صبحي حديدي
(سوريا/باريس)

صبحي حديديفي كتابها الجديد مستمعون لامرئيون: الحميمية الغنائية عند هربرت، ويتمان، وأشبري ، تثير الناقدة الأمريكية هيلين فندلر مسألة نقدية مفاجئة حقاً، تختصرها الأسئلة التالية: ما الذي يدفع الشاعر إلي إقامة حال من الحميمية الشخصية العميقة، مع جمهور متخيَّل لامرئي؟ لماذا يجهد لتوجيه القصيدة، جزئياً أو كليّاً، إلي مستمع خفيّ لا يعرفه الشاعر، بل لا يستطيع إبصاره أيضاً؟ لماذا، في الأمثلة التطبيقية، يتوجه جورج هربرت (القرن السابع عشر) إلي الله، ويتغنّي والت ويتمان (القرن التاسع عشر) بالقارئ أليف المستقبل، ويحيل جون أشبري (معاصرنا) إلي رسّام يصوّر الماضي؟ واستطراداً، ما الذي في وسع القصيدة أن تضيفه، وفي مقدورنا نحن القرّاء أن نكسبه، من خلال هذه الجميمية بين الشاعر المرسِل والعنوان المرسَل إليه؟ وأيّة خصوبة إضافية، أو ربما استثنائية، تمثّلها حقيقة أنّ تخاطباً كهذا لا يمكن إلا أن يكون غنائياً بفضيلة الضمير الواحد، المتكلم غالباً، وشيوع الوجدان وطغيان العاطفة وفيوض الذات؟

الكثير... الكثير... الكثير، تؤكد فندلر في هذا الكتاب الوجيز (144 صفحة)، لأنّ تلك العلاقة المتخيَّلة الغريبة مع مستمع لامرئي (إما لأنه مقدّس، أو لأنه كامن في المستقبل، أو لأنه قضي منذ زمن طويل) يمكن أن تنطوي علي محفزات نفسية وعاطفية وجمالية بالغة القوّة والثراء، تدفع قارئ القصيدة إلي اجتراح مخاطبات مماثلة يقيمها بنفسه ولنفسه مع آخر لامرئي يشبع علي هذا النحو أو ذاك حاجة التواصل الإنساني، وعبر وسيط جبّار غير مألوف هو الشعر. العلاقة الحميمية مع اللامرئي هي علاقة حميمية مع الأمل، وقراءة القصائد التي تنشّط هذا النوع من التراسل ترتقي بذائقتنا، وتدنينا أكثر فأكثر من تلك المصافّ الأرقي التي يروم الأدب تأصيلها أو تمثيلها: المثال المحال، أو القيمة الأعلى، أو النمط الحلمي...

وفي ظلّ اعتكاف هارولد بلوم بعيداً عن نقد الشعر، وانخراطه في تحرير الكتب أو الاهتمام بالتاريخ الأعرض للموروث الأدبي الغربي، وربما اغترابه بعض الشيء عمّا يُنتج من أدب معاصر وما بعد حداثي، ليس من المبالغة القول إن فندلر هي اليوم أفضل من يمارس نقد الشعر، في اللغة الإنكليزية علي الأقل، وفي حدود ما يعلم كاتب هذه السطور بالطبع. إنها، بين حفنة أسماء أخري، تؤمن أن الشعر لا ينبغي أن يظلّ مخفياً (حتى في جوانب دقيقة عميقة عويصة مثل هذه التي يناقشها كتابها الأخير)، وعلي القرّاء أن يتنبهوا إليه كفنّ رفيع أولاً، ثم أن يدركوا جيداً ما يخسرونه من متعة فريدة جرّاء ترك هذا الفنّ للنخبة. وهي لا تتردد، رغم صرامتها الأكاديمية، في ترويج الشعر بوصفه إكسيراً خطابياً قادراً علي مداواة الاعتلال الجمالي أو النفسي أو الروحاني: إذا كنتَ في حال من الحيرة، أو الحزن، أو الضنك، أو التيه، أو الذهول... فتّشْ لنفسك عن قصيدة تلائم ما أنتَ فيه وما تشعر به ، تقول فندلر التي تؤمن بقوّة أنّ الشعر تحليلي بقدر ما هو تعبيري، والقصيدة تميّز، وتعيد بناء، وتعيد توصيف ما يكشفه الشعر ويكتشفه في الدواخل العميقة للحياة .

وفندلر ناقدة موضوعية متأنية، صارمة قاسية حاسمة في الآن ذاته، لا تخجل البتّة من منح القراءة الذاتية الإنطباعية فسحة واسعة حرّة، منطلقة في ذلك من قناعتها بأن قراءة الشعر تجربة شخصية وفردية ووجدانية أحادية أولاً. وفي كتابها تقول الروح رَوَت تجربتها القرائية الشخصية مع النسق الغنائي، وأوضحت أن نجاح الموضوع الغنائي في تفادي الفخاخ الاجتماعية للنثر يجعله أقرب إلي صوت الروح نفسها ، ويسمح لنا بالتماهي التام مع ضمير المتكلم. وحين كانت في مقتبل العمر، متلهفة علي معرفة المزيد عن العالم، شعرت فندلر أنه إذا كان الشاعر مُنتبَذاً، فإنها منتبَذة كذلك. وإذا تحسّر علي وطنه، تحسرت هي بدورها علي وطن سوف تفقده، وإذا كتب أودن عن درع آخيل، شعرت هي أن هوميروس ملْك يديها مثلما هو ملك أودن . وتقول، بلا حرج أكاديمي هنا أيضاً: لقد عرفتُ الكثير عن الإمكانيات المستقبلية في حياتي الداخلية من خلال الشعر الذي يبدأ من غنائية العالم .

وفي المُعطي والمصنوع وسّعت فندلر موقفها من الغنائية، فاعتبرت أنها نصّ مكتوب لكي يقوم القارئ بأدائه. وحالما يتوغل هذا القارئ في الغنائية، فإنه بذلك يكفّ عن دوره كقارئ، ويصبح الناطق بالقصيدة، المردِّد لكلماتها، الصانع للمزيد من مشاعرها ومعانيها. وفي كتابها إنقطاع الأسلوب تابعت الموقف ذاته من الغنائية علي صعيد آخر (أدهي وأخطر) هو الأسلوب، الذي تسمّيه الجسد المادي للشعر ، نائية بذلك عن الاستعارة المعتادة التي تري في الأسلوب ثوباً خارجياً.

كتابها الجديد يتابع، إذاً، هذه التقاليد في دراسة الشعر بوصفه فنّ العامّة وليس امتياز النخبة، خصوصاً وأنّ مشاع البشر ـ وليس الصفوة ـ هم الأكثر عرضة لحال العزلة التي تدفع الشاعر إلي تأسيس صلات حميمية مع خلّ وفيّ غير مرئي، وبالتالي مع عالم حافل صاخب هادئ رتيب قاسٍ ورحيم في آن معاً. وليس غريباً أن فندلر تبدو مفتونة بهذين السطرين من الشاعرة الأمريكية إميلي دكنسون: هذه رسالتي إلي العالم/ الذي لم يكتب لي قطّ

القدس العربي
2006/01/30