صبحي حديدي
(سوريا/باريس)

صبحي حديديمَنْ يتذكّر ألكسندر إيساييفتش سولجنتسين؟
نعم، سولجنتسين دون سواه: الروائي الروسي (السوفييتي، سابقاً)، الذي تربّع ذات يوم على عرش «الرمز الأعظم» للنضال من أجل حرية التعبير في الإتحاد السوفييتي وسائر بلدان المعسكر الاشتراكي خاصة، وعلى امتداد العوالم الثانية والثالثة أو كلّ ما هو خارج جغرافية «العالم الحرّ» بصفة عامّة مطلقة. سولجنتسين، الحائز على جائزة نوبل للآداب سنة 1970، إثر وبتأثير صدور الترجمة الإنكليزية لروايته الأولى «يوم في حياة إيفان دنيسوفيتش»، التي كانت قد صدرت بالروسية أوّلاً، في موسكو، وبقرار شخصي من نيكيتا خروتشوف... مَن يتذكّره اليوم، ولماذا؟
ليس مهماً أن نتذكره لأنه، في كلّ حال، لا يكفّ عن تذكيرنا بنفسه كلما راكمت الأعوام غبار النسيان على اسمه، خصوصاً بعد عودته المشهودة سنة 1994 إلى "روسيا الجديدة" كما سارت تسمية تلك الأيام: روسيا بوريس يلتسين، والاقتصاد الحرّ، والمافيا، وانكسار الوجدان القوميّ القيصري. وقبل أيام نقلت أسبوعية "أخبار موسكو" الروسية تصريحات مدوية للرجل (هو اليوم في السابعة والثمانين) يقول فيها إنّ الولايات المتحدة ودول الحلف الأطلسي تسعى إلى تطويق روسيا وحرمانها من سيادتها، ليس عن طريق الحشد العسكري جنوب البلاد وشرق أوروبا فحسب، بل كذلك بمساندة "الثورات الملوّنة"، في إشارة إلى أوكرانيا البرتقالية وجورجيا الوردية. وبعد امتداح الرئيس الروسي الحالي فلاديمير بوتين لأنه يجهد لإحياء "روح روسيا"، شنّ سولجنتسين هجوماً عنيفاً على الزعيم السوفييتي الإصلاحي ميخائيل غورباتشيف لأنه استسلم للغرب، وعلى الرئيس الروسي السابق بوريس يلتسين لأنه واصل الاستسلام ذاته وترأس عمليات النهب الهائلة لموارد البلاد وهبط بها إلى هاوية الفوضى.
كلمة حقّ يُراد بها باطل، لأنها ببساطة تصدر عن انتهازي سابق ومنافق لاحق وديماغوجي قوموي راهن، صعد ذات مرّة على يد الغرب ذاته الذي ينتقده اليوم، ليس بسبب عبقرية أدبية أو سجلّ كفاحي متميّز من أجل الحرّية، بل لاعتبارات تخصّ المعارك الصغيرة التي اكتنفت عقود الحرب الباردة. وحين عاد إلى روسيا بعد أكثر من عقدين في المنفى، معزّزاً مكرّماً مدللاً والحقّ يقال، كان من الطبيعي أن يقترن وصوله بصدور الطبعة الروسية من روايته الشهيرة «أرخبيل الغولاغ»، فتخاطفتها الأيدي وباعت ملايين النسخ. وحين أصدر كتابه التالي «روسيا المنهارة»، لم تتخاطف الأيدي أكثر من ثلث الطبعة، التي كانت خمسة آلاف نسخة أصلاً، في بلد شاسع واسع اعتاد القرّاء فيه على استهلاك الكتب بالملايين وليس بالآلاف.
ما الذي حدث لبطل الحرية هذا، في بلده الأمّ روسيا؟ ثمّ ما الذي حدث له في «العالم الحرّ» الذي احتضنه وروّج لكتاباته كما يروّج لأناجيل مقدّسة في هجاء الاستبداد وامتداح الحرية؟ بعض الإجابة تطوّع بتقديمها المؤرّخ الروسي روي مدفيديف، المنشقّ بدوره: «إنه اليوم يتحدث وكأنه نبيّ أواخر القرن. ولكن مَن الذي يحتاج إلى أنبياء من هذا النوع في مجتمع يتبدّل كلّ شهر، وكلّ يوم»؟ المفارقة لا تقتصر على إعراض الشارع الروسي عن قراءة أبطال الماضي هؤلاء، فرسان بلاغة الحرب الباردة والرموز التي حثّت روسيا على الانتساب إلى أيّ طور طارئ يقتلع البلاد من تاريخ حافل يمتدّ قرابة قرن، ويشطبه تماماً بما له من فضائل وما عليه ما عليه من جرائر. المفارقة أن سولجنتسين نفسه لجأ إلى الممارسة التي خرج إلى الغرب لكي يكافح ضدّها: الرقابة، وكمّ الأفواه، وتعطيل حقوق فتح السجلات التاريخية!
وفي واقعة شهيرة، استخدم سولجنتسين كلّ نفوذه وصداقاته وعلاقاته السلطوية للحيلولة دون بثّ شريط سينمائي تسجيلي... يصوّر حياته! الغريب أنّ مخرجة الفيلم، أليسيا فوكينا، كانت صديقته الشخصية، وحظيت بامتياز متابعة عودته إلي روسيا، وتغطية رحلة الحجّ النوستالجية التي قام بها إلى مسقط رأسه في قرية كيسلوفودسك، وإذاعة أخبار مشاريعه ومخطوطاته الجديدة. مشكلة الشريط أنه أتى على حكاية ليزافيتا فارونيانيسكايا، السيدة التي استجمعت ـ من ركام آلاف القصاصات الصغيرة المشوّشة ـ مخطوطة رواية «أرخبيل الغولاغ»، وطبعتها على الآلة الكاتبة، ثكّ اضطرت تحت ضغط الاستخبارات السوفييتية إلى الاعتراف بمكان وجود المخطوطة، فعاقبت نفسها على هذه الفعلة، وانتحرت. ولم يكن في وسع الفيلم أن يهمل هذه الواقعة، خصوصاً وأن سولجنتسين لم يعترض على إدراجها أصلاً، لكنّ خطيئة المخرجة تمثّلت في أنها أشارت أيضاً إلى تقاعس سولجنتسين عن تقديم السند (المعنوي فقط!) للسيدة فارونيانيسكايا أثناء محنتها، وقيامه بالعكس: اتهامها بالخيانة والعمالة، ومقاطعتها، بل ورفض السير في جنازتها!
وفي وصلة نفاق صانية، ولأنّ دغدغة الروح القومية الروسية لا بدّ أن تفضي إلى هذا المستوى أو ذاك من استعداء اليهود الروس، أصدر سولجنتسين ثلاثية تاريخية بعنوان «مئتا سنة معاً»، ترصد العلاقات المديدة بين الروس واليهود، لكي تبشّر بالتالي: «الآصرة التي توحّدهم تظلّ قوية تماماً أيّاً كانت الحوادث والمآسي والأزمان والأمكنة والمسافات». المشكلة، هنا أيضاً، أنّ السواد الأعظم من أهل الآصرة، على طرفيها الروسي واليهودي، لم يقبض البشرى من رجل غارق في أرخبيل النفاق!

القدس العربي
1 مايو 2006