في موقع وزارة الثقافة الأردنية على الإنترنيت، وضمن باب خاص اسمه "أدب المرأة"، تحصي ثريا كرم صالح 87 شاعرة و60 قاصة و32 روائية، كلهنّ أصدرن مؤلفات تتراوح بين كتاب واحد و16 (هذا الرقم القياسي يذهب إلى الشاعرة أمينة العدوان)، وأبكر الإصدارات تعود إلى مطالع الخمسينيات. هذه أرقام لا يستهان بها، من حيث الكمّ بادئ ذي بدء، ثمّ من حيث السويّة والنوعية والنضج. ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أنّ بعض الأسماء راسخ مكين ليس في تاريخ الإبداع الأردني (والأردنيّ ـ الفلسطينيّ كما يتوجّب التنويه) فحسب، بل على صعيد الإبداع العربيّ إجمالاً، كما في مثال الدور الرائد الذي لعبته قصيدة ثريا ملحس في إطلاق أحد أنضج النماذج النسائية في قصيدة النثر العربية.
ورغم أنّ عدد الشاعرات يظلّ مدهشاً بالقياس إلى ما نعرف في أقطار عربية أخرى لا تُقارن مع الأردن من حيث عدد السكان والتاريخ الثقافي والإبداعيّ، فإنّ ما يدهشني شخصياً هو عدد كاتبات القصّة القصيرة. ومنذ أن قرأت أوّل نموذج من هذه القصة القصيرة، وكانت – لحسن الحظّ حتماً – بتوقيع الرائدة السبعينية هند أبو الشعر، وأنا لا أكفّ عن طرح عدد من الأسئلة، النقدية والجمالية والمنهجية، ولكن السوسيولوجية أيضاً، حول هذه الظاهرة: ما الذي يجعل هذا النوع الكتابيّ الفريد والمنفرد، الآخذ في الإنحسار والإنكماش كما يتوجب أن نعترف، متطوراً إلى هذا الحدّ في الأردن، وناضجاً على هذا النحو، مزدهراً في الكمّ والنوع؟ وإذا صحّ أنّ الخلاصة هذه تنطبق على مشهد القصة القصيرة الإجمالي في الأردن، أي كما يكتبه الرجال والنساء على حدّ سواء، فلماذا تبدو حصة المرأة في صناعة هذا المشهد وكأنها أكثر من مجرّد "قسط" طبيعي؟ ولماذا يلوح، أيضاً، وكأنها "بصمة" وعلامة فارقة، خصوصاً إذا جاز القول إنّ القصة القصيرة التي يكتبها الرجال تندرج بهذا القدر أو ذاك في التيارات الأعرض للقصة القصيرة العربية، ولا تميل إلى عكس انفرادات أسلوبية أو جمالية كبرى، ما خلا خصوصية الموضوعات المحلية بالطبع؟
وحتى تتاح، لسواي أو لي شخصياً، فرصة الانكباب المعمّق على تفصّي ودراسة الأسباب الجمالية، المثيرة تماماً في تقديري، أقول مبدئياً إنني أقبل تفسيراً سوسيولوجياً يفيد التالي، باختصار شديد يفرضه المقام: لعلّ ضيق رقعة المناطق الريفية في الأردن، وربما غياب أو شبه غياب الريف الزراعي الحقيقي بمعنى علاقات وقوى الإنتاج، وبالقياس إلى المناخات الكلاسيكية التاريخية والجغرافية والإجتماعية والثقافية التي نعرفها في مصر والعراق والمغرب وسورية على سبيل الأمثلة، يفسّر ازدهار القصة القصيرة بوصفها جنساً كتابياً مدينياً بامتياز. وإذا كان هذا البُعد السوسيولوجي يسري على الرجل مثل المرأة، فإنه في ما يخصّ الكاتبة المرأة أكثر اكتنازاً بالدلالات والبواعث والقِيَم التعبيرية، لأسباب عديدة ذات صلة بموقع المرأة في المجتمع، وحقوقها المنتقَصة، وحرّياتها المنتهَكة.
وفي الشطر الإبداعي من هذا البُعد الذي يخصّ علم اجتماع المرأة الكاتبة، من نافل القول إنّ الكتابة إجمالاً هي فعل انعتاق، بامتياز، وعلى النحو العلني الأكثر جسارة وجدوى وخطورة ربما. لكنّ مستويات ـ بل وشدّة أو نطاق أو موضوعات ـ تجسيد فعل الانعتاق هذا في الأدب، تختلف بين نوع أدبي مثل الشعر (أخذ ينأى، عموماً، عن ملامسة الاجتماع الإنساني مقابل المزيد من الغوص في الذات والشعور)، وآخر مثل السرد الروائي (الذي يندر أن يتحرّر من المشهد العريض والاجتماع الزاخر و"كابوس التاريخ" في تعبير جيمس جويس)، وثالث أكثر مشقة ومرونة ومثوبة في آن، هو القصة القصيرة (حيث اللقطة الخاطفة، حين تلتمع ومضة النفس في فضاء اجتماعي صغير منتقى، لكنه كثيف مركّز مركّب)...
وقبل سنوات طرحتُ بعض هذه الأسئلة على الصديق الروائي والقاصّ الأردني الياس فركوح، فوجدت عنده الكثير من الإجابات، و... الكثير من الأسئلة الأخرى أيضاً! ولأنني كنت أزوره في مكتبه الأنيق، وهو الفنّان، حيث دار النشر "أزمنة" في عمّان، فإنّ حسّ الناشر الجادّ توحّد عنده مع شغف الأديب والناقد، فبادرني على الفور: ما رأيك في كتاب عن هذا الموضوع بالذات، أي المرأة والقصة القصيرة في الأردن؟ وبالطبع، أجبته دون تردّد: موضوع مثير، جديد، وفاتن... توكّل على الله! لكن الياس لم يكن ينوي توريط نفسه في هذا المشروع، بل توريطي أنا، فردّ عليّ ضاحكاً: بل أنت الذي سيتوكّل على الله! وأعترفُ أنه أقنعني، وأثار حماسي، قبل أن يستجمع على عجل كلّ ما في منشورات الدار من مجموعات قصصية نسائية، ويبدأ معي في استعراض الأسماء... على الورق!
وأياً كان حجم ما أنجزتُه في سياق ذلك المشروع، من كتابة وتخطيطات وتقميش واستبيانات، فإنّ المادّة ظلّت حبيسة الكومبيوتر بعد أن أزاحتها جانباً انشغالات أخرى ذات طابع آنيّ أكثر إلحاحاً. واليوم، إذْ تقودني مصادفة عابرة إلى موقع وزارة الثقافة الأردنية وببليوغرافيا أدب المرأة، أدرك أكثر من ذي قبل أنّ الياس فركوح كان على حقّ آنذاك، وهو اليوم على حقّ أيضاً؛ وأنّني ـ كعادتي في الانحياز للدراسة المنفردة أكثر من حماسي لتأليف كتاب ـ كنت، من جديد، أرتكب الخطأ ذاته!