صبحي حديدي
(سوريا/ باريس)

صبحي حديديالسنة الماضية، وفي سياق احتفائها بما أسمته مئة عام من الإمتياز 1905 ـ 2005 ، أصدرت مطبعة جامعة برنستون الأمريكية كتاباً متميزاً بالفعل، ولعلّ توقيته كان ملائماً بالمعني السياسي أيضاً، هو دليل القارئ إلي الإسلام الكلاسيكي ، للمستشرق المعروف ف. س. بيترز أستاذ لغات وآداب وتاريخ الشرق الأدنى في جامعة نيويورك. ولقد انضمّ هذا المؤلف الجديد إلي سلسلة أعمال معمقة في الإسلاميات واظب بيترز علي إصدارها طيلة ثلاثة عقود. ومن الإنصاف القول إنّ الكتاب الجديد يتفوّق علي معظم المؤلفات السابقة في مستوي الموضوعية ومقدار النأي عن التنميطات الإستشراقية المكرورة، وفي درجة الاستئناس بالأدب جرياً علي عادة بيترز.
غير أنّ المرء يتذكر الرجل هذه الأيام بالذات، في مناسبة الحجّ والحجيج ومكة والمدينة، لأنه صاحب الكتاب المدهش الحجّ ، 1994، الذي لا يتوقف عند شرح الفريضة وشعائرها، بقدر ما يُعني بذلك الجانب الخفيّ من تجربة الحجّ إلي مكة، أي تلك الرحلات التي قام بها حجّاج أوروبيون دخلوا خفية إلي الحرم الشريف، بدافع العلم أو بدافع الفضول أو التجسس الأكاديمي . وهو، إلي ذلك، صاحب الكتاب الثاني الفريد مكّة: تاريخ أدبي للأراضي المقدسة المسلمة ، 1995، وفيه يلجأ إلي المادة الأدبية لكي يدرس التطورات الفاصلة لمفهوم المكان المقدس في الإسلام. وإذا كان بيترز يفصّل القول في الحرمين الشريفين مكة والمدينة، فإنه في الآن ذاته يشدد علي اتساع فكرة الحَرَم أو ضيقها لأسباب دينية أو سياسية أو قبلية.
وحين يلجأ بيترز إلي المادة الأدبية، التي تظلّ منبعاً نفيساً للتعرّف علي تاريخ البشر في كلّ حال، فلأنّ نقصان الأدلة المادية العلمية، الأركيولوجية والأنثروبولوجية خصوصاً، يجعل النصّ الأدبي المرجع الأبرز والأوثق والأشمل في رصد التاريخ. هذا لا يعني ضرب صفح عن الإسهامات (المتأخرة، ربما) لمؤرّخين من أمثال الطبري وابن خلدون، أو رحّالة من أمثال ابن جبير، أو جغرافيين من أمثال المقدسي، أو أخبار ذلك الصنف الخاصّ من الرواة والأدلاء إلي مكة والمدينة: الشعراء والخطباء، الصحابة والزنادقة، الخلفاء والعصاة، الأولياء الصالحون والكفرة المارقون، الرحالة الأوروبيون العلماء أو الرحالة الأوروبيون الجواسيس...
والفصل الأوّل مثال تطبيقي افتتاحي علي هذا المنهج. بيترز يسرد النوع التكهني من تاريخ مكّة في الحقبة الجاهلية، لأن التكهّن (المقارن إجمالاً، المدعوم بين فينة وأخري بهذه أو تلك من الوثائق النادرة) هو السبيل الوحيد لرصد وقائع منطقة شاسعة تدعي الحجاز، تخومها تبدأ من الحدود الحديثة للأردن وتلامس الحدود الحديثة لليمن، قطنتها قبائل مترحلة ذات ثقافة شفاهية بالغة التعدد والغني. وكما كانت عناية الأناجيل محدودة برصد تاريخ مدينة الناصرة، كذلك سجّل القرآن الكريم القليل فقط من تاريخ مكة القديم.
الأطوار اللاحقة لصعود جدّ الرسول قصيّ بن كلاب القرشي (وصعود قريش بالتالي)، تمرّ بتوطيد حكم مكة عبر وظائف ومسؤوليات الحج (الرفادة والحجابة)، وتنظيم دار الندوة واجتماعات الملأ بوصفها الصيغة المبكرة للتشاور الجماعي حول شؤون الحكم، ثم تحديد الحوطة أو الحرم، وأخيراً الصراع بين أبناء قصيّ وانتقال المسؤولية من بني عبد الدار إلي بني عبد مناف (عبد شمس، هاشم، المطلب، نوفل). وباستثناء سيرة رسول الله لابن إسحق، يعتمد بيترز في تجميع أجزاء هذا التاريخ علي الأعمال الأدبية ـ التاريخية من نوع شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام للفاسيّ، و كتاب الإعلام بأعلام بيت الله الحرام لقطب الدين، و ثمار القلوب للثعالبي، و كتاب الأغاني للأصفهاني.
الهجرة إلي المدينة تستكمل حكاية تطوّر فكرة الحَرم والأشهر الحُرُم، وهنا يبدو بيترز أكثر ارتياحاً إلي المصادر الكلاسيكية التي تصف حياة الرسول والفتوحات وحركات الارتداد إلي الوثنية العتيقة. وهو يتوقف مطوّلاً عند كتاب الأزرقي أخبار مكة باعتباره الوصف التاريخي الأقدم ليس لمدينة مكة وحدها، بل لأية مدينة إسلامية قديمة. ثمّ يقارن بين الأزرقي وابن إسحق علي خلفية أعمال أخري أقلّ تشديداً علي تاريخ مكة القديم، مثل أنساب الأشراف للبلاذري، و طبقات ابن سعد، و المغازي للواقدي. مثل هذه الأعمال هي التي زوّدتنا بالمادّة الأفضل عن استقرار فكرة الأراضي المقدسة في نهاية العصر الأموي، ورسوخ موقع مكة والمدينة كحرمين شريفين، الأمر الذي لم يعرقل صعود القدس ودمشق والقاهرة كصروح كبري أثيرة في قلوب المسلمين. وهذه، جميعها، لم تعرقل جهود العباسيين لتوطيد موقع العتبات المقدسة الشيعية في العراق بصفة خاصة. من جانب آخر، لا يفوت بيترز استعراض عدد من الثورات وحركات العصيان التي وقعت في مكة والمدينة أو ضمن جوارهما (وكانت أبرزها حركة القرامطة، وانتزاع الحجر الأسود، والمذابح التي وقعت في مكة)، ومغزي الحرم في تأجيج أو تهدئة النفوس.
وما يفعله بيترز في مؤلفات كهذه يندرج، دون قصد منه ربما، في ترجيح كفة مدرسة معاصرة في النقد الثقافي تعتبر النصّ الأدبي أكثر أمانة من السجلّ التاريخي في تمثيل حياة البشر الفعلية، وتأصيل الوقائع والعادات والأمزجة والميول، وتدوينها في حالات عديدة أيضاً. ولعلّنا، في مختلف مدارس تدوين التاريخ العربي، بحاجة ماسة إلي هذه المقاربة التي تنهل من خزين الأدب لكي تثري مصنفات التاريخ.