، وتحدّثت عنه في مقابلات صحافية كثيرة، لتؤكد دائماً أنها كانت السبّاقة في إطلاق الشعر الحرّ في العالم العربي. وهي تطرح قصيدتها «الكوليرا» في ديوانها «شظايا ورماد» على أساس أنها أول قصيدة من الشعر الحرّ. ومن المعروف أن نقّاداً كثيرين جادلوها في هذا الرأي، وذهب بعضهم إلى أن قصيدة «هل كان حبّاً؟» لمواطنها الشاعر بدر شاكر السياب هي السبّاقة. لكن الملائكة ترفض هذا الأمر وتقدّم الأدلّة، معزّزة بالأرقام والتواريخ، لتثبت أسبقيتها إلى الشعر الحرّ، تارة بلسانها مباشرة، وطوراً بلسان نقّاد مؤيدين لها أو أصدقاء، أو حتى زوجها الدكتور محبوبة. فهي تقول إنها كتبت «الكوليرا» في 27 تشرين الأول (أكتوبر 1947)، ونشرتها في أوائل شهر كانون الأول (ديسمبر) من السنة نفسها، في حين أن قصيدة السيّاب «هل كان حبّاً؟» لم تُكتب وتُنشر إلاّ في النصف الثاني من الشهر المذكور. هكذا تكون قد سبقت السيّاب ببضعة عشر يوماً.
لكن أنصار أسبقية السيّاب يؤكدون أنه كتب قصيدته المشار إليها في العام 1946، ونشرها في العام التالي. وبهذا يعقدون له قصب الأسبقية على الملائكة. غير أن مسألة بضعة عشر يوماً ليست، في نظرنا، مهمّة. خصوصاً متى ما علمنا أن لويس عوض كان قد نشر في ديوانه «بلوتولاند وقصائد أخرى» الذي طُبع في العام 1947 قصائد من الشعر الحرّ يقول إنه نظمها في كامبريدج ما بين العامين 1938 و1940.
الأسبقية إذاً، بين الملائكة والسيّاب، ليست هي المهمة. بل المهم هو المرحلة التي تلت ما يُفترض أنه أسبقية. فالسيّاب، بعد «هل كان حبّاً؟» استمرّ في نظم الشعر الحرّ، في حين أن إقبال الملائكة على هذا النوع قد تقطّع. لا بل إنها عادت منذ العام 1951 و1952 إلى نشر قصائد على البحور التقليدية، وإن كانت قد استخدمت مجزوء هذه البحور أحياناً، كما فعلت في قصيدة «الأرض المحجّبة» التي نظمتها على مشطور الرمل، فبدت تقليدية قلباً وقالباً.
في المقابل، وإذا كان السيّاب أكثر مواظبة من الملائكة على الشعر الحرّ، فإن الشاعرة ظلّت أعمق منه حسّاً تنظيرياً، من خلال دعوتها إلى الشعر الحرّ. فكتابها «قضايا الشعر المعاصر»، بالرغم من المآخذ الكثيرة التي سجّلها النقاد على مضمونه، يبقى بمثابة «المانيفستو» الشعريّ المتكامل، كما تراه الملائكة. وهذا ما افتقر إليه السيّاب الذي كان مقلّاً في الجانب التنظيريّ.
وإذا كان الشيء بالشيء يذكر، فإنه لا بدّ من القول إن ثمة شبه إجماع على أن الملائكة كانت أكثر ثقافة من السيّاب، بالمعنى المتداول للثقافة. فهي قد أتقنت كلاً من الإنكليزية والفرنسية التي درستها على نفسها. كذلك هي درست اللغة اللاتينية واطّلعت على الآداب الفرنسية والإنكليزية والإيطالية والألمانية، كما يؤكد عبد الجبّار داوود البصري في كتابه عنها.
والواضح كذلك أن مقدرة الملائكة على التنويع الموسيقيّ، وعلى اجتزاء القالب الإيقاعي التقليدي إلى تفعيلات كوحدات إيقاعية مستقلّة قابلة للتأليف وإعادة التوزيع، إنما هو عائد إلى ثقافتها الموسيقية. فهي قد درست العزف على آلة العود طوال ستّ سنوات، ولحّنت «نشيد العرب» - وهو من شعر والدتها - الذي كانت طالبات دار المعلمات الابتدائية في بغداد ينشدنه باستمرار. كذلك يؤكّد عبد الجبار داوود البصري أن نازك الملائكة ظهرت على المسرح كعازفة للعود، وذلك للمرّة الأولى في العام 1955، حيث قدّمت وصلة عزف في جامعة «وسكونست» الأميركية التي درست فيها لمدّة سنتين. ربما هذا ما يفسّر اهتمامها بالتنويع الوزني الموسيقي، نتيجة لثقافتها الموسيقية، إلى جانب اهتمامها الدائم بفن الرسم.
