تُرى هل «الموت» هو ديوان العرب، وليس الشعر كما يقال؟ أبدأ بهذا السؤال لعلاقته من طرفين بنازك الملائكة التي أعاد اكتشافها الشعراء والنقاد والصحافيّون العرب بعد موتها فقط (ظلّت نازك الملائكة تعاني موتَها الطويلَ المُعمّرَ في الحياة بعدما اختارت القاهرة مقبرة لها في الحياة وفي الممات بناءً على وصيّتها). هكذا ازدانت الصحف العربيّة والأنباء المتلفزة والندوات بشاعرةٍ عملاقة وُلدتْ يومَ موتها.
ليست هذه خصوصيّة لنازك الملائكة، لكنها اتخذت في حالة الراحلة مفارقةً وصلتْ إلى الذروة، فلولا «الأعمال الشعرية الكاملة» التي أصدرها «المجلس الأعلى للثقافة» بمبادرة من الدكتور جابر عصفور لم يكن أحد قطّ ليلتفت إلى هذه الشاعرة المتميزة والرائدة في حاضرتنا الشعريّة. أما الطرف الآخر من علاقة الملائكة بالموت فهو الذي يهمّنا هنا بشكل أساسي، ذلك أنه يشكّل قطباً محورياً في نصّها الشعري وفي حالتها النفسية، كما تقول، مما كان له الأثر الأبلغ في رسم ملامحها الشعريّة وخصوصيتها.
كانت نازك الملائكة، إذا ذُكرت قبل موتها، تُذكر إمّا تأريخيّاً، بسبب قصيدة «الكوليرا» عام 1947، كونها «أولى» أو من أوائل من كتبوا الشعر الحرّ، وإمّا أن تُذكر نقدياً من خلال دراستها عن الشعر المعاصر في كتاب «قضايا الشعر المعاصر»؛ هذا الكتاب الذي ساهم في شهرتها كثيراً، بالضبط كما حصل لكتاب «الثابت والمتحوّل» لأدونيس. لكن الفرق أن أدونيس ظلّ يُذكر وبقوّة كشاعر إلى جانب حضوره النقديّ، أما نازك فقد تضاءل حضورها الشعريّ بشكل تدريجيّ في العقود الأخيرة من القرن المنصرم، إلاّ كما أشرنا في ما يتعلق بالإشارة التأريخيّة إلى جانب روّاد القصيدة الحرّة أو في إطار المرجعيّة النقدية المنهجيّة في دراسة الشعر العربي حيث صار كتابها الآنف الذكر يُدَّرس في الجامعات.
* * *
«عالمٌ حَفَّ به الموتُ العميقُ»
«كلُّ ما فيه إلى القبرِ يقود» (1)
حضور الموت لدى نازك الملائكة لا يحتاج إلى إشارات واستدلالات. إنه الحبر الشعريّ الذي تكتب فيه، بل وأكثر من ذلك، لأنه الشعرُ صادرٌ عن استغراق شعوري ولاشعوري ثقافي وتلقائي في محيط «الموت» الذي كانت تعوم فيه نازك الملائكة، ومن هنا تبدأ أولى خصوصيّات هذه الشاعرة. فالمسألة لا تتعلّق بـ«غرض» شعريّ ولا حتى بـ«ثيمة» في التعبير النقديّ، بل بطقس مطبق، بينها وبينَهُ نسغٌ حُلمي متواصل، وأقول هذا بالمعنى الحرفيّ للحُلُم... ها هي تروي «حُلماً» عن موت أمّها الذي واجهته وحيدةً في لندن:
«اضطررتُ أن أصحب أمّي المريضة أشد المرض إلى لندن على عجل، والرعبُ مستولٍ عليّ، فقد كنت خائفة في أعماقي من شيء رهيب سيقع لي لم أشخصه، وقبل سفري بأسبوع حلمت أنني أسير في شوارع لندن وأحاول شراء تابوت ملوّن وأبحث وأبحث وأبحث في لهفة ورعب فلا أجد من يبيعني تابوتاً» (2).
هذا الموت إذاً «تابوت ملوّن»، لا تريد أن تسمّيه «خائفة من شيء لم أشخّصه»، وهي تعرف عن ماذا تتحدّث. أغرب من هذا صرختُها في قصيدة «خرافات»:
«قالوا الحياة
هي لونُ عينَيْ مَيْت».
