قبل أيام، في صحيفة "هآرتز" الإسرائيلية، كتب الصحافيّ والمؤرّخ الإسرائيلي جوزيف الغازي (المولود في مصر) يروي بعض ذكرياته عن حرب 1967، حين استُدعي من صفوف الاحتياط، وكان في التاسعة والعشرين من عمره، يشرف على تحرير الأسبوعية الناطقة باسم الحزب الشيوعي الإسرائيلي (راكاح). والرجل ارتأى، في هذه الأيام بالذات وبعد 40 سنة، كشف النقاب عن واقعة شخصية مفادها أنه تعمّد إطلاق النار على راحة يده لكي يتجنّب الانخراط المباشر في المعركة، على جبهة العريش: "كنت أعرف دائماً أنني عاجز عن إطلاق النار على شخص آخر، أو جرح أو قتل أحد. كنت أعرف أنه، في ساحة القتال، يوجد نمطان من البشر: الذي يَجرَح والذي يُجرَح، القاتل أو القتيل".
السلطات العسكرية الإسرائيلية لم تحقق في ملابسات الواقعة، رغم أنّ الغازي كان قبلها بسنوات قد ضُبط وهو يوزّع منشورات سياسية شيوعية في إحدى الوحدات العسكرية. كما أنّ الرجل لم يكشف هذا السرّ إلا لثلاثة: إميل حبيبي، والكاتب والشاعر الإسرائيلي مردخاي آفي شاؤل، وزوجة الأخير. وذات زيارة مشتركة إلى موسكو، في أيلول (سبتمبر) 1967، تطرّق الغازي وحبيبي إلى هذه الواقعة، فتوقفا عند حالات التباين القاطع بين سلوك يقتضيه الضمير الشخصي، وسلوك آخر يتطلّبه انتماء المرء إلى منظمة أو حزب. ورغم أنّ حبيبي تحدّث عن الواقعة بفخار، ولعلّه رواها بالروحية ذاتها إلى أصدقاء مشتركين في الضفة الغربية ومصر، إلا أنه ناقش الغازي هكذا: لو استشرتنا في الحزب، من المؤكد أننا كنّا سنمنعك. ولو كشفتَ النقاب عن السرّ ونقلتَه إلى العلن، من المرجح أنّ الحزب كان سيتنصّل منه.
ومادّة الغازي هذه تذكّر بالمفارقة الكبرى التي عاشها الروائي والقاصّ الكبير الراحل إميل حبيبي (1921 ـ 1996) منذ أن أخضع بعض وجدانه الشخصي لإرادة الحزب، فوافق أوّلاً على قرار التقسيم سنة 1947، ثمّ اعتبر أنّ بقاءه في حيفا ليس مصدر قيمة وكبرياء وصمود ومقاومة (وهذا صحيح تماماً) فحسب، بل أيضاً صيغة تعاقد تفرض عليه قبول مقتضيات المواطنة الإسرائيلية أياً كانت عقابيلها، وليس دون حماس شخصيّ في بعض الأحيان. كذلك فإنّ نشر اعتراف الغازي في هذه الأيام بالذات يتصادف مع الذكرى العاشرة لرحيل حبيبي (3 أيار/ مايو الجاري)، حين كانت بعض آخر سجالاته تدور حول قبوله جائزة إسرائيل للإبداع سنة 1992، مقترنة بسلسلة تصريحات إشكالية كان بينها ما نقلته صحيفة "ليبيراسيون" الفرنسية: عبد الناصر جرّ المأساة على الفلسطينيين، وصدّام حسين أخرس الانتفاضة.
وفي أساس جوائز إسرائيل هذه (وعددها 12 جائزة، بعدد أسباط إسرائيل!) أنها تُمنح في إطار الإحتفالات بما تسمّيه الدولة العبرية "عيد الإستقلال"، تشديداً على موضوعتَيْ البطولة والدفاع، في الجانب العسكري والقتالي المحض عموماً. ففي احتفال 1956 قال زلمان آران، وزير التربية والثقافة آنذاك: "ثقافة إسرائيل كانت هادية لنا في حرب التحرير، والتوراة والشعر العبري جزءان لا يتجزآن من الأسلحة الفردية لمقاتلينا"، الأمر الذي قد يكون صحيحاً تماماً بالنسبة إلى غالبية كبيرة من عسكريي إسرائيل. ولكن... هل كان يصحّ على رجل مثل إميل حبيبي؟ وكيف يُساق صاحب سعيد أبي النحس المتشائل، بطل الرواية البديعة الشهيرة، إلى عيد لا مناص له فيه ـ بصفة إجبارية، وحسب البروتوكول ـ من إقرار الإعلان التالي: "إنني مستعدّ وراغب في تلاوة وقائع حرب التحرير التي انتصرنا فيها على عدوّنا، وفتحنا أرضنا، لنقيم عليها دولتنا، ملكية خالصة لنا ولذرّيتنا ولكلّ المنفيين منّا"؟
وكان اختيار حبيبي للجائزة ينطوي على الكثير من الخبث، في افتراض وجود نمطَين من "الآخر" الفلسطيني: الأوّل إرهابي، بشع، دموي، متوحش، عرفاتي (لم تكن "حماس" لافتة التأثيم الرائجة في تلك الأيام)؛ والثاني، سامريّ، طيّع، مرن، يمكن إلحاقه أو حتى انتخابه لعضوية الكنيست، وتكريمه لا بما هو عليه بل بما ينبغي أن ينقلب إليه! "العربيّ الجيد هو العربيّ الميّت" في الصيغة الصهيوينة الأثيرة، ولكنه أيضاً يمكن أن يكون العربيّ الذي يشعر باعتزاز من أيّ نوع، لأنّ الاحتلال الإسرائيلي "اضطرّ" إلى اكتشاف إبداعاته، فاستثناه واستثناها، وكرّمه وكرّمها.
صحيح أنّ الراحل تبرّع بقيمة الجائزة المالية إلى مؤسسة فلسطينية تُعنى بعلاج الجرحى، إلا أنّ القيمة الرمزية ما كان لها أن تُهدى إلى الفلسطيني الذي كان آنذاك يعيش شرط البيوت المهدّمة، والأراضي المحروقة، وأشجار الزيتون المقتلَعة، والمؤسسات التربوية والثقافية المختومة بالشمع الأحمر، والإبعاد، والاعتقال، وتكسير العظام، والرصاص المطاطي، والاغتيال. ولم يكن ممكناً لأيّ نصّ أدبي ـ ونصّ حبيبي خصوصاً ـ أن يغربل من شيفراته هذه المشهدية العنيفة الحاشدة، الحبلى بالقيمة ـ النقيض لكلّ ما يسوّغ تكريم هذا الفلسطيني الطيّب... وأيّ فلسطيني طيّب.
وإذا صحّ أنّ الموقف من حبيبي، كما يعبّر عنه اليوم يهودي طيّب مثل جوزيف الغازي، لم يتأثّر بواقعة منح الجائزة؛ فإنّ من الصحيح كذلك أنّ موقف الليكود (الحزب الذي منح حبيبي الجائزة، في شخص رئيس الوزراء الأسبق إسحق شامير) لم يتأثر كذلك: راجعوا على الإنترنيت الموقع الشخصي لرئيس الليكود الحالي بنيامين نتنياهو، وستجدون أنّ صفة إميل حبيبي باقية لا تتبدّل: العربيّ الكذّاب بين ظهرانينا.