بعد هذا كلّه لا بدّ من طرح التساؤل الآتي: ماذا يبقى من نازك الملائكة الشاعرة، والناقدة، وصاحبة الآراء التنظيرية؟
قبل الجواب، لا بدّ من الإشارة إلى أن الثقافة، لا سيما عند الشاعر، هي نسغ أساسي يشيع، في جوانب نشاطه جميعاً، نوعاً من المناخ العام الذي يفرض نفسه تلقائياً، بصرف النظر عمّا إذا كنت تشاطره آراءه، أو تخالفه التوجّهات.
من هذه الزاوية كانت نازك الملائكة مثقّفة حقيقية. ليس فقط لأنها تتقن لغات وفنوناً عدّة، أو لأنها مطّلعة، إلى حدّ بعيد، على الإنتاج الأدبي الغربي، لكن لأنها ظلّت قادرة على اتخاذ موقف من الشعر ومن عدّة الشاعر. وهذا لا يتأتّى إلاّ لمن توفّرت فيه جوانب الممارسة والاستيعاب وتجريد النظريات من التطبيق.
صحيح أن آراءها قد شكت، غالباً، من تناقض ظاهر. وصحيح كذلك أن الكثيرين يرفضون ما ذهبت إليه، ويعتبرونه ضدّ الشعر أو قيوداً للقصيدة، ولو بحلّة جديدة. لكن الصحيح أيضاً هو أن لا أحد يمكنه أن ينكر على الملائكة قدرتها الفنية العالية التي حاولت التعبير عنها في مؤلّفاتها الشعرية والنظرية، فكتابها الأبرز «قضايا الشعر المعاصر» فعل في الشعرية العربية ما لم تفعله عشرات الكتب النقدية، في الستينيات. والدليل على ذلك الحملات الكثيرة التي تعرّضت لها بسبب ما ورد فيه من نظريات. فالشجرة المثمرة وحدها هي التي تُرمى بالحجارة، ولو كانت شجرة الملائكة عاقراً لمرّت كتاباتها من دون أن تلفت إليها الأنظار. جرأة الملائكة هي التي ستبقى. نبرة صوتها التغييري هي التي ستصمد على الزمن، رغم تراجعاتها وارتداداتها المتكرّرة. أما التفاصيل الأخرى، أو الممارسات التي عَبَرت تلك النبرة، فمصيرها، على الأرجح، هو التلاشي، ولو بعد حين. لا نعتقد أن قارىء الشعر العربي، بعد قرن أو قرنين، سيجد عند نازك الملائكة ما يرشد إلى استباقها لعصرها، وربما ما يُظهر أنها واكبت، شعرياً، روح العصر. لكن قراء المستقبل، على ما نظنّ، سيتوقفون مليّاً عند جوانبها التنظيرية لأنها كانت مؤسِّسة، على هذا الصعيد، أكثر مما هي مؤسِّسة في الشعر.
ربما هذا قدر الكبار في كلّ فنّ من الفنون الإبداعية. فإما أن ينمو عندهم الجانب النظريّ على حساب جانب الممارسة، وإما أن تكون قيمة الممارسة الفعلية أكبر بكثير من قيمة الجانب النظريّ عندهم، كما هي حال السيّاب مثلاً. ومهما يكن من أمر، فإن نازك الملائكة ستبقى، على الأرجح، مفصلاً أساسياً في حركة الحداثة الشعرية العربية، في الشقّ النظري خصوصاً، ذلك أنها أضاءت طريقاً آتياً، أو هو في طور المجيء، وإن ظلّت عيناها، في أحيان كثيرة، مشدودة إلى نماذج الماضي الشعرية. ولعلّ هذا ما قصده المستشرق الفرنسي أندريه ميكال، في كتابه «الأدب العربي»، حين قال: «ربما، في هذا التوازن الدقيق بين الجديد والثابت، يكمن سرّ الشاعرة العراقية نازك الملائكة، التي تُعتبر، دون جدال، واحدة من أكبر الشعراء العرب في الوقت الحاضر».