تحلّ اليوم، 25 أيلول (سبتمبر)، الذكرى الثالثة لرحيل الناقد والمفكّر والأكاديميّ الكبير إدوارد سعيد (1935 ـ 2003)، ليس دون وقائع حيّة تذكّر بالحاجة إلى عقله اللامع في تفكيك الخطاب الاستشراقي، ومنهجه الفذّ في ربط مفردات الخطاب بتلك الأسباب الإيديولوجية والتاريخية والسياسية والاقتصادية والثقافية الأعمق التي تصنع، أو أحياناً تصنّع، الخطاب وتتكفل بإشاعته وترسيخه. أبرز هذه الوقائع محاضرة البابا بنديكتوس السادس عشر حول العلاقة بين الإسلام والعنف، حيث يلوح أنّ منهج سعيد في نقد الاستشراق وقراءة الغرب لقضايا العالم العربي ومسائل الإسلام عموماً (كما فصّله الراحل في أعماله "الإستشراق"، 1978؛ و"قضية فلسطين"، 1979؛ و"تغطية الإسلام"، 1981) هو الجهاز النقدي ـ التحليلي الأشدّ صلاحية لإدراك الخلفيات الأبعد خلف خطاب قد يخفي في الباطن ما لا يظهره على السطح.
وتجدر الإشارة إلى تفصيل هامّ قد لا يتنبّه إليه الكثيرون، وهو أنّ ذلك الجهاز الجبّار الذي تناول الخطاب الغربي حول الإسلام والشرق عموماً كان قد تكوّن في غمرة، أو بالأحرى تفرّع عن، جهاز آخر جبّار كان سعيد يطوّره ـ بمستوى مماثل من الأناة والعمق والابتكار ـ في ميدان تحليل النصّ الأدبي، والرواية، والنظرية النقدية. كان سعيد قد أصدر، لتوّه، كتابه الهامّ الأوّل "جوزيف كونراد ورواية السيرة الذاتية"، 1966، وهو أطروحة الدكتوراه التي تقدّم بها إلى جامعة هارفارد، حيث اعتمد على منجزات «مدرسة جنيف» في النقد الفينومينولوجي (الظاهراتي)، وطوّع مناهج هارفارد وتقاليدها الأكاديمية في الآن ذاته. ومن خلال التدقيق المعمّق في رسائل كونراد، رسم سعيد الخطوط الكبرى لمزاج الروائي البولندي الأصل لكي يكشف كيفية توليدها للموضوعات الرئيسية في رواياته، ولكي يبرهن على نحو مدهش أن كونراد انشغل دائماً بالتوتّر بين وعيه لنفسه من جهة أولى، وإحساسه بالشروط المتصارعة التي تكيّف وجوده كـ «آخَر» فردي ولغوي في التراث المكتوب بالإنكليزية من جهة ثانية.
كما كان قد أصدر كتابه الثاني، والأهمّ في تقديري الشخصي، "بدايات: القصد والمنهج"، 1975، حيث أثار مشكلة فكرة البداية حين تستحوذ على الذات الفردية وتشارك في ميل الذات إلى التغيير والتبدّل، وناقش هذه الإشكالية في مراحل ثلاث: في الرواية الكلاسيكية، وفي الأدب الحداثي، وفي المفاهيم السكونية التي تهيمن على الفلسفة البنيوية الفرنسية. وطرح سعيد الطراز النموذجي للبدايات كما عبّر عنه الفيلسوف الإيطالي جيانباتيستا فيكو (القرن الثامن عشر)، وكيف أن البدايات لا تُكتشف بل تُخلق وتُصاغ وتتفاعل وتتطوّر وفق جدل العلاقة بين المعرفة التراثية والحدود الثقافية وديناميات المخيّلة.
الجانب الثاني في هذا التفصيل ذاته هو أنّ ركائز منهجية نقد الخطاب الاستشراقي أخذت تختمر في ذهن سعيد، وعلى نحو محتدم مشبوب أحياناً، وتضغط على طرائقه في قراءة النصّ وعلى أدوات تحليله ورصد سياقاته، وذلك منذ أن عاش حدثين فاصلين: هزيمة 1967، و"أيلول الأسود" 1970 حيث شهد بعض وقائع الحرب بأمّ عينيه، وكان حينذاك في العاصمة الأردنية عمّان. تلك كانت برهة مشحونة فريدة في حياته، لأنها قرّبته من المقاومة الفلسطينية على نحو مباشر، هو الفلسطيني المقدسي الذي حرص أبوه على إبعاده ما أمكن عن هموم فلسطين ومشكلاتها، بل لعلّ الخشية من انغماس سعيد في العمل السياسي كانت في صلب الأسباب التي دفعت الأب إلى إرسال ابنه للدراسة في الولايات المتحدة، منذ العام 1951.
هذه المعايشة الميدانية للعالم العربي في عمّان، وقبلها إقامة في القاهرة (أطلق عليها صفة "اللجوء") بعد النكبة 1948، تعمّقت أكثر واكتسبت بعداً معرفياً خلال إقامة سعيد في بيروت، حيث درس اللغة العربية على يد أنيس فريحة، وقرأ الغزالي وابن خلدون والفلسفة الأندلسية وطه حسين ونجيب محفوظ، قبل أن يشهد حرب 1973 ويكتشف عيانياً أن ما يجري على الأرض لم يكن يتوافق أبداً مع ما يُكتب في وسائل الإعلام الغربية. ومن حيث المبدأ يمكن للأسفار هذه أن تكون مجرّد محطات طبيعية لآلاف البشر من أمثال سعيد، لولا أنّ علاقة الراحل بالمكان كانت ملتبسة دائماً: إنه في المكان، وخارج المكان ذاته، في آن معاً (وليس دون دلالة أنّ كتاب مذكّراته حمل العنوان التالي: "خارج المكان"). وبين عاداته المعروفة، التي يصفها على نحو طريف ومؤثّر في كتابه «بعد السماء الأخيرة»، أنه لا يسافر إلا إذا حمل من الأمتعة أضعاف ما تتطلّبه الرحلة أو يقتضيه زمن البقاء بعيداً عن البيت، وكأنه في قرارة نفسه كان يرتاب في احتمال عودته إلى بيته!
وكان يحلو للراحل أن يستذكر سلسلة المفارقات التي اكتنفت حياته: أنا فلسطيني ولكني طُردت منها منذ الطفولة، وأقمت في مصر دون أن أصبح مصرياً، وأنا عربي ولكني لست مسلماً، وأنا مسيحي ولكني بروتستانتي، واسمي الأول "إدوارد" رغم أنّ كنيتي "سعيد"... هل كانت الهوية هي التي تسافر مع الحقيبة، أم الوعي الذي يتبدّل أو ينقلب أو يرتدّ؟ وهل كان الشخص الذي يحمل الحقيبة هو الذي تستعصي عليه الإقامة، أم يستعصي المكان ذاته؟ هل كان في المكان، أم خارج المكان؟ وهل كان هنا دون أن يكون هناك تماماً، وهناك دون أن ينأى بما يكفي عن هنا؟