صبحي حديدي
(سوريا/باريس)

صبحي حديدي"مدى آخر" مجلة فكرية ثقافية نصف سنوية، تصدر في حيفا الفلسطينية عن "مدى الكرمل ـ المركز العربي للدراسات الاجتماعية والتطبيقية". وعددها الأوّل صدر في تشرين الأول (أكتوبر) العام الماضي، ولكنه للأسف لم يصلني إلا قبل أيام وهذا هو السبب في أنني أكتب عنه متأخراً ثلاثة أشهر. لا بدّ من الكتابة عن هذه الدورية، رغم حكاية التأخير، ليس لأنها متميّزة بمعايير فكرية وموضوعاتية وخطابية ولغوية عديدة فحسب، بل أيضاً لأنها تشكل قفزة نوعية في سوية ما يصدره أهلنا هناك من أدبيات، وليس في سوية ما يكتبون بالطبع: محتويات العدد الأوّل من المجلة تبرهن، من جديد، على رقيّ هذا النوع من الكتابة الفكرية التطبيقية والنظرية متعددة الأنظمة والمناهج والحقول، على نحو يفوق بكثير ما نقرأه في معظم مراكز البحث والدراسات والمنشورات الأكاديمية في البلدان العربية.
و"مدى الكرمل"، كما يعرّف عن نفسه، معهد بحثي مستقلّ وغير ربحي، تأسس عام 2000 في مدينة حيفا، و"يهتم بالتنمية البشرية والقومية في المجتمع"، كما "يولي أهمية خاصة للاحتياجات الاجتماعية والتربوية والاقتصادية للفلسطينيين في البلاد، إضافة إلى اهتمامه بالهوية القومية وبالمواطنة الديمقراطية". ليست هذه الأهداف أكاديمية تقليدية صرفة، إذاً، ومن الواضح أنها تنهض على روحية الخوض في المشكلات العميقة الفعلية، الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والنفسية والمدنية، للفلسطينيين تحديداً. وغنيّ عن القول إنّ خيارات كهذه تفضي إلى السير في دروب وعرة، حيث المشاقّ لا تعدّ ولا تحصى، وحيث لا يغيب سوء الفهم وسوء التفاهم عن الصعوبات العملية الكثيرة.
موضوعات المجلة لا تحيد عن تلك الدروب إجمالاً، وتميل إلى النطاق النظري أو التنظيري في ميادين شتى أنثروبولوجية وسوسيولوجية ومعمارية ونفسية وثقافية وأدبية، دون أن تغيب المقاربات التطبيقية بالطبع، هنا وهناك وحيثما اقتضت خطوط التحليل. ولعلّ أكثر ما شدّني شخصياً، وكان مدعاة إعجاب وعجب في آن، أنّ كتّاب المجلة يعطون الإنطباع القويّ بأنهم دخلوا جماعياً في حال من التعاقد (غير المدوّن على الأرجح!) حول تلك السوية الراقية إياها: في البحث والتحليل والتطبيق والتمثيل والتدليل من جهة، وفي الخطاب واللغة والنبرة وأسلوبيات التعبير من جهة ثانية، فضلاً عن الثراء الجليّ ـ بل والصارخ مراراً ـ في المعجم والمفردات والنحت والإشتقاق من جهة ثالثة.
والعجالة هنا لا تسمح بما هو أكثر من استعراض موادّ العدد الأوّل، دون الخوض في تفاصيلها أو التحاور معها. إسماعيل الناشف يوقّع دراسة بعنوان "معمارية الفقدان: مقاربة حول الغياب والحضور"، حيث تكون ثلاث دوائر من عمر القرية الفلسطينية (قبل 1948، بعد 1967، ومزيج هاتين الفترتين) هي ميدان الشدّ والجذب بين "السياسيّ كلعبة قوى، والثقافيّ كمنظومة لإنتاج المعنى". مرزوق الحلبي، في دراسته المعنونة "سياحة نفسية: المقهور الذي خُيّل إليه أنه قاهر"، يتناول جملة الأسئلة التي تجابه الفلسطيني من إسرائيل عند سفره في سياحة إلى الأردن: الهوية، الوجود، جواز السفر، الفعل السياحي، المقارنات، وما إليها. الطيّب غنايم يوقع دراسة بعنوان "ناطحات لغات (أو) في شؤون القلم وصناعة الكَلَم"، حول اللغة هويةً، ومستويات ومظاهر التفاعل في مختلف حقول اللغة، وكيف تكون لها ارتباطات مباشرة في "بلورة ناتج الهوية الثقافية".
في الفكر السياسي والسياسة تكتب لينا ميعاري عن "الخطاب القومي والدولة العربية الحديثة من منظور النوع الاجتماعي"، وبالمصطلح الأخير تقصد "موقع النساء ومواطنتهنّ ضمن مشاريع بناء دول ما بعد الإستعمار في العالم العربي". وتحت عنوان "حديث عن القوة والضعف وعن التداخل والتواصل"، يكتب رائف زريق عن القيادات السياسية الفلسطينية في داخل إسرائيل، وفي الكنيست بصفة خاصة. كما يعيد التحرير نشر دراسة مترجمة للمفكر الفرنسي الراحل بيير بورديو، بعنوان "التفويض والصنمية السياسية"، من كتابه "بعبارة أخرى" الذي صدر عن دار نشر ميريت ـ القاهرة. أمل جمّال تراجع كتاب يهودا شنهاب "اليهود العرب: قومية، دين، وإثنية" الصادر بالعبرية، فتستخلص أنه كتاب "يبعث على الحزن" لأنه "يثبت نجاح حركة قومية بفرض مسلماتها وبلورة وعي جمهور كبير، عبر تزويده بالمخاوف والدسائس، التي تبرر لدى هذا الجمهور عملية التنكّر للذات".
وأخيراً، في الأدب، تكتب هدى حلمي أبو مخ عن "النصّ كمنهجية إقصاء: الأدب العبري نموذجاً"، فتستعرض غياب النصّ الأدبي من خلال تغييب الهامش العربي الفلسطيني عن المركز العبري النخبوي، فضلاً عن مصير الفشل الذي يخيّم على محاولات الكاتب العربي "دخول المعبد المقدّس العبري" عن طريق الكتابة (ونموذجها الأبرز أنطون شماس بالطبع). هنيدة غانم توقّع دراسة بعنوان "العيش على قمة البركان: تمثّلات الزمان والمكان في نماذج من شعر النكبة"، تدشّنه باقتباس من قصيدة محمود درويش "زيتونتان": "كلّ الملائكة الذي أحبّهم/ أخذوا الربيع من المكان/ صباح أمس/ وأورثوني قمة البركان". وإلى جانب هذا المستوى من المعنى، توضح غانم أنها أيضاً تحيل مفردة "البركان" إلى الفيلسوف والناقد الألماني والتر بنيامين، الذي اعتبر أنّ العيش في ظلّ حالة طوارئ دائمة "لا يشكّل بالنسبة للمقموع حالة اجتماعية شاذة، بل سواد حياته الأعظم".
مجلة "مدى آخر" خبر بهيج من فلسطين، حيث درجنا أن تكون الأخبار من هناك محزنة قاتمة مستفزة.