صبحي حديدي
(سوريا/باريس)

إبراهيم الحضرانيشاءت المصادفة أن أقرأ، متأخراً قرابة ستة أشهر كما يتوجب أن أعترف، مراجعة لافتة وجسورة لرواية غابرييل غارسيا ماركيز "ذكريات عن عاهراتي الكئيبات"، كتبها الأرجنتيني ألبرتو مانغويل (صاحب العمل الشهير "تاريخ القراءة"، وأعمال أخرى لا تقلّ شهرة حول الكتب والمكتبات، مثل "صحبة بورخيس"، "وداعاً همنغواي"، "قاموس الأماكن المتخيَّلة"، "بوّابات الفردوس: أنطولوجيا الرواية القصيرة الإيروتيكية"، "مكتبة روبنسون كروزو"، و"المكتبة ليلاً"...). العمق المعتاد في كتابات مانغويل هو اللافت بادئ ذي بدء، وأمّا الجسارة فهي اعتبار رواية ماركيز سطحية وباهتة وفاقدة لكثير من المهارات الفنّية الفريدة التي ميّزت تراث الروائي الكبير المعلّم.

والحقّ أنّ هذه الخلاصة، التي تنطلق من نزاهة تجاه القارىء وتثمين لعبقرية ماركيز في آن معاً، لا تكتسب مشروعية إقناع عالية إلا حين يجري مانغويل تلك المقارنة الحاسمة بين "ذكريات عن عاهراتي الكئيبات" ورواية أخرى فذّة تقارب موضوعة مماثلة، هي "منزل الجميلات النائمات" للروائي الياباني الكبير ياسوناري كاواباتا (1899ـ1972). ولكي لا نظلم ماركيز نسجّل على الفور اعترافه العلني بأنه إنما كتب روايته هذه تحقيقاً لحلم قديم في مجاراة رواية كاواباتا تلك، من جانب أوّل؛ كما نذكّر، من جانب ثانٍ، أنّه جسّد الحلم بعد توقف عن الكتابة الروائية دام قرابة عقد كامل، تفرّغ فيه لكتابة سيرته الذاتية المعروفة.

ولهذا، ما الذي يمنع من وضع ماركيز وجهاً لوجه أمام كاواباتا، في ساحة مقارنة أقرب إلى المفاضلة، أشبه بغربلة فنّ لصالح فنّ آخر، أو ربما تصفية عبقرية إزاء أخرى كما يحدث في نهائيات الرياضات الكبرى؟ أميل شخصياً، وإذا جاز اللجوء إلى لعبة كهذه، إلى ترجيح كفّة الروائي الياباني في هذه الموضوعة تحديداً (الشيخوخة وإغواء العذرية)، وترجيح كفّة الروائي الكولومبي في موضوعة الاستبداد الكونيّ الواقعيّ ـ السحري كما اجترح بواطنها الأعمق في عمله الإستثنائي "مئة عام من العزلة". وأمّا في التصفية النهائية فإنني لا أتردد في اختيار كاواباتا بطلاً متوّجاً للرواية الحديثة (بمعنى الحداثة الفنية، وليس حداثة العهد) التي تشتغل على مفردات النفس البشرية.

قرأت كاواباتا للمرّة الأولى قبل ثلاثة عقود، بالإنكليزية، وكانت روايته "ضجيج الجبل"، 1945، هي فاتحة ذلك السحر الذي ما انفكّ يشدّني ويدهشني ويعلّمني. ولقد وقعت على الفور في إغواء ترجمتها إلى اللغة العربية تحت إلحاح يقيني بأنّ من حقّ القارىء العربي أن يقرأ هذه التحفة، ثمّ صرفت النظر تحت ضغط قناعتي بأنّ من الأفضل نقلها عن الأصل الياباني مباشرة. ثمّ شاء حسن الطالع أن يأتي مَن يقنعني بأنّ انتظار هذا الخيار المثاليّ قد يطول ويطول، وقد لا يتحقق أبداً بالنظر إلى ندرة المترجمين مباشرة عن اليابانية. وهكذا، أقنعت نفسي بدوري، وصدرت ترجمة "ضجيج الجبل" عن دار التنوير في بيروت، سنة 1983.

ومع أنني أوافق مانغويل في مفاضلته بين "ذكريات عن عاهراتي الكئيبات" و"منزل الجميلات النائمات" لصالح هذه الأخيرة، إلا أنني لا أخفي انحيازي الأقصى إلى "ضجيج الجبل" بوصفها درّة أعمال كاواباتا، خصوصاً وأنّ موضوعتها المركزية تقوم بدورها على تحوّل البطل الشيخ أوغاتا شينغو من كائن حكاية الرومانس (المتشبث بقوانين وجوده المرسوم، وبمواصفات الدور الملقى على عاتقه في «ملحمة» مصغّرة هي بيته وأسرته ومجتمعه المحدود)، إلى كائن الشخصية المأزومة المعطّلة بأفعال خارجية لها إنعكاساتها النفسية الداخلية العميقة. وهذا، في واقع الأمر، هو مختصر تاريخ الرواية: هبوط البطل الملحميّ من مصافّ الآلهة إلى مصافّ البشر.

انتماء كاواباتا إلى هذا الطراز بالذات من حداثة الرواية غاب عن حيثيات الأكاديمية السويدية التي منحته جائزة نوبل للآداب عام 1968، فكان بذلك أوّل أديب ياباني يحصل على هذه الجائزة الغربية الرفيعة. وحين امتدحته الأكاديمية بوصفه ممثّلاً أميناً للتقاليد الأدبية اليابانية، أُصيب اليابانيون أنفسهم بالدهشة والحيرة، لأنهم كانوا يعرفون ــ بداهة ــ أنّ كاواباتا أديب حداثي! هو ثالث ثلاثة عمالقة تربعوا على سدّة الرواية اليابانية في النصف الأوّل من القرن العشرين (إلى جانب جونيشيرو تانيزاكي وسوسيكي ناتسومي)، ولكنه كان الوحيد الذي انفرد بأسلوب حداثي لم تعهده الآداب اليابانية، أو بالأحرى كان الوحيد الذي طوّع التقاليد الأدبية اليابانية لكي تتصالح مع معطيات انقلاب البطل الملحمي إلى «شخصية»، وما يعنيه ذلك من مواجهات مع مقولة «النفس»، وما يستدعيه من رموز وموضوعات وطرائق سرد.

ولعلّ نقّاد الأكاديمية السويدية خلطوا بين دفاعات كاواباتا عن التقاليد الثقافية اليابانية (التي ترقى إلى مراتب وطنية ـ رمزية كبرى أحياناً)، وبين تجاوزه للتقاليد الأدبية اليابانية. ولا تكاد رواية من رواياته تخلو من تأمّل عميق، ثقافي ـ وطني تارة وشعائري ـ وجودي طوراً، في طقوس الشاي اليابانية العريقة، وفي لعبة الـ «غو» التي ظلّت شطرنج الأرستقراطية الملكية اليابانية طيلة قرون، وفي فنون الفولكلور المختلفة، إلى جانب عادات الترحال والزواج والشيخوخة والموت.
أليست هذه سمات أساسية في أدب ماركيز بدوره، ولكن في ما يخصّ شعائر وعادات وطقوس كولومبيا؟ نعم، بالطبع... وهنا حيوية هذه الرياضة التي تضع كاواباتا ضدّ ماركيز، ونكون فيها ـ نحنّ القرّاء الأشدّ حاجة إليهما معاً ـ أكبر الرابحين.