صبحي حديدي
(سوريا/باريس)

ثروت عكاشةأخيراً، حصل الناقد والمترجم والمؤرّخ المصري الكبير الدكتور ثروت عكاشة على جائزة سلطان بن علي العويس للإنجاز العلمي والثقافي، "تقديرا لجهوده في خدمة الثقافة أكثر من نصف قرن وفي عدّة مواقع" كما صرّح عبد الحميد أحمد الأمين العام للجائزة. ومفردة "أخيراً" هذه نابعة من سببين: أنّ مجلس أمناء العويس عقد "سلسلة اجتماعات مطوّلة" خلال الأشهر الثلاثة الماضية لاختيار الفائز من بين 84 شخصية ومؤسسة علمية وأدبية وثقافية مرشحة؛ وأنّه آن الأوان لهذه الجائزة تحديداً، أن تذهب إلى هذا الرجل تحديداً.

وأعترف أنني كنت أخشى أن يغادرنا العلم الكبير (85 سنة، مدّ الله في عمره) قبل أن يحصل على هذه الجائزة بالذات. وأرجو أنني لا أذيع سرّاً، الآن وقد نال عكاشة الجائزة، حين أسجّل أنني (منذ الدورة السادسة لجوائز العويس 1998ـ1999، حين تشرّفت بعضوية لجنة التحكيم) طالبت بمنحها للدكتور عكاشة، وكان حينذاك مرشحاً لجائزة الدراسات الأدبية والنقد. وأسمح لنفسي، راجياً معذرة القارىء، أن أقتبس النصّ التالي من تقريري: "الدكتور ثروت عكاشة محارب ثقافي قديم، وأستاذ كبير. إنه رائد في النقد الفنّي وتاريخ الفنون، وفي تحقيق وترجمة أمّهات الكتب. ومع التقدير الكبير لشخصه ولإنجازاته الثقافية، ورغم أنّ ممارسة النقد الفنّي تدخل في صلب عملية نقد الإبداع الإنساني، فإنني أجد أنّ مكان الدكتور ثروت عكاشة الطبيعي ليس الجائزة المخصصة للدراسات الأدبية والنقد. إنه، بالأحرى، جدير بالترشيح لجائزة الإنجاز الثقافي والعلمي عن كامل أعماله وإسهاماته والخدمات الجليلة التي قدّمها للحياة الثقافية العربية".

ولعلّ من واجب المرء، بادئ ذي بدء، أن يتذكّر حقيقة تخصّ هذا الرجل الكبير، مركزية وأساسية وفارقة ونادرة تماماً في تقديري: أنه بدأ حياته المهنية ضابطاً عسكرياً، بل كان في عداد الضبّاط الذين صنعوا ثورة 23 تموز (يوليو) 1952 في مصر، ولكنه جمع بين الجيش والثقافة (خرّيج الكلية الحربية، وكلية الآداب ـ جامعة فؤاد الأوّل 1951، والدكتوراه في الآداب ـ جامعة السوربون 1960). والأرجح أنّ العالم العربي لم يشهد ضابطاً مثله أسدى إلى ثقافة بلده خدمات كبرى تأسيسية وحاسمة، سواء من موقعه الرسمي في وزارة الثقافة المصرية (سنوات 1958 ـ 1962)، أو في عمله الفرديّ المستقلّ تأليفاً وتأريخاً وتحقيقاً وترجمة.

وقد يختلف المرء أو يتفق مع هذا أو ذاك من مواقفه وأفعاله خلال فترة حكم الضباط الأحرار، أو انحيازاته اللاحقة حين بدا مراجعاً لنفسه (وهذا حقّه الطبيعي) بصدد شخص جمال عبد الناصر والناصرية إجمالاً، كما في مقالته الشهيرة التي نشرها قبل سنتين في صحيفة "الوفد" المصرية تحت عنوان "أحمدأبوالفتح: تصحيح لوقائع تاريخية". وقد يقبل المرء أو يرفض طبيعة الدور الذي لعبه في تنظيم الإتصالات السرّية بين عبد الناصر وناحوم غولدمان، أثناء عمله ملحقاً عسكرياً في باريس أواسط الخمسينيات. لكنّ المرء لا يملك إلا أن ينحني لهذا الضابط الذي لم يرعَ الثقافة فحسب، بل دافع عنها وعن أهلها، وحارب فرض الرقابة عليها، أمام أعلى سلطة سياسية وأمنية وعسكرية في مصر: عبد الناصر شخصياً. ويروي نجيب محفوظ أنّ أحدهم (ولكنه لم يكن محمد حسنين هيكل، كما يسارع محفوظ إلى التنويه) تبرّع بإخبار عبد الناصر أنّ رواية "ثرثرة فوق النيل" تنال من ثورة 23 يوليو. وهكذا سارع عبد الناصر إلى سؤال عكاشة، ولكن بنبرة غاضبة تماماً، عن حقيقة ما ترمز إليه رواية محفوظ، فردّ الأخير: "يا سيادة الرئيس، أصارحك بأنه إذا لم يحصل الفنّ على هذا القدر من الحرية، فلن يكون فناً" حسبما يروي محفوظ نفسه، الذي يسجّل أنّ عبد الناصر علّق بالقول: "وهو كذلك، إعتبر الأمر منتهياً".

وثمة، بالطبع، مَن يأخذ على عكاشة أنه لم يكن منضبطاً تماماً في ما ينقل عن مراجع أجنبية، ولم يكن يراعي التقاليد العلمية والأكاديمية في إسناد معلوماته، حتى أنّ البعض اتهمه بالسرقة، خصوصاً في موسوعته الضخمة الفريدة "تاريخ الفنون في العالم"، والتي تغطّي الفنون القديمة المصرية والعراقية والإغريقية والفارسية والتركية والرومانية والبيزنطية والإسلامية والمغولية والهندية، وفنون عصر النهضة والعصور الوسطى والعمارة الإسلامية. ولكن كيف يمكن لهذه المآخذ أن تطمس حجم الإنجازات الكبرى في ميادين عامة عديدة، بينها مثلاً: إطلاق القطاع العام في السينما المصرية، الذي ندين لسنواته الذهبية بعشرات الأعمال الخالدة؛ وإنقاذ آثار النوبة ومعبد أبو سمبل ومعبد فيله، عند إنشاء السدّ العالي؛ وإنشاء قصور الثقافة، ومتحف محمود مختار، ومتحف مراكب الشمس؛ وتأسيس فرقة الموسيقى العربية في دار الأوبرا المصرية، والفرقة القومية للفنون الشعبية، والسيرك القومي، وفرقة باليه أوبرا القاهرة؟ ومن نافل القول إنّ هذه جميعها لم تكن إنجازات مصرية محلية فحسب، بل اكتسبت على الفور طابعاً عربياً وإنسانياً. أمّا في المنجز الشخصي فإنّ تثمين أعماله ليس فيه زيادة لمستزيد: هي ثروة متكاملة ثرّة، من موسوعة الفنون الكونية، إلى ترجمات جبران خليل جبران و"مسخ الكائنات" و"فنّ الهوى"، وصولاً إلى "المعجم الموسوعي للمصطلحات الثقافية".

ونحن، غنيّ عن القول، لا نفتقد مثال ثروت عكاشة في صفوف وزراء الثقافة العرب المعاصرين فحسب، بل للأسف لا نبصر سوى نقيض الرجل، حيث عسكرتاريا الآداب واستخبارات الثقافة!

القدس العربي