تذهب نازك الملائكة إلى أبعد في هذه العلاقة مع الموت، فنحن نجدها تقيم نوعاً من «الموازنة الإيقاعيّة العروضيّة» بين عدد الموتى والوزن الجديد لقصيدة «الكوليرا»؛ قصيدتها المؤسسة في شعرها والشعر العربي المعاصر... ها هي تروي لنا ذلك بقلمها: «بعد صدور «عاشقة الليل» بأشهر قليلة انتشر وباء الكوليرا في مصر الشقيقة وبدأنا نسمع الإذاعة تذكر أعداد الموتى يومياً وحين بلغ العدد ثلاثمائة في اليوم انفعلت انفعالاً شعرياً وجلست أنظم قصيدة استعملت لها شكل الشطرين المعتاد مغيّرة القافية بعد كلّ أربعة أبيات أو نحو ذلك، وبعد أن انتهيت من القصيدة قرأتها فأحسست أنها لا تعبّر عمّا في نفسي وأن عواطفي ما زالت متأججة. أهملت القصيدة، وقرّرت أن أعتبرها من شعري الخائب (الفاشل). بعد أيام قليلة ارتفع عدد الموتى بالكوليرا إلى ستمائة في اليوم، فجلستُ ونظمت قصيدة شطرين ثانية أعبّر فيها عن إحساسي، واخترت لها وزناً غير وزن القصيدة الأولى، وغيّرتُ أسلوب تقفيتها ظانّةً أنها ستروّي ظمأ التعبير عن حزني... لكنني حين انتهيت منها شعرت أنها لم ترسم صورة إحساسي المتأجج، وقررت أن القصيدة قد خابت كالأولى وأحسست أنني أحتاج إلى أسلوب آخر أعبّر به عن إحساسي، وجلست حزينة حائرة لا أدري كيف أستطيع التعبير عن مأساة الكوليرا التي تلتهم المئات من الناس كل يوم. وفي يوم الجمعة 27/10/1947 أفقتُ من النوم وتكاسلت في الفراش أستمع إلى المذيع وهو يذكر أن عدد الموتى بلغ ألفاً فاستولى عليّ حزن بالغ وانفعال شديد فقفزت من الفراش وحملت دفتراً وقلماً وغادرت منزلنا الذي يموج بالحركة والضجيج يوم الجمعة، وكان إلى جوارنا بيت شاهق يُبنى وقد وصل البنّاؤون إلى سطح طابقه الثاني وكان خالياً لأنه يوم عطلة العمل فجلست على سياج واطئ وبدأت أنظم قصيدتي المعروفة الآن (الكوليرا) وكنت قد سمعت في الإذاعة أن جثث الموتى كانت تُحمل في الريف المصري مكدّسة في عربات تجرها الخيل فَرُحتُ أكتبُ وأنا أتحسس صوت أقدام الخيل:
«سكن الليل
إصغ إلى وقع صدى الأنّاتْ
في عُمق الظلمة، تحتَ الصمتِ، على الأمواتْ»
ولاحظت في سعادة بالغة أنني أعبّر عن إحساسي أروع تعبير بهذه الأشطر غير المتساوية الطول بعد أن ثبت لي عجز الشطرين عن التعبير عن مأساة الكوليرا ووجدتني أروي ظمأ النطق في كياني وأنا أهتف:
الموت، الموت، الموت
تشكو البشرية تشكو ما يرتكب الموت».
هذه الشهادة نادرة، وتقع على أهميّة قصوى ليس فقط في شاعرية نازك الملائكة، لكنها تلقي ضوءاً حتى على مناطق العتمة في الشاعريّة، أو ما يُعرف بالإلهام الشعري، وبالأخصّ في الإيقاع والموسيقى الشعريّة عموماً، وفي الشعر العربي بشكل خاص. ولأهميّة هذه الشهادة سأذكر بالتفصيل قراءتي الخاصة لها.
ها نحن أمام شاعرة تكتب حالة القصيدة؛ وأي قصيدة، فإنها كما ذكرت «القصيدة» بالنسبة إليها وكلّنا يعرف أهميتها في شعرنا المعاصر في ما بعد. فقد بدأتْ بسماع الإذاعة لأرقام الموتى بالكوليرا، وعندما كان الرقم 300 ميّت حاولت كتابة القصيدة وكان شكلها الشعري كما تذكر «شكل الشطرين المعتاد مع تغيير القافية» أي قصيدة عموديّة، أي بـ300 من الموتى وصلت إلى نصّ عمودي، لكنها بعد قليل لا تقتنع بهذا النصّ وترميه إلى سلة المهملات مشيرةً إلى أنه يشكّل جزءاً من شعرها «الخائب الفاشل».
