في حدود ما أعلم شخصياً، وفوق كلّ ذي علم عليم، رحل أحد كبار نقّاد الرواية في القرن العشرين ـ إدوارد سعيد (1935 ـ 2003) ـ دون أن يقرأ واحداً من أهمّ أعمال أحد كبار روائيي القرن العشرين ـ نجيب محفوظ (1911 ـ 2006). أقصد ملحمة الحرافيش التي صدرت طبعتها الأولي سنة 1977، وأحسبها تحفة الراحل في أطوار ما بعد الثلاثية ، 1956 ـ 1957 و أولاد حارتنا ، 1959؛ وما قبل رحلة ابن فطومة ، 1983، و حديث الصباح والمساء ، 1987؛ بوصفها في نظري معالم أسلوبية بارزة في فنّه الروائي الخصب والمتباين والتعدّدي.
ولقد راودني هذا الخاطر لأسباب ثلاثة:
ـ أنّ سوء حظنا، نحن أبناء الأدب العربي عموماً، شاء أن لا يتمكّن ناقد فذّ وفريد مثل سعيد، من قراءة عمل استثنائي كان، في ظنّي الشخصي، سيبدّل جذرياً يقينه التحليلي العامّ في فنّ محفوظ، الأمر الذي سأتوقف عنده في فقرات لاحقة.
ـ وأنّ معظم ما كُتب في الغرب من رثاء لنجيب محفوظ ظلّ علي السطح، وهذا أمر منتظَر، ولم يتوغّل علي أي نحو معمّق في الخصائص الفنّية الرفيعة لرواية محفوظ، من جانب أوّل؛ وظلّ حبيس الكليشيهات اليسيرة، الاستشراقية والمبتسرة والضحلة غالباً، حول هذا الرمز الديني أو ذاك المغزى السياسي في تأويل أعماله. وكانت مادّة إضافية من سعيد عن محفوظ، أوسع وأعمق وأكثر شمولاً، ستساعد كثيراً في تصويب صورة الغرب عن الروائي الكبير، والأرجح انها كانت سترسي سقفاً تحليلياً رصيناً يسمح بتمييز ما هو غثّ وما هو لامع في تثمين فنّ محفوظ.
ـ وأمّا السبب الثالث فهو، ببساطة، أنّ يوم 25 من هذا الشهر الجاري، أيلول (سبتمبر)، يصادف الذكري الثالثة لرحيل سعيد، وليس في وسع المرء دائماً أن يدفع اقتران رحيل عَلم كبير، بذكري رحيل عَلم كبير آخر.
أعود إذاً، وبأقصى الإيجاز، إلي خلاصة موقف سعيد من محفوظ: لقد رأي فيه غوستاف فلوبير العرب (وليس أونوريه دو بلزاك المدينة العربية، كما ذهب ويذهب الكثير من النقّاد في الغرب)، بسبب هذا الميدان الطبيعي الشاسع الواسع الفسيح لعوالمه الروائية، حيث المدينة ليست محض مشهد مدني عمراني فحسب، بل هي مراراً مجاز كوني، يحدث كذلك أنه واقعي طبيعيّ ومادّي للغاية في معظم طبقاته. لكنّ سعيد، في مقالته ما بعد محفوظ ، 1988، وهي للأسف ـ وفي حدود ما أعلم، هنا أيضاً ـ المادّة اليتيمة المكرّسة جزئياً لمحفوظ، وضع الروائي الراحل في مصافّ كبار روائيي الغرب، من أمثال فكتور هيغو، إميل زولا، شارلز دكنز، جون غالزورذي، توماس مان، وجول رومان.
وهذه مقارنات أقامها سعيد علي خلفيتين: الأولي لغوية ـ سوسيولوجية تخصّ المكانة الروحية الخاصة للغة العربية (بوصفها لغة القرآن الكريم) ولغة مقاومة إزاء الاستعمار والإمبريالية (كما في مثال الجزائر والمغرب العربي عموماً)؛ والثانية أدبية، ذات صلة بحقيقة أنّ الرواية شكل حديث العهد في الأدب العربي، وبالتالي فإنّ أعمال محفوظ قامت بما يشبه حرق المراحل في تطوير هذا النوع الكتابي. ومصر، في رأي سعيد، كانت الفيصل الحاسم في ترسيخ هذه السيرورة الثانية، لأنّ تاريخها كان تعددياً علي نحو لا نظير له (إنها، حسب ترتيب سعيد: فرعونية، عربية، مسلمة، هللينية، أوروبية، مسيحية، يهودية، الخ...)، ولأنّ المجتمع المدني فيها لم يُسحق تماماً أو يضمحلّ، رغم كلّ ما عرفته من حروب وثورات واضطرابات اجتماعية وسياسية ودينية عارمة.
الجانب الثاني، النظير تماماً، في تثمين سعيد لفنّ محفوظ الروائي كان هذا السؤال المشروع الأقرب إلي خلاصة منطقية، أو حتى حسابية: ولكن... ماذا بعد نجيب محفوظ؟ صحيح أنّ الرواية العربية قدّمت نماذج عديدة مضيئة (في هذا الصدد توقف سعيد، علي نحو خاصّ، عند أعمال جمال الغيطاني والياس خوري)، ولكن هل تلقي هذه الأعمال تحية الوداع، المحتومة ولكن الطافحة بكلّ الاحترام وعميق التقدير، علي أعمال نجيب محفوظ؟ إجابة سعيد كانت تقول: نعم، وإجابة محفوظ كانت تكتنز: لا... لا، كبيرة مدوّية مذهلة، عكستها عشرات الأعمال التي أصدرها الراحل قبل مقالة سعيد، وبعدها بسنوات عديدة أيضاً.
وأذكر أنني أبديت هذا الرأي في مجلس خاص مع سعيد، أواخر التسعينيات، واستندت إلي ملحمة الحرافيش بالذات في تبيان موقفي من أنّ محفوظ لا يسير كتفاً إلي كتف مع تلامذته وأبنائه الروائيين العرب فحسب، بل هو في يقيني سبقهم أحياناً، ولعلّه سوف يسبقهم في كلّ حين من مسيرته الأدبية. ولست أدري إذا كان سعيد قد سمع الرأي ذاته من الغيطاني وخوري، إذْ أحسب أنهما يشاطراني قناعة مماثلة، ولكني تذكّرت معه موقفاً لامعاً مبكراً من هذه المسألة ذاتها، صدر عن الناقد المصري رجاء النقاش في الستينيات، حين رحّب برواية الطيّب صالح موسم الهجرة إلي الشمال ، واعتبر أنّ نجاحها يدلّ علي أنّ محفوظ لم يعد عقبة في وجه تطوّر الأسماء الشابة في الرواية العربية المعاصرة.
هل يصحّ القول، استطراداً، أنه يجب أن لا يتحوّل إلي عقبة بعد وفاته، بمعني تحنيط روايته علي هيئة مومياء، بدل النبش فيها بوصفها موقعاً أركيولوجياً هائلاً من الكنوز غير المستكشَفة؟
القدس العربي
04-9-2006