(شاعرة أردنية مواليد عمّان 1978، لها: «سيرة النائم» وزارة الثقافة الأردنية 2006)
في العام 1990 ماتت نازك الملائكة، مع تغريد، على الإسفلت الذي يقسم الغابة إلى نصفين. المدرسة ليست بعيدة، لكن الأشجار متراصة. والموت الذي انتزعني من حضن الشيطنة، كان كفيلاً بأن أخفي إعجابي باسمي فأتوقّف عن زخرفته على الجذوع. صرت أمشي بصمت وأكتفي بتسميع الآيات والمحفوظات لنفسي. لست في صدد بناء حدّوتة لي مع نازك الملائكة، ولا أزعم أنني قرأتها جيداً. علاقتي بها لم تتجاوز قصائدها في منهاج المرحلة الإعدادية، ولم أسعَ إلى أكثر من ذلك، ولديّ أسبابي... روحي اليقظة تعيش في جسدها الميّت. لم نترك الله يفرّقنا أبداً. ولم نكُ نفهم إشارات المصير الكبيرة على فتاتين لم تعرفا من الألم سوى مرارة الهزيمة في لعبة «الحجلة». كان مقرّراً عليها أن تحفظ قصيدة «الكوليرا» عن ظهر قلب، فكنّا نجتاز الطريق وهي تردّد: «هذا ما مزقه الموت/ الموت الموت الموت».
أحاول نسيانها، تتقافز يمنة ويسرة وترقص أكتافها: «الموت الموت الموت». تحفظ وتحرّك رأسها بانفعال طفل ينشد: «ماما زمانها جايه». كنت صغيرة، لم ينقبض قلبي، ولم يخطر الموت لي على بال، بل ردّدت معها العبارات نفسها، وكنّا نستدرج الموت من حيث لا ندري.
ماتت شقيقتي، وبعد عامين طُلب مني حفظ قصيدة «الكوليرا». اجتزت الطريق وحدي ووجدتني أحفظها عن ظهر قلب.
***
لست من عائلة تشجّع التعليم ولا القراءة ولا دراسة البنات؛ نحن أبسط وأعقد من ذلك بكثير. لكن حقيبة جلدية كانت كفيلة بتغيير مجرى حياتي؛ حقيبة شقيقي المتخيّل. أو هكذا أشعر الآن، فأنا لم أشاهده في حياتي قطّ، ويزعمون أنه مات قبل ولادتي بأيام. كنت أعتقد أن أمّي تتخيّله كشخصية الغول الذي ينتظرنا في الظلام، ليعاقبنا على سلسة الحماقات اليومية الجميلة. في الحقيبة وجدت «المجموعات الخمس لسليم بركات» و«1984» لجورج أورويل. لم أكن صغيرة، لكن بركات كان سبباً وجيهاً في تدمير علاقتي باللغة كما ألفتها، أو كما تشدّقت بها معلمة اللغة العربية الساذجة، فما عدت أستسيغ قراءة الملائكة ولا السيّاب ولا البيّاتي، وقد حاولت، حقاً؟ لكن التململ يصيبني كلّما أعدت الكرّة: سليم هو الملام، أما أورويل فقصة أخرى.
***
في الجامعة كنت أقلّب رفوف المكتبة ووجدت بالصدفة محاضرة للملائكة بعنوان «مآخذ اجتماعية على حياة المرأة العربية»، ألقتها في الموسم الثقافي الرابع لجامعة البصرة في العام 1968. توهّمت للحظة، أن في الأمر لبساً ما، ولا بدّ من أنه تشابه في الأسماء، لكنها الملائكة الشاعرة العراقية التي «ساءها واقع المرأة المسلمة فرفعت صوتها، محذّرة إيّاها مما انساقت إليه» (!) ودعت «الحكومات» إلى أن تتدخّل لتحيي «لباس المرأة العربي الإسلامي» (!) وأن يضطلع الرجل بمسؤوليته فيمنع المرأة من التبرّج: «لو كانت كلّ فتاة تجد رجلاً يلومها على تبرّجها ويعلن ازدراءه له لتركت التبرّج تماماً» (!)
أليست هذه هي المرأة نفسها التي حطّمت عمود الشعر: أبرز علامات الذكورة!
***
سوى ما قرأت بالصدفة، لم أسعَ إلى قراءة الملائكة متمعّنةً وباحثةً، بل إلى الاطلاع فقط. واعتقدت، وقد جانبتُ الصواب، أن قراءة مجموعة من قصائد ذلك الجيل، كفيلة بأن تعطي ملمحاً كافياً عن الشعر وقتها. ولا أحسب أن أحداً من الشعراء الجدد ما زال يتأثر بالسيّاب أو الملائكة أو البيّاتي، فأهمية هؤلاء كانت في وجودهم بالنسبة إلى زمانهم، بمعنى أن ليس لقصيدتهم أثر على شعر الشباب اليوم، وليس في هذا تقليل من شأنهم طبعاً، لكن «البطولة» الآن لقصيدة النثر.
سليم هو الملام، وهو الذي أحرق السفن بيني وبين أولئك الشعراء. ربما يكون في كلامي الكثير من الرعونة وقلّة المعرفة، لكني موسومة دائماً بـ«الطيش».