تمضي أيام، وتعود الأنباء، ويزداد عدد الموتى فتحاول الشاعرة كتابة القصيدة ثانيةً وقد ارتفع الرقم إلى 600 ميت. تقوم الشاعرة بتغيير الوزن وأسلوب التقفية وتبقى في إطار القصيدة ذات الشطرين، لكن النتيجة كالمحاولة الأولى تخفق هي الأخرى وتظلّ «حزينة» تبحث عن «أسلوب جديد» قادر على تصوير وامتصاص عمق هذه المأساة التي تتصاعد أرقام الموتى فيها.
وفي يوم آخر تفيق الشاعرة من نومها، تهرب إلى مكان خالٍ لتكتب، وبالفعل تكتب القصيدة في المحاولة الثالثة، وقد وصل رقم الموتى إلى 1000، مع ملاحظة دخول عنصر إيقاعي جديد على المأساة وهو العربات التي تحمل الجثث، أي وقع دوران العجلات وخطى الخيول... إيقاع جديد، وزن جديد.
وهنا أي في هذه «الذروة» الألفيّة في أعداد الموتى والإيقاعية في عربات الجثث والخيول تولد القصيدة الجديدة التي شكّلت منعطفاً في شعرها والشعر العربي. هذه حالة نموذجية لبحث الإيقاع في النصّ الشعري بعيداً عن الوزن والقافية بالمفهوم العروضي، خاصة وأننا نعرف استطاعة نازك الملائكة ومعرفتها بالشعر العمودي وعروض الشعر. لعلّها في شهادتها هذه جاءت ببرهان عميق، غير نقدي خارج على كل المدارس ومناهج البحث النقدية - دون قصد - يكشف لنا عن اشتباك جوفاني تلقائي بين موسيقى الرؤية وموسيقى النصّ الشعرية. لقد ولدت «القصيدة» التي غيّرت مجرى الشعر العربي، أو ساهمت على الأقلّ في ذلك، من وقع أقدام الخيول والعربات التي تحمل موتى الكوليرا، أي أن الشاعرة تقول لنا بتعبير أوضح إن الذي فجّر جدران العمود الشعري هو الموت الذي جاء بشكل إيقاعي جديد كان لا بدّ من استنساخه شعرياً في نصّ لتكون نسخته هي «القصيدة» الأولى في الشعر الحرّ.
* * *
من هنا أجيء إلى العنوان («لا أبوّة لها ولا أبناء في الشعر العربي») لأنّ هذه العلاقة مع الموت ليست عربيّة على الإطلاق. لا يوجد أي مثل شعري ولا حتى فلسفي في تأريخنا المعاصر ولا القديم يمكن أن يشكّل مرجعيّة أو سابقة لمشهد الموت الملائكي هذا. وأقول الملائكيّ بدون قويسات، والمفارقة تظلّ سؤالاً مشرّعاً أيضاً.
ربما يكون السبب في تسمية عائلة «الملائكة» هو ما يروى عن الهدوء والصمت في بيتهم العائلي، لكن شاعرتنا تُفصح بطريقتها عن أسرار شعرية أخرى. ربما يذكر البعض أن أبا القاسم الشابي كان يعيش هذه الحالة، وقد عبّر عنها شعرياً بشكل مقارب لنازك الملائكة، ويمكن اعتباره سابقاً لها. هنا أودّ أن أوضح أن علاقة الشابي بالموت كانت علاقة حقيقية عضوية «واقعيّة» لأنه كان مريضاً ينتظر الموت ويهرب إلى الوحدة والغابة لمناجاته. وفي هذا المعنى فإن الشابي شاعر واقعي يعبّر عن حالة فيزيائية عضويّة معاشة وهو يكابد المرض العضال. لكن علاقة نازك الملائكة بالموت لا تنتمي إلى هذا الواقع، ولم تكن على الإطلاق تكابد حضوراً له في جسدها، بل كانت تصدر عنه كملهم شعري، كطقس تعوم في هوائه، وكذرّات غبار في شمسه.
إنها تتحدّث مثلاً عن تأثرها بشوبنهاور ومقولته حول الموت «حتى مَ نصبرُ على هذا الألم الذي لا ينتهي؟ متى نتدرّعُ بالشجاعة الكافية فنعترف بأن حبّ الحياة أكذوبة وأن أعظم نعيم للناس جميعاً هو الموت». ثم تضيف: «ذلك هو الشعور الذي حملتُه من أقصى أقاصي صباي إلى سن متأخرة».
