صبحي حديدي
(سوريا/باريس)

لغرناطي فدريكو غارثيا لوركامرّت قبل أيام الذكرى السبعون لاغتيال الشاعر الإسباني الغرناطي فدريكو غارثيا لوركا (1898 ـ 1936)، قتيل الفاشية الإسبانية وضحية التزمّت والرجعية والتعصّب، ليس دون تذكرة بالأنساق السياسية ـ الثقافية لطراز من الفاشية لا يرقد ويستكين إلا لكي يستفيق ويستشري. ففي غرناطة، بعد ظهيرة 17 آب (أغسطس) 1936، جرّدت السلطات الفاشية الإسبانية حملة واسعة مدججة بالسلاح لتطويق واعتقال الشاعر، وفجر يوم 19 اقتيد إلى بقعة قريبة من فوينتي غراندي، أو «نبع الدموع» حسب تسمية عرب الأندلس، حيث تولّت مفرزة فاشية خاصة إعدامه رمياً بالرصاص.
لم يكن لوركا عضواً في أية حركة سياسية، وليس ثمة إشارات سياسية مباشرة في شعره، وقد شدّد مراراً على أنه يرفض التفسير السياسي لقصائده ومسرحياته. لقد نشأ في كنف الأرستقراطية الإسبانية، وعاش حياة مرفهة منعمة، ولم يخف رغبته في النأي بنفسه عن اضطرابات بلده السياسية، والتأكيد على أنه شاعر أسطورة لا شاعر أفكار، والأسطورة تبدأ من نقطة انتهاء الأفكار (وانتهاء الإيديولوجيات). وقد يضيف المرء أنّه كلما تحتّم أن تحمل أعماله رسالة اجتماعية ما، ظاهرة أو حتى خافية، فإنها كانت غالباً تبدو ذات طابع محافظ.
لكن لوركا كان جزءاً لا يتجزأ من الحركة الديمقراطية الإسبانية، لأسباب أشدّ عمقاً وتعقيداً من حكاية الانتماء أو النأي بالنفس عن السياسة. وكانت تلك الأسباب لا تبدأ من مسائل التأويل وتفكيك الرموز وتحميل المعنى دلالات من خارجه، بل كانت تضرب بجذورها عميقاً في دينامية النصّ الأدبي ذاته، وكيف أنّ علاقاته الإيصالية يمكن أن تستقلّ في حقبة اجتماعية وسياسية محددة، وتسبغ على المعنى طبيعة متغايرة، تتبدّل تبعاً للمتلقيّ. وعلى سبيل المثال، عُرضت مسرحية لوركا التاريخية «ماريانا بينيدا» للمرّة الأولى عام 1927، حين كانت الدكتاتورية العسكرية في أوج أزمتها، والعرش يهتز، والحركة الديمقراطية تعزز مواقعها كل يوم، والجماهير تبحث عن وسائل التعبير. أبسط الكلمات كانت مرشحة آنذاك لاحتمال المعنى الآخر والدلالة المشحونة والرمز الضاغط على الأذهان، فتحوّل عرض المسرحية إلى تظاهرة شعبية، رغم أنّ العمل كان أقرب إلى تكريس القيم الرجعية وليس التقدمية (بمقياس ذلك الزمان على الأقل).
وإلى أهميته كشاعر ومسرحيّ وشخصية حداثية في الأدب الإسباني، لا بدّ أنّ حياة لوركا انطوت على الكثير من العناصر الإنسانية الثرّة والدرامية التي تبرّر هذا المقدار الواسع من الاهتمام بسيرته، حتى يلوح وكأنّ سرد وقائع حياته لن ينفد في أيّ يوم! على سبيل المثال، كتاب ليسلي ستاينتون «غارثيا لوركا: حلم بالحياة» يتناول ما ينبغي أن تتناوله سيرة لوركا بالذات (محطات حياته بين مدريد ونيويورك وهافانا ومونتيفيديو وبيونس أيريس، موقع الأندلس في وجدانه وأدبه، موقع غرناطة، علاقته بالثقافة العربية الإسلامية إجمالاً وتراث قصيدة الغزل والموشح بصفة خاصة، شخصية الغجري بوصفه رمز الترحال والحرية والفنّ والحسّية، صعود الفاشية، مقتل الشاعر، ...).
وإذا كانت ستاينتون تتناول ذلك كلّه، فما الذي يمكن أن تجيء به، بعد أكثر من 14 سيرة، بلغات إسبانية وروسية وإنكليزية وفرنسية وألمانية؟ بل ما الجديد الذي يمكن أن تضيفه، هي أو سواها، إلى السيرة الممتازة الجامعة المانعة التي أصدرها إيان غيبسون سنة 1989، في مئوية لوركا؟ أو إلى كتاب غيبسون الكلاسيكي، «اغتيال فدريكو غارثيا لوركا»، الذي يحقّق في تفاصيل مقتل الشاعر على نحو «بوليسي» مدهش بالفعل، الأمر الذي اضطر نظام فرانكو إلى حظر تداوله فور صدوره سنة 1971؟
ولكن... ألم يكن غيبسون نفسه خير من أدرك إغواء سرد وإعادة سرد سيرة لوركا، ففاجأ العالم بكتاب ثالث عن لوركا صدر سنة 1992 بمناسبة الذكرى الخمسمئة لسقوط غرناطة؟ فما الذي أضافه إلى كتابَيه السابقين؟ لقد اقترح على عشاق الأندلس، وعشّاق لوركا بالطبع، عشر جولات سياحية (نعم: سياحية، محضة!)، تقود زائر الأندلس من مسقط رأس لوركا إلى البقعة التي شهدت اغتياله، على أن تختلط في الرحلة خرائط الطرق ووسائل النقل والأسعار والفنادق الرخيصة ومحطات التزوّد بالوقود، بخرائط الشعر والنثر والموسيقى والذاكرة!
ها هنا بلازا ديل ليبرتاد القريبة من البوابة العربية آركو دي ألفيرا، التي قال عنها في قصيدة «غزال سوق الصباح»: «عبر بوّابة ألفيرا/ رغبتُ في مروركِ/ رغبت في معرفة اسمكِ/ والإنخراط في البكاء». وهنا «ديوان التمر» الذي سيتحوّل إلى عنوان لمجموعة قصائد كتبها على شرف شعراء غرناطة العرب. وهناك بارانكو دي فيزنار، الأخدود المشؤوم الذي شهد دفن عشرات الضحايا بعد اغتيالهم في بساتين الزيتون القريبة. ودائماً ثمة غرناطة لوركا، تلك المبنية على عدد من التلال، تفصلها عن المتوسط سلسلة جبال سييرا نيفادا التي تربض عند أقدامها بساتين الفواكه القارّية، والثلوج الأبدية، والمياه الدافقة، والسهل الخصيب المنبسط تحت سماء صيفية حارقة...
وكما لا تستكين الفاشية إلا لكي تستفيق أكثر شراسة، كذلك فإنّ فدريكو غارثيا لوركا لا يرقد إلا لكي يواصل ذلك الصحو اليوميّ الفريد: في الضمائر كما في العقول، وفي القصيدة كما في التاريخ، وفي الماضي كما في الحاضر.