في الولايات المتحدة بصفة خاصة، وكذلك في إسبانيا وأمكنة أخرى من العالم، ينهمك عشّاق الرقص التعبيري، أسوة بمحترفي ونقّاد ومؤرّخي الفنون الكوريوغرافية والكورالية، في إحياء مناسبة خاصة قد لا تبدو للوهلة الأولى وكأنها تستحقّ الاحتفال أساساً: الذكرى السبعون للعرض الأوّل لـ "أزمان" Chronicle، العمل الحاسم الرفيع والاستثنائي الذي قدّمته الراقصة الأمريكية الأشهر مارتا غراهام (1894 ـ 1991) سنة 1936. إنهم، إذاً، لا يحتفلون بأية مناسبة محددة تخصّ حياة أو ممات الفنّانة الكبيرة ذاتها كما درجت العادة، خصوصاً وأنّ غراهام دخلت لائحة مجلة "تايم" الأمريكية للشخصيات الـ 100 الأكثر تأثيراً في القرن العشرين ـ بوصفها راقصة القرن ـ بل يتوقفون ببساطة عند عمل واحد محدّد.
... لأسباب ليست غير وجيهة أبداً، في الواقع. ذلك لأنّ العمل ذاك طوى صفحة قديمة وفتح أخرى جديدة تماماً في تاريخ الرقص التعبيري، وفي موضوعاته وأساليبه وموسيقاه وديكوراته وخشبته المسرحية. كما كرّس فنّ غراهام مرّة وإلى الأبد، ضمن خصوصية لم تكن مجرّدة من دلالات ثقافية ـ سياسية كبرى: أنّ العمل يتحدّث عن وقائع الإمبريالية وأزمنتها وأزماتها وحروبها، ولا ينحصر داخل الجغرافيا الأمريكية وحدها (انهيار بورصة "وول ستريت" والركود الكبير)، بل يقتفي دروب الإمبريالية إلى حيث تنتهي في الحرب الأهلية الإسبانية. وعلى امتداد ثلاثة أجزاء مشحونة كثيفة زاخرة، اعتمدت غراهام على موسيقى ولنغفورد ريغر وأداء راقصات نساء حصراً، لترسم لأزمنة الإمبريالية صورة لازمنية عملياً، وملموسة واقعية راهنة، وعريضة واسعة شاملة في آن معاً.
جدّها لأبيها مهاجر إرلندي تسري في عروقه دماء سوداء، وهذه الأصول المختلطة أكسبت الصغيرة مارتا عشرات الحكايات والأخيلة والأساطير التي كان من المحال أن تستجمعها من أيّ مصدر أمريكي. والدها الطبيب لم يكن متحمساً للرقص، لكنه أعطاها فيه درساً مبكراً بليغاً للغاية، سوف يلازمها طويلاً: "لا تكذبي عليّ يا مارتا، لأنّ حركة الجسد لا تكذب أبداً. حين أتطلع إلى جسدك، أعرف أنك تكذبين"! لكنها، في ربيع 1926، برهنت أنّ هذا الجسد لا يكذب ربما، لكنه يستطيع أن "يتكاذب" أدائياً وتعبيرياً إلى مدى لا حدود له، وذلك في عمل كانت فيه الراقصة الوحيدة، وتضمّن 18 رقصة لمقطوعات من فرانك وشومان وشوبيرت وبراهمز وديبوسي وسكريابين ورافيل ورحمانينوف ومانويل دي فالا. ولقد كتبت في دليل العرض: "المرأة تجوب شوارع غرناطة، لترتطم بأجنحة الظلمة. إنها، مثل فراشة بيضاء، تبحث عن الضوء".
وبين سنوات 1926 و1934 نفّذت غراهام سلسلة رقصات حول موضوعات تراجيدية وكوميدية، واستخدمت قصائد الموت التي خلّفتها الحرب العالمية الأولى، وعالجت موضوعات كونية مثل الجدب والخصوبة والنشوة والموت. وفي أداء منفرد آخر أسمته "المراثي"، وضعت غراهام المشاهدين وجهاً لوجه أمام عبقرية الجسد البشري في استيلاد نسق إثر نسق من حلقات حزن رمزي وحركي وبصري لم يسبق له مثيل في تاريخ الرقص التعبيري. وأمّا هي فقد رقصت ملفوفة في أنبوب طويل من قماش ورديّ مطاط، وبرهنت منذ ذلك الوقت المبكر على براعة استثنائية في تحويل الزيّ المسرحي إلى استعارة شعرية.
وتوالت عروضها بعد ذلك: "تسبيحتان بدائيتان"، "أسرار بدائية" في ثلاثة أجزاء، "درب الآلام"، :أناشيد للولادة"، "ترنيمة للضوء"، "هرطقة"، و"أنساق تراجيدية: رقصات كورالية من أجل مأساة إغريقية عتيقة". وفي كلّ هذه الأعمال تجلّت نوبات المخيّلة المتطرفة والنزق المتحرر من القيود، وترددت لغة مشحونة بالتاريخ وحسّ التاريخ، وبالشكل وإيقاعات الفعل الشعائري. وعلى خشبة المسرح كانت الطقوس تتلاطم وتشتبك وتتآلف، ومعها تتزاحم الأضداد: الخطيئة وكبحها، الحاجة إلى غبطة مطلقة أو نشوة حسّية، روحانية كثيفة وشهوانية في أوجها، ثمّ المرأة حين يتوتر وجودها وسط تجاذبات الأمّ والحبيبة والبتول والإمبراطورة والربّة والخاطئة...
ازدحام المؤثرات كان على أشدّه أيضاً: فلسفة الـ "زن" البوذية، فلسفات الهند، كتابات كارل يونغ وأتباعه، الشعر القديم والحديث من سافو وتراث الـ "هايكو" إلى ت. س. إليوت وتوماس كرين وسان ـ جون بيرس، مسرح التراجيديا الإغريقي، فنون العالم العربي (رقص السماح والدبكات خصوصاً)، الفنون الدرامية اليابانية، وعوالم الأسطورة والفولكلور والخرافة الشعبية. غير أنّ مفهومها عن الدراما ووظيفة المسرح ظلّ إغريقياً من حيث الجوهر: يجب على العمل المسرحي أن يسلّي ويمتع، ولكن يجب أيضاً أن تكون له قيمة تطهيرية وروحية وجمالية، وينبغي أن يلامس النفس في أكثر ضروراتها حساسية، وأن يضيء البقع الداكنة، ويحرّك الكمون الشعائري.
ولقد اعتزلت وهي في سنّ السادسة والسبعين، في أوج مجدها، تردّد (كما قالت في آخر حوار صحفي) سطوراً من قصيدة ديلان توماس الخالدة: "لا تكنْ عطوفاً على ظلام الليل مهما كان ندياً/ وأعلن ثورتك.../ أعلن أنك تأبى موت الضياء"! ذلك لأنها، كما كررت مراراً، كانت ترقص لإعلان احتجاجها على الظلمة، وكان الجسد هو أداتها في التذكير بموت الضياء، وبولادته الوشيكة. "أنا امرأة ضعيفة هزيلة"، قالت في نهايات حياتها الحافلة، ثمّ أضافت: "لكنّ قوتي تكمن في رغبة دائمة بالتحديق في الوجود وملاقاة المعنى كما تحفزه الحركة على أخاديد الوجه. على المسرح كنت أطلب رفع الضوء عالياً لكي تندحر حلقات الظلام التي فيها يتخفى الالتباس وتضعف الضرورة. كلّما ازداد الضوء انغسل المعنى من الأوشاب"!