إذاً هو الموت «أعظم نعيم»، وهو ما يُفسّر لنا «التوابيت الملوّنة» التي كانت تحلم بشرائها في لندن عندما كانت أمّها مريضة. هذه العلاقة مع الموت تشبه إلى حدّ كبير علاقة جميع الرومنطيقيين الغربيين به، إنها بكل بساطة الحالة الشعرية الرومنطيقيّة المعروفة عالمياً (وليم وورذرورت، شيللي، لامارتين)، وهي تتحدّث عنها بوضوح في مقدّمة الأعمال الشعرية الكاملة (ص 53): «كانت «مأساة الحياة» صورة واضحة من اتجاهات الرومنسيّة التي غلبتني في سن العشرين وما تلته من سنوات، وكان من مشاعري إذ ذاك التشاؤم والخوف من الموت وهما مفتاح هذه الصورة الأولى من المطوّلة - صورة 1945».
وإذا ما علمنا أن «مأساة الحياة» هو ديوانها الأول، أي باكورة أعمالها، أدركنا حدود الولادة الشعرية لها، والسيرورة التي مضت فيها من بعد، وكيف كان الموت «مفتاح» الصورة الأولى. هذه العلاقة مع الرومنطيقيّة تقودنا إلى جذر أعمق ربما مرتبط باللغة، أي لغة الشعر الرومنطيقيّ بامتياز: اللغة اللاتينية. فقد تعلّمت نازك الملائكة اللاتينيّة ابتداءً من عام 1941، أي منذ السابعة عشرة من عمرها، وواصلت تعلّمها وتعميق اطلاعها عليها إلى درجة أنها نظمت نشيداً باللغة اللاتينية... وهي تعبّر عن هذه العلاقة بالكلمات الآتية: «بقي حبّ اللغة اللاتينية في دمي حتّى اليوم (عام 2002) وما زلت أقتني كتب الشعر اللاتيني وأحاول أن أقرأها كلما وجدت فراغاً، وأتذكر أنني بعد شهرين من بدئي لدراسة هذه اللغة أصبحت أكتب مذكراتي بها كما نظمت نشيداً لاتينياً على النغمة المشهورة At the Ballalika...». ثم تمضي أبعد، حيث أن هذه اللغة التي بدأت دراستها، وهي صبيّة، رافقتها سنين الشباب حيث درست اللاتينية في جامعة برنستن بالولايات المتحدة، وكانت كما تذكر معجبة شديد الإعجاب بالخطيب الروماني شيشرون والشاعر اللاتيني كوتولوس حيث تقول: «حفظت مجموعة من قصائد كوتولوس وما زلت أترنّم بها في وحدتي فأجد سعادة بالغة في ترديدها، والواقع أنني أجد في اللغة اللاتينية نفسها سحراً يجذبُ كياني كله ولست أعرف سرّ هذا الافتتان بلغة يكرهها الطلبة عادة وينفرون منها أشدّ النفور».
تذكّرني هذه الإشارة عن الترنّم بالشعر اللاتيني بما يحصل لشعراء جيلها وما بعده من الترنّم بالشعر العربي القديم، وكأنّ كوتولوس اللاتيني بالنسبة إلى نازك الملائكة هو المتنبّي بالنسبة إلى محمود درويش! هكذا، لأنه بمثل هذه الكلمات كان درويش يتحدّث عن المتنبّي مثل الكثيرين غيره من الشعراء العرب.
