صبحي حديدي
(سوريا/باريس)

صبحي حديديقبل أيّام نشرت أسبوعية "لونوفيل أوبزرفاتور" الفرنسية حواراً مع محمود درويش، عميقاً كالعادة وطافحاً بالأفكار اللامعة، قال فيه ما معناه (إذْ أترجم هنا عن الفرنسية): "إنّ الفلسطيني الجدير بهذا الاسم ينبغي أن يغتني بكلّ الثقافات التي كوّنته، من البابلية والسومرية والفارسية والعثمانية إلى تلك اليهودية والمسيحية والإسلامية، وإنها لفرصة طيبة أن ينتمي المرء إلى بلد تشرّب ثقافات قديمة عريقة". وإذْ أوضح درويش انّ علاقته بالتوراة أدبية صرفة، أشار إلى أنّ البعض يعتبر إحالاته التوراتية "خيانة أو تواطؤاً مع الآخر، العدوّ". ذلك لا يعني، يتابع درويش، أنه ليس من الشاقّ على أمريء محاصَر مطوّق واقع تحت القصف أن يفلح في الاستمتاع بجمال "نشيد الإنشاد"!

الفاجع أكثر أنّ الأمر لا يقتصر على إساءة فهم هذه العلاقة الأدبية مع التوراة، عن عمد أو جهل أو تعصّب، بل يبلغ عند بعض الجهابذة درجة اتهام درويش بالتخلّي عن شعر المقاومة (أياً كان المقصود بهذا الشعر وتلك المقاومة)، وعن هذا يقول درويش في الحوار ذاته: الشعر في فلسطين هو معركة من أجل تحرير اللغة من الاحتلال، والتحدّي الحقيقي هو أنّ لغتنا ذاتها خاضعة لقهر الاحتلال، والمحتلّ ينتظر منّا أن لا نتحدّث إلا عن معاناتنا. أن يكون المرء فلسطينياً، فهذه ليست مهنة بل هي تأكيد على أنّ الكائن البشري، حتى في شقائه، يستطيع أن يحبّ شروق الشمس وشجرة اللوز المزهرة. وإنّ كتابة قصيدة تحت الاحتلال هي شكل من أشكال المقاومة".

والحال أنّ لائمي درويش اليوم يتجاهلون، أو لعلّهم ببساطة يجهلون، أنّ مواقفه من مسائل كهذه ليست جديدة، بل الأحرى القول إنها اقترنت على هذا النحو أو ذاك بمختلف أطوار تجربته الشعرية. ولسوف أستعيد مثالاً واحداً، واضحاً تماماً في دلالاته، ومفاجئاً في خاتمته الفعلية. ففي أواسط الستينيات، في ذروة الإنكشافات الكبرى التي أعقبت هزيمة الخامس من حزيران (يونيو) 1967، كتب محمود درويش قصيدته الشهيرة «جندي يحلم بالزنابق البيضاء»، ظهرت بعدئذ في مجموعته الشعرية «آخر الليل». خصوصية تلك القصيدة تمثّلت في أنها تلتقط شخصية الجندي الإسرائيلي على نحو مغاير للتنميطات المعتادة السائدة في الخطابات الأدبية والسياسية والإيديولوجية في العالم العربي آنذاك. كان ذلك الجندي الإسرائيلي، العائد لتوّه من حرب ضدّ العرب، لا يتغنّى بأيّ حلم صهيوني أو توراتي، ولا يفصح عن أيّ مطامع استيطانية، ولا يعرب عن أيّ مشاعر عنصرية ضد أعدائه العرب. إنه يحلم بالزنابق البيضاء، أو بغصن زيتون، أو بطائر يعانق الصباح، أو بزهر الليمون. «الوطن» عنده يُختصر في احتساء قهوة أمّه، وفي العودة إليها آمناً آخر النهار. الأرض؟ «لا أعرفها/ ولا أحسّ أنها جلدي ونبضي/ مثلما يُقال في القصائد»، يردّد الجندي. ولكن، هل يحبّها؟ «قد علّموني أنّ أحبّ حبّها/ ولم أحسّ أن قلبها قلبي/ ولم أشمّ العشب، والجذور، والغصون»، يردّ الجندي الكوزموبوليتي بامتياز.

ورغم وصولها متأخرة إلى العالم العربي، ورغم «الدلال» الخاصّ الذي كان محمود درويش يحظى به آنذاك، فإنّ ردود الفعل على القصيدة لم تخل من عصبية واضحة في رفض هذه الأنسَنة لشخصية الجندي الإسرائيلي. وعلى سبيل المثال كتب الشاعر الفلسطيني يوسف الخطيب، في مقدّمة «ديوان الأرض المحتلة» تحديداً، معترضاً مشككاً: «أيّ نمط إنساني، عجيب حقاً، ذلك الذي جاء من بولندة، أو رومانيا، أو إتحاد جنوب أفريقيا، من أجل أن يبحث عن زنابق بيضاء في الجولان، أو في الغور الأدنى، أو في سيناء؟ إنّ هذا الإنسان، سواء أكان في هيئة عامل أو في هيئة مزارع، أو في هيئة جندي يحلم بالزنابق البيضاء، لا يكاد يختلف شيئاً عن أيما ضابط هتلري قام بواجبه العسكري على أكمل وجه في ساحة القتال، أو في أحد أفران الغاز، ثم عاد إلى نفسه ليسكر ويبكي، ويتأمّل صورة زوجه وطفله الرضيع اللذين تركهما في برلين».

محاججة يوسف الخطيب كانت تفيد التساؤل المشروع التالي: أيعقل أن يكون هذا «النمط» حقيقياً بالفعل؟ محمود درويش، من جانبه، كان يعرف أنّ ال "نعم" هي الإجابة الوحيدة على ذلك التساؤل، وأنّ حكاية القصيدة فعلية وليست متخيّلة. أما خاتمتها، التي تحققت بعد سنوات طويلة، فإنها كانت مفاجئة مدهشة: روى لي الصديق الكاتب والمؤرّخ الفلسطيني إلياس صنبر أنّ إحدى أقنية التلفزة الفرنسية دعته قبل سنوات إلى حوار حول السلام مع أكاديمي إسرائيلي، فاكتشف صنبر أنّ شريكه في الحوار هو ذاته الجندي الذي كان يحلم بالزنابق البيضاء!

تتمّة الحكاية أنّ ذلك الجندي ليس اليوم معارضاً لسياسات الأحزاب الإسرائيلية في الموضوع الفلسطيني فحسب، بل هو بين أفضل الإسرائيليين اليساريين المدافعين بشدّة عن الحقوق الفلسطينية. ذلك، بالطبع، لا يؤنسن في شيء مشاركته في احتلال فلسطين، وفي الآن ذاته لا يسقط عن القصيدة الحقّ في "جعل اللامرئي مرئياً، والمرئي لامرئياً" كما يقول درويش اليوم في الحوار مع الأسبوعية الفرنسية. للشعر هشاشة العشب، يتابع القول، ولكن يكفيه قليل من الماء وشعاع شمس كي ينبت ويشبّ!

القدس العربي
2006/02/27