لم يكن تفصيلاً هامشياً أن تشدّد معظم المراجعات التي تناولت كتاب محمود درويش الأخير "في حضرة الغياب"، رياض الريس للكتب والنشر، على شعرية النثر ونثر الشعر، فضلاً عن صيغة "النصّ الشعري المفتوح" التي اقترحها الشاعر اللبناني بول شاوول. وليس مردّ هذا أنّ درويش يمزج ـ على نحو بيّن صريح هذه المرّة، عن سابق قصد وتصميم، وأكاد أقول: ضمن تصميم عالي القصدية، شديد الموازنة ـ بين قول شعري تفعيلي وقول شعري نثري، فحسب؛ بل أيضاً، في ظنّي الشخصي، لأنّ هذه الكتابة قد تكون ذروة جديدة في ما ينهمك به درويش منذ سنوات طويلة: جَسْر الهوّة بين وزن الشعر ونثر الشعر، وبالتالي بين تسميتين شاعتا واستقرّتا رغم ما تعانيانه من تعسف إصطلاحي ومفهومي، أي "قصيدة التفعيلة" و"قصيدة النثر".
ومن جانبي أرجّح أنّ ما في جعبة درويش من جديد في سياقات هذا الاشتغال، وربما في صيغة "النصّ الشعري المفتوح" تحديداً، كثير وافر عامر ثرّ وغنيّ، على نحو قد يتيح للمرء أن يغامر باجتراح نبوءة من نوع ما، مفادها أن هذا الانهماك سوف يثمر المزيد من الأعمال ضمن الأسلوبية ذاتها. ولعلّ الذين قرأوا "يوميات" درويش في العدد الأخير من فصلية "الكرمل" سوف تشدّهم النبوءة ذاتها، عن خيارات لا تبدو البتة بعيدة عمّا أسماه إدوارد سعيد "الأسلوبية المتأخرة"، حين يستجمع الفنّان معظم أساليبه السابقة في مزيج فريد جديد غير منقطع، في الآن ذاته، عن خصائص الماضي.
ورغم أنّ خيار درويش هذا ينبغي أن يبهج أهل الشعر بلا استثناء، تماماً كما يبهجنا أن يشتغل شاعر قصيدة النثر على العمارات الإيقاعية في القصيدة بما يكفل تقريب المسافة بين وزن ونثر في الكتابة الشعرية، أو حين يقرر الشاعر ذاته كتابة قصيدة التفعيلة أو تجريب النصّ المَزّجي، فإنّ البهجة ليست دون منغصات عديدة، أقلّها أذىً تلك التي تأخذ هيئة سوء الفهم، بدل إساءة الفهم. ثمة ثلاثة، بين أخرى أقلّ أهمية، في طليعتها خرافة تتردد على نطاق واسع، حتى باتت أمراً مسلّماً به: أنّ محمود درويش يرفض أن يطلق على ما يكتبه من نثر شعري تسمية قصيدة نثر، لأنه ببساطة لم يكتب قصيدة نثر أبداً.
والحال أنّ التسمية ليست مهمّة درويش، أو أيّ شاعر يقارب نصّاً لا تبدو حدوده الأجناسية قاطعة جليّة مسلّماً بها، فهذه مهمّة القارىء والدارس من جانب أوّل، كما أنّ من واجب المبدع أن يخفي أغراضه ذات الطابع التجريبي في الشكل والمضمون، تفادياً لتوريط المتلقي في ما يسمّيه النقد "مغالطة القصد"، من جانب ثانٍ. وأمّا الخرافة فإنّ مصدرها الكسل والإهمال وقلّة المتابعة، لكي لا نقول الجهل ببساطة، لأنّ درويش لم يكتب قصيدة نثر واحدة فقط، بل ستّ قصائد! ولست أقصد المزج بين تفعيلة ونثر في المقطع الواحد ذاته، بل أقصد هذا بالضبط: قصيدة نثر متكاملة، مستقلة، خالصة، قائمة على النثر وحده.
ففي مجموعته "أحبك أو لا أحبك"، 1972، تتألف قصيدة "مزامير" الطويلة (أكثر من 350 سطراً) من 12 قصيدة، نصفها قصائد نثر، بل إنّ هذه القصائد أطول من شقيقاتها الموزونة، وثمة الكثير من العناصر الفنية التي تغري الدارس المعنيّ بالرصد والمقارنة بين مادّتَيْ كتابة شعرية، من الشاعر ذاته وفي القصيدة الطويلة ذاتها. وكان من واجب الكسالى أن يثبّتوا حقيقة وجود هذه القصائد (التي، للإيضاح الضروري، لم يتخلّ عنها درويش ونجدها في جميع أعماله الكاملة، بما فيها طبعة رياض الريس 2005)، ولهم بعدها أن يروا فيها ما شاؤوا من رأي، رغم أنّ المنطق يفضي تلقائياً إلى القول إنهم ينبغي أن يسعدوا بها!
النسق الثاني يصدر عادة عن صغار كتبة قصيدة النثر، ممّن يعتبرون أنّ من المحرّم على شاعر مثل درويش أن يكتب ما يوحي بقصيدة النثر من قريب أو بعيد، لأنّ هذه مملكة مغلقة لا ينبغي أن يدخلها إلا الأطهار الذين لم يقترفوا ـ في أيّ يوم، في المطلق ـ إثم كتابة قصيدة التفعيلة! ما يثير الضحك أنّ هؤلاء يرون في أعمال درويش الأخيرة أجندات تخريبية خفية، ضدّ ملكوت قصيدة النثر إجمالاً، وضدّ فراديس كتّابها الشباب بصفة خاصة. وأمّا ذاك الذي يلفت الانتباه في هذا الرهاب الطريف، فهو أنّ العباقرة إياهم يدركون جيداً طبيعة ما تنطوي عليه هذه الأعمال من سطوة جمالية عالية تدفعهم، عن وعي تامّ وليس بالمصادفة، إلى... تقليد درويش!
وبالطبع، النسق الثالث مكمّل للنسق الثاني ولكن في صفّ كتبة قصيدة التفعيلة، أو بعض دارسيها، ممّن يرون في أعمال درويش الأخيرة تنازلاً عن التفعيلة، ثمّ عن أصول الشعر، بل أصالة التراث بأسره استطراداً، وأخيراً: التخلّي عن... القضية الفلسطينية، ليس أقلّ! بعضهم، وهم الأكثر جدية ربما، خاضوا السجال ليس بغضاً بقصيدة النثر بل تقديساً لجوهرانية الوزن، حيث التقسيم عندهم قاطع حاسم منزل: إمّا وزن، وإما نثر.
وغنيّ عن القول إنّ تأثيرات هذه المنغصّات ليست ضئيلة محدودة منعزلة فحسب، بل المفارقة أنها تجعل تجارب درويش (الجديدة، الحداثية، الصعبة بهذا القدر أو ذاك، على قارئه المعياري) أوضح إشكالية في الجانب الفنّي، وبالتالي أرقى استقبالاً. آلَف من حَمام مكّة، كما تقول العرب...