حكاية نازك الملائكة مع الشعر اللاتيني هذه لم تتوقّف عند هذا الحدّ، لأننا نعرف أن اللاتينية هي أمّ اللغات الأوروبية، وأن تأثيراتها وامتداداتها داخل اللغات الأوربية القومية الأخرى التي خرجت من رحمها كالفرنسية والإيطالية والإسبانية ما زال مستمرّاً ومتواصلاً، ولهذا فإن علاقة شاعرتنا باللغات الأوروبيّة كانت هي الأخرى امتداداً لعلاقتها باللغة الأمّ، فقد أحبت الفرنسيّة وتعلّمتها دون معلّم كما كتبت في مذكراتها، وكذلك في إيطاليا تتحدّث عن علاقتها بالإيطاليّة وحبّها لها دون أن تملك الفرصة لتعلّمها، كما أن تعلمها واضطلاعها باللغة الانكليزية هو الذي قادها عام 1950 إلى دراسة الشعر الانكليزي في المعهد الثقافي البريطاني حيث ترجمت إحدى سونات شكسبير. هذه العلاقة المشتابكة بينها وبين اللغات الأوربية وصلت إلى درجة أنها فقدت طلاقة التعبير باللغة العربية وهي في عمر لا يتجاوز الـ33 عاماً! وقد تحدّثت عن هذه الحالة التي عانت منها، خصوصاً في مشاركتها في مؤتمر الأدباء العرب الثاني المنعقد في بلودان بدمشق، حيث كانت غير قادرة على التعبير باللغة العربية بحسب شهادتها: «كنتُ يومها أحسّ بنوع من الأزمة أعانيه، فقد كان التعبير بالعربية لا يطاوعني تماماً بعد سنتين لم أتكلم خلالهما إلا بالانكليزيّة، وكانت حياتي الفكرية والروحية كلها تقوم على هذه اللغة الأجنبية، وكنت أحسّ إحساساً قاسياً بخاصة خلال وجودي في مؤتمر الأدباء الذي افتتحتُ به عودتي إلى الوطن العربي الحبيب، ولم يزايلني هذا الإحساس إلاّ بعد مرور أشهر في العراق استعدت خلالها طلاقة التعبير بالعربية...».
في الواقع عندما توصّلتُ إلى قناعة بأن نازك الملائكة لا أبوّة لها في الشعر العربي، لم أكن قد قرأت بعد هذه الشهادة التي تضيء نقطة مهمّة في علاقة الشاعرة باللغة بالمطلق لأننا نعلم أن اللغة هي منطق قبل كلّ شيء، وأن المفردات يمكن استبدالها وتظل اللغات تتمايز عمقيّاً بجدل مختلف وفلسفة مختلفة وأداء متباين للصفات والأسماء والتراكيب الداخلية للجمل.
إذاً، بصمات اللغة الأجنبيّة طبعت بخصوصيّة رائعة شعر الملائكة بعدما نجحت الشاعرة في «إذابة» عناصر تلك اللغات ومكوّناتها في عربيّتها الصافية التي تمتاز بالوضوح والشفافيّة تاركة آثار اللغات الأجنبيّة تتبلور في رؤياها الشعريّة وفي علاقتها مع أحشاء النصّ وروحه أكثر منها مع مفرداته وتركيب الجمل فيه، وهنا تكمن فرادة نازك الملائكة.
لا أبوّة لها في الشعر العربي، أجل، وإن ما تتحدّث عنه إعجاب و«تأثر في فترة الصبا» بعلي محمود طه، كما تقول، لم يذهب بعيداً، وظلّ على ما يبدو في مرحلة البواكير، بالرغم من أنها كتبت عنه كتاباً أُعيد طبعه في القاهرة عام 1965.
يُضاف إلى هذا كلّه ما يؤكد غياب هذه «الأبوّة»، وهو اختفاء كلّ مرجعيّة ثقافية عربيّة في شعرها، فنحن لا نصادف لديها إشارات أو رموزاً أو إيحاءات من الشعر العربي، لا قديمه ولا حديثه، خاصة وأنها كتبت في منتصف وأواخر القرن المنصرم، وكان تأثير الشعر العربي القديم ظاهراً على جميع الروّاد مهما اختلفوا وتباينوا، أما هي فظلّت بعيدة كل البعد عن هذا التأثير. هل يمكن تصوّر عبد الوهاب البيّاتي خارج سمرقند وعائشة؟ أو سعدي يوسف من دون أية إشارات إلى التراث؟
* * *
خصوصية نازك الملائكة لا تتوقف عند كونها بلا أبوّة شعريّة عربية، فقد شاء قَدَرُها الشعري أن يتكامل بشكل غريب، لأننا لا نجد لها أبناءً أيضاً، وقد «خلّفَ» جميع الروّاد الذين عاصروها أجيالاً من الشعراء والمريدين، وتركوا حولهم «نجوماً» و«كواكب» في طواف دائم، أمّا هي فظلّت بلا أبناء ولا مريدين ولا طوّافين ولا أقمار ولا توابع. هذه الصفة يمكن بسهولة التأكّد منها، سواء على المستوى الشعري أو الشخصي، فشعر الملائكة ظلّ مكتنزاً بصوره وأدائه وتناوله الخاص دون أن نقرأ يوماً لناقد معايش لها، أو من المحدثين، وهو يشير إلى تأثّر شاعر عربي بها. شخصيّاً لم أقرأ مثل هذا، وإذا كان ثمة من أشار إلى تأثّر بها من قبل شاعر أو أكثر فسيكون من المهمّ التعرّف إلى هذا النصّ والتأكد من وجود علاقة فعلاً، لأنني أكاد أن أجزم بأن شاعريّتها ظلّت عذراء ولم تنجب.
