أحسنت المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة صنعاً حين اختارت مدينة حلب "عاصمة الثقافة الإسلامية" للعام الجاري، ممثلة كامل المنطقة العربية (ولعلّ قرارها كان، كذلك، صائباً في اختيار أصفهان الإيرانية عن آسيا، وتومبوكتو من مالي عن أفريقيا). وهكذا تكون حلب ثاني مدينة عربية تحظى بهذا الموقع المشرّف، مباشرة بعد مكة المكرّمة التي كانت عاصمة العام المنصرم 2005. ولا يفوق بهجة هذا القرار ـ المفاجىء بعض الشيء ربما، قياساً على رفعة مدن إسلامية أخرى عريقة في العالم العربي، مثل بغداد ودمشق والقاهرة ـ إلا ما يلقيه من مسؤولية ثقيلة على عاتق الذين آل إليهم هذا الشرف.
والقرار اتُخذ قبل خمس سنوات، خلال قمة منظمة المؤتمر الإسلامي التي انعقدت في العاصمة القطرية الدوحة، الأمر الذي يعني أنّ السلطات الثقافية السورية امتلكت فترة زمنية كافية للتحضير والإعداد والبرمجة، على نحو ينبغي أن يكفل حسن التخطيط والتنظيم والتنفيذ، كما ينبغي أن يليق بالمدينة العريقة، وبالمناسبة الفريدة. وهذه، غنيّ عن القول، فرصة نادرة (لن تتكرّر مرّة ثانية، للتذكير!) كي يتعرّف العالم الإسلامي على تاريخ وثقافة وحضارة سورية البلد بأسرها في الواقع، وليس شطرها الذي تجسّده مدينة حلب وحدها. ومن هنا فإنّ العام 2006 ينطوي على تحدّيات جدّية متعاقبة، لعلّ عددها يساوي تماماً عدد الأنشطة، بحيث تأخذ كل فعالية صيغة تحدِّ قائمة بذاتها.
لكنّ الأجهزة الثقافية الرسمية التي ستتولى التنفيذ ليست، للأسف، مدعاة تفاؤل كبير كما علّمتنا تجارب السنوات الأخيرة. فالأداء متواضع أو بائس أو كارثيّ في مختلف مؤسسات ومديريات وزارة الثقافة، بدءاً من المؤسسة العامة للسينما، التي تعوّض عن هبوط معدّل الإنتاج بارتفاع معدّلات الفساد؛ مروراً بانحطاط سياسات النشر والترجمة، خصوصاً بعد التقاعد القسري الذي فُرض على المفكّر الراحل أنطون مقدسي؛ وانتهاءً بعجائب الإبتذال التي يجترحها مدير ما يُسمّى "دار الأسد للثقافة والفنون"، والذي يتردّد أنه القشّة التي لم تقصم ظهر وزير الثقافة السابق محمود السيد فحسب، بل أطاحت به نهائياً! وما دام الشيء بالشيء يُذكر، يكفي أنّ هذه الوزارة الشقية شهدت تبدّل أربعة وزراء خلال خمس سنوات!
البرامج، من جانبها، طموحة تماماً والحقّ يُقال. ففي الجزء الذي يخصّ تاريخ المدينة (التي عرفت غزوات وحصار وفتوح الأكاديين والبابليين والحثيين والميتانيين والفراعنة والآشوريين والفرس والروم والسلوقيين والمسلمين والسلاجقة والمغول والتتار والمماليك والصليبيين والعثمانيين والفرنسيين... وهُدمت وأُعيد بناؤها مراراً)، هنالك محاضرات وأوراق تبدو قيّمة مثيرة، مثل: بين مملكة ماري وحلب، حلب وطريق الحرير، حلب منعطف الحروب الصليبية ، البحث عن طرادوة هوميروس، وبين حلب والبندقية.
وفي التاريخ الديني والعقائدي للمدينة، هنالك مساهمات حول ابن رشد وابن عربي وحوار الحضارات بين ضفتي المتوسط، وتصوّف حلب بين السهروردي وابن عربي، التراث الفلسفي الإسلامي في حلب، ودور المطبوعات المسيحية في عصر النهضة، والتسامح الديني من خلال نصوص إسلامية ومسيحية مبكرة. وفي تاريخ المدينة الثقافي وحياتها الفكرية، ثمة بحوث في الأدب الروائي والطبّ والفلسفة والموسيقى والعمارة، وأخرى في أعلام المدينة (وهم كثر! بين المحدثين وحدهم نجد عبد الرحمن الكواكبي، خير الدين الأسدي، إبراهيم هنانو، سعد الله الجابري، شكيب الجابري، عمر أبو ريشة...)، وأخرى في اللغات، واللهجات، والآثار، والمساجد التاريخية، وأدب الرحلات.
وبالطبع، لا يستقيم الحديث عن حلب دون الخوض، وربما ضرورة الإسهاب، في وصف الحياة الشعرية للمدينة. وهذا الشطر يتضمن عناوين مثل "حلب في عيون الشعراء"، "المعري في حلب"، "البحتري في حلب"، "الصنوبري شاعر الطبيعة ومؤرخها"، "بين خالد بن الوليد وعمر أبو ريشة" و"شعراء حلب في القرن العشرين". ثمّ... كيف يمكن لحديث كهذا أن يكون وافياً بأيّ معنى، إذا لم يتوقف عند أبي الطيّب المتنبي، صاحب الأبيات الأشهر:
نحن أدرى وقد سألنا بنجدٍ | | أقصيرٌ طريقنا أم يطولُ |
وكثير من السؤال اشتياقٌ | | وكثير من ردّه تعليلُ |
كلما رحّبتْ بنا الروضُ قُلنا | | حلبٌ قَصْدُنا وأنتِ السبيلُ |
والحال أنّ ثمة ورقة بعنوان "بيت المتنبي في حلب"، وسيجري ترميم البيت خصيصاً لهذه المناسبة، فضلاً عن محاضرة ثانية بعنوان "بين المتنبي وخولة". وما دمنا في حديث الشعر فإني لا أخفي انسياقي إلى تلك السطور الشهيرة من قصيدة والت ويتمان "تحية أيها العالم"، حيث يلقي الشاعر التحية على مدن إسلامية عديدة، بينها الجزائر وطرابلس وتومبوكتو وطهران ومسقط والمدينة، وحلب طبعاً. كذلك أتذكّر ذلك المستهلّ الصاعق من قصيدة ناظم حكمت "سيرة ذاتية"، والذي عدّه البعض أحد أنبل النماذج الشعرية على خيانة الطبقة: "ولدت في 1902/ ولم أعد إلى مسقط رأسي بعدها/ وفي الثالثة خدمت حفيداً لباشا في حلب...".
حلب هذه عريقة عتيقة سامية حاضرة في التاريخ كما في الوجدان، عابرة للحدود والمحيطات والأزمان، والشاهدة على أحقاب من عمر الإنسانية قلّما قُيض لمدينة أن تشهدها. فهل ستلتقط وزارة الثقافة السورية قفاز التحدّي منذ الأسبوع الأوّل لانطلاق الفعاليات، أم على العكس: سوف تلقي بالمنشفة أرضاً، وكفى الله بيروقراطييها شرّ القتال؟