صبحي حديدي
(سوريا/باريس)

صبحي حديديقبل أيام طرح الصديق الشاعر اللبناني عباس بيضون سؤالاً لافتاً حقاً: هل من الممكن كتابة قصيدة عن الضاحية الجنوبية؟ وبعض تطويرات السؤال ذاته كانت تفيد التالي: هل من الممكن لأية قصيدة أن تغني دمار الضاحية؟ وكيف للشاعر أن يفتش هناك "عن عشبة في الشقوق، عن منديل وسجادة مهدبة، عن مسبحة وعصا مكسورة"، خصوصاً وأنّ "حساب الزلازل والانفجارات الكوكبية وهيجانات الطبيعة أمور لا مفردات لها"؟ و"هل يمكن لشاعر أن يقول شيئا عن مساحات مهدمة تحتاج إلى توبوغرافي، إلى فلكي، إلى مخطط مدن، إلى سينمائي، إلى كومبيوتر أكثر منها إلى شاعر"؟
لكنّ بيضون يصرف على الفور طرازاً من الشعر محدداً (يصفه هكذا: "سنقرأ بالطبع قوافي وأوزاناً لكن من ينتبه")، يعتبر ضمناً أنه لا يُحتسب في السؤال، إذْ كيف سيجد شعراء هذه القصيدة "قافية لأوذيسه الردم التي لا تنتهي، لتسونامي الردم وموجاتها المقلوبة على بعضها". ولعلّي أختلف معه تماماً في هذا التفصيل، وتحديداً بصدد الذين سينتبهون إلى قصيدة كهذه (إذْ أرى على العكس أنهم كثر، بل هم الأغلبية!) من جانب أوّل؛ وبصدد نطاق الإمكان في مستوى موضوعة رثاء الممالك والوقوف على الأطلال تحديداً، من جانب آخر، وهو نطاق قد يتسع وينفرج وينفتح على نحو لا يُقارن البتة بما قد يتوفّر لأيّ شعر آخر.

في صياغة ثانية للفكرة ذاتها، أكاد أجزم شخصياً أنّ شاعراً متمرساً في كتابة قصيدة العمود (ولأضرب ثلاثة أمثلة على الفور: محمد مهدي الجواهري، مصطفى جمال الدين، سعيد عقل)، عالي الفصاحة، معلّماً في البلاغة، قابضاً على أسرار الكيمياء المباشرة بين الشعر والخطابة... لن يكتب قصيدة عمودية ممتازة عن الضاحية ـ خراباً وطللاً ورمزاً على حدّ سواء ـ فحسب، بل الأرجح أنّ تلك القصيدة سوف تستقرّ دون إبطاء في السجلّ الذهبي لأمهات القصائد العربية. ولكي لا تحتمل خلاصتي هذه أيّ التباس حول موقفي الشخصي من هكذا قصيدة، أقرّ على الفور أنني أغلب الظنّ سأدرجها في خانة الشعر العظيم، ولعلّي سأحفظ الكثير من أبياتها عن ظهر قلب أيضاً.
ليست هذه، مع ذلك، هي الروحية الجوهرية في السؤال كما أقرأه شخصياً، بل هي إشكالية معقدة ـ واضحة، في آن، تختصرها هذه الفقرة من مقالة بيضون: "العيون التي فتحتها الصواريخ في المباني ستبقى لفترات طويلة ذات نظرة رهيبة لن يستطيع الشعراء مقابلتها. لن يعرفوا ماذا يفعلون بضلع إسمنتي مكسور. كيف يرون جناحاً باطونياً هاوياً. كيف يتأملون تلك المجلدات الحجرية النائمة على بعضها بعضاً. سيخافون أكثر من هذه الديناصورات المعمارية التي اختفت بدون صراخ".

نتذكر هنا ذلك السجال الكبير، والخطير، الذي دشّنه الفيلسوف الألماني اليهودي تيودور أدورنو ذات يوم، حين أطلق عبارته الرهيبة "كتابة الشعر بعد أوشفتز أمر بربري"، حول ما إذا كان الشرّ المطلق يفرض قيوداً على الفنّ المسلّح بالوجدان، أو المتكئ على الضمير. كأنّ بيضون يعيد تخفيف حدّة ذلك السجال، دون أن يخرجه عن إطار الإمكانية الأخلاقية، ولكن بعد أن يزجّه في الإمكانية الجمالية والتعبيرية، وفي سؤال الشكل والمحتوى بمعنى آخر. كأنه يقول إنّ القصيدة ذات الأوزان والقوافي قد تتدبر أمرها في وصف الضاحية، كيفما اتفق، غير أنها لن تكون القصيدة التي تبحث وسط الركام "عن عشبة بين الشقوق، عن دمية، عن مسبحة، عن عباءة، عن مكحلة، عن أدوات زينة".
وإذْ أسجّل اختلافي هنا أيضاً مع بيضون، وعلى نحو جوهري كما يتوجب أن أشدّد، أجد أنّ يقينه هذا جدير بمساءلة إضافية إذْ يصدر عن الشاعر صاحب "صور"، تلك القصيدة الملحمية الفذّة الفريدة التي تقودني شخصياً إلى هذا اليقين المضادّ: الذي كتب "صور" قادر تماماً على كتابة قصيدة عظيمة عن الضاحية الجنوبية، وهو ليس جديراً بتلك الكتابة فحسب، بل هي واجب ملقى على عاتقه... ملقى، على نحو منتظَر إبداعياً ومشرّف أخلاقياً، ولا فكاك منه!
وهذا يقين ليس مضاداً إلا بمعنى أنه يؤمن بما توفّره مناخات المقاومة من محرّضات ارتقاء للفنّ إجمالاً، وللشعر بصفة خاصة، فضلاً بالطبع عن سلسلة العوامل التي تجعل السلوك المقاوم طبيعة ثانية تحريرية، بصرف النظر عن معطيات الصراع وتلوينات العقائد وخرائط الاصطفاف. وكما يعلن أنصار "حزب الله" اليوم أنهم يقاتلون باسم لبنان كله، بل باسم الأمة جمعاء كما أوضح الأمين العام الشيخ حسن نصر الله (وهذا مزاج "علماني" على نحو ما، في المحصلة الجدلية)، ثمة مثقفون في الصفّ الشيعي ذاته يأخذون على بعض قيادات الحزب سعيها إلى مساندة فتاوى المشايخ التي تصادر حرّية التعبير وتكمّ الأفواه، أو تحيل الضاحية والجنوب والجغرافية الشيعية بأسرها إلى مجرّد حسينيات تدين بمبدأ "ولاية الفقيه" ومرجعية آية الله على خامنئي (وهذا نقيض أيّ حدّ أدنى من الديمقراطية ومبدأ فصل الدين عن الدولة).

وإذا لم تكن روحية المقاومة الجدلية هذه، التي تمسّ معيش البشر اليوميّ وأفكارهم وميولهم وعقائدهم، قادرة على تخليق قصيدة فذّة عن مشهدية مقاومة فذّة، هي الضاحية الجنوبية، فكيف سوى هذا يولد أيّ شعر عظيم؟ وكيف لا نطلب تلك القصيدة من شاعر "صور" بالذات... قبل سواه؟