أما عن الجانب الشخصي فهذه بديهة، ولا يختلف اثنان في القول إن نازك الملائكة لم يكن لها مريدون ولا توابع ولا مؤيّدون يطوفون في فلكها، فهي بكل بساطة لم يكن لها شأن بهذا، لأنها ابتعدت عن الوسط الثقافي، وعاشت بين عملها كأستاذة جامعيّة وبين صومعتها القاهرية التي صارت في السنوات الأخيرة قبرها في الحياة.
بالطبع، السؤال الذي يقفز إلى الذهن هو: لماذا؟ وقد لا يتسع هذا البحث اليوم للخوض في أعماق هذه النقطة، لكننا نستطيع تلمّس شيء من الجواب في الجزء الأول من المقال عن غياب الأبوّة الشعرية العربية وعلاقتها باللغة اللاتينية ومرجعيتها الفلسفيّة في الموت وما إلى ذلك من غذاء روحي فكري ثقافي متأتٍّ من العالم الأجنبي... هذا كلّه جعل منها أرخبيلاً في محيط الشعر العربي الكبير.
عالم نازك الملائكة المتميّز هذا ظلّ بعيداً عن النقد العميق والتحليل النقدي الشافي إلى درجة أنه عندما يتناوله ناقد أو باحث عربي فإنه إما أن يبقى في هامشه دون أن يتمكن من الإيغال إلى أعماق روح نصها، وإما أن يتعرّض له بشكل في غاية السذاجة، وهذا ما حصل في البحث الذي قدّم به أ. د عبده بدوي الأعمال الشعرية الكاملة، فنحن في الوقت الذي نقرأ لديه اعترافاً بالخصوصيّة والتمايز لديها نجدهُ يفسّر ذلك بطريقة أقرب إلى الرجم بالغيب والإنشاء القصّخوني منه إلى النقد والتحليل المنهجي، وهي التي تستحقّ على الأقلّ في مقدّمة أعمالها الكاملة شيئاً من هذا: «كان كلّ شيء يساعد على أن تكون نازك الملائكة مميزة في عالم الشعر، فقد عاشت نفسيّاً في مناخ عربي كان الشعر أوضح ملامحه، فقديماً تنتمي إلى المناذرة الذين استقرّوا في إمارة الحيرة وكان في طليعتهم النعمان بن المنذر، وحديثاً نعرف أنها كانت وليدة ما يسمّيه ابن رشيق بالبيت الشعري، فقد كان جدّها لأمّها محمد حسن كبّة إماماً في الفقه في القرن التاسع عشر وأوضح الشعراء في هذا (ذلك) القرن، أمّا أمّها سليمة عبد الرزاق فهي صاحبة ديوان «أنشودة المجد» ووالدها صادق مدرّس النحو وله أرجوزة في ثلاثة آلاف بيت وصف فيها رحلته إلى إيران عام 1956...». هكذا! ثم يأتي ذكر الخال والمساجلات العائلية للشعر، وأنا أقرأ وأعيد القراءة ولا أصدّق ما ترى عيناي، وكيف أن هذا التقديم يشكل الصفحة الأولى في أعمالها الشعرية الكاملة، أهمّ وأكبر إصدار شعري نثري يمثّلها اليوم... النعمان بن المنذر والحيرة وابن رشيق إلى جانب الجدّ حسن كبّة في رسم صورة شعرية لنازك! كيف يمكن أن يحدث هذا، وهل يستحقّ مثل هذا العرض القصخوني التعامل معه كنقد؟
لا بالطبع، لكني أردت أن أختتم به لأؤكد كيف أن نازك الملائكة ظلّت مجهولةً، بعيدةً مثلما جاءت، بعيدة عن حاضرتنا الثقافية، لا نملك أية علاقة عميقة بها، إلاّ تأريخيّاً أو تعليميّاً كمادّة في تأريخ الأدب المعاصر.
ولدت نازك كنجمة وعاشت بعيدة كنجمة وستموت (شعريّاً) كنجمة، أي ستنفجر طويلاً بالضياء، وتلك حياة النجوم.