لندن ـ القدس العربي : قبل نحو عشرة أيام توفي الماغوط، أحد أهم رواد القصيدة العربية الجديدة التي تسمي قصيدة النثر ، وقد كُتب الكثير في وداع الشاعر والمسرحي السوري الذي رافق أبرز منعطفات الحياة السياسية والثقافية العربية كتابة وتعليقا، غلب عليهما، بالطبع، الاحتجاج والنقد علي الحال العربية.
نتوقف في ما نأمل، أمام منجز الماغوط الإبداعي علي نحو أكثر شمولاً وعمقاً، بحيث لا تطغي ذكري المناسبة الحزينة علي قراءة منجزه، والرثاء علي التأمل المتبصر.
شعراء ونقاد عرب من بلدان وأجيال لاحقة علي الماغوط تلقي، هنا، نظرة متفحصة علي نتاجه.
محمد الماغوط: مناشدة البصيرة واستفزاز الباصرة
في أواسط الخمسينيات من القرن الماضي، لم يكن مألوفاً (وبالتالي كان جديداً صادماً ينطوي علي مغامرة ومجازفة) أن يختار شاعر لقصيدته عنواناً يسير هكذا: جنازة النسر ، في اتكاء علي صورة برّية تماماً، عالية الانتهاك لشيفرات التصوير المعتادة، منسرحة التخييل، متنافرة الطرفين (الجنازة/ النسر)، وشاعرية آسرة لافتة في آن. ولم يكن مألوفاً، ضمن اعتبارات عديدة جمالية وثقافية وحتى تاريخية وسوسيولوجية، أن تبدأ القصيدة ذاتها هكذا:
أظنها من الوطن
هذه السحابة المقبلة كعينين مسيحيتين
أظنها من دمشق
هذه الطفلة المقرونة الحواجب
هذه العيون الأكثر صفاءً
من نيران زرقاء بين السفن.
أيها الحزن.. يا سيفي الطويل المجعّد
الرصيفُ الحاملُ طفلَه الأشقر
يسأل عن وردة أو أسير،
عن سفينة وغيمة من الوطن...
في الفترة الزمنية ذاتها، وضمن سياقات متماثلة تقريباً من الصدم والمغامرة والمجازفة، لم يكن مألوفاً أن يطلق قاصّ اسم الأغنية الزرقاء الخشنة علي قصة قصيرة لا يتجاوز حجمها ستّ صفحات من القطع المتوسط، وأن تبدأ فقرتها الأولي هكذا: نهر المخلوقات البشرية تسكع طويلاً في الشوارع العريضة المغمورة بشمس نضرة، حيث المباني الحجرية تزهو بسكانها المصنوعين من قطن أبيض ناعم ضغط ضغطاً جيداً في قالب جيد. وتعرّج النهر عبر الأزقة البيضاء وبين المنازل الطينية المكتظة بالوجوه الصفراء والأيدي الخشنة، وهناك امتزجت مياهه بالدم والدموع وبصديد جراح أبدية، وعثر النهر في ختام رحلته علي نقاط مبعثرة بمهارة، مختبئة في قاع المدينة، فصبّ فيها حثالته الباقية.
كان الشاعر هو محمد الماغوط (1934 ـ 2006)، وكان القاصّ هو زكريا تامر (1)، وبينهما وعلي أيديهما كان النثر السوري يعيش طوراً استثنائياً من التحوّل والتحويل والانقلاب الجذري، ليس فقط علي صعيد مختلف أنساق شَعْرَنة ما نُدرجه تحت تصنيف نثر الحياة اليومية، وتلك سيرورة كانت قائمة علي هذا النحو أو ذاك في كلّ حال، بل كذلك في ترقية هذه الخيارات التجريبية إلي مستوي المختبر المفتوح الموضوع علي محكّ القراءة من خلال نتاج شعري وقصصي سوف يتواصل ويتنامي ويتراكم، متجاوزاً روحية التجريب العابرة الطيّارة.
وفي مناسبة سابقة، بصدد أدب زكريا تامر تحديداً، الذي اعتبرت أنه مختبر تعبيري فريد قبل أن يكون ظاهرة هي نسيج وحدها في القصة العربية، كان يقيني أنّ ذلك الطور الذي عاشه النثر السوريّ يظلّ حالة مدهشة من التجاوز الدائم (الأقرب إلي الترقية العضوية) للنظام التجريدي ذاته الذي تميل اللغة إلي اعتماده في إنشائها للعالم ولدلالات ومدلولات العالم. ونحن أمام كتابة هي، في واقعها القرائي كما في أدواتها التعبيرية العاملة فوق وتحت سقوف النوع الأدبي، عمليات قلب راديكالي للمنطق ذاته الذي يحكم اتصال وانفصال الوظيفتين الشعرية (التي تتوسل الشعر) والخطابية (ذات الصلة بمعاجم الحياة اليومية) في اللغة، الأمر الذي يسفر عن كيمياء شعرية استثنائية فذة، تنتزع لنفسها حقّ استدخال الكابوس (الكوني) في الحلم (الفردي)، والمعاناة الإنسانية الشاملة بالعذاب العبقري الذي يجتاح هذه النفس البشرية او تلك.(2)
كنت أقول هذا عن نثر زكريا تامر، لكنني كنت وأظلّ أقصد به نثر الماغوط أيضاً، أي شعره استطراداً. ولم يكن تفصيلاً غريباً، أو بحاجة إلي تبصّر إضافي أو تنظير من أيّ نوع، أنّ الكائن البشري حامل تلك الشيفرات النثرية الاستثنائية لم يكن البتة استثنائياً أو خارقاً أو بطولياً أو أسطورياً، تموزياً صانع النماء أو سيزيفياً حامل الصخرة، بل كان نقائض هذا كلّه علي وجه الدقة: كان الشريد والصعلوك والصغير والخائف والكسير والأسير، أو كان نقيض البطل والـ Anti-hero كما في الاختصار الدقيق الذي ينقله المصطلح الغربي. وهذا يفسّر طبائع استقبال نثر الماغوط وتامر في تلك الأيام، حيث امتزج بعض الإعراض بالكثير من الدهشة والانبهار والإعجاب والحيرة، رغم أنّ مناخات الحداثة والتحديث كانت علي قدم وساق آنذاك، وكان النصّ الأدبي العربي، شعراً ونثراً، يدخل في مطحنة لا تتوقف رحاها عن تبديل الأساليب وتحويل الأشكال.
وعلي سبيل المثال، في عام 1959، وفي مجلة شعر اللبنانية دون سواها، كتبت خزامي صبري (التي سنعرف، فيما بعد، أنها خالدة سعيد) مراجعة لمجموعة الماغوط حزن في ضوء القمر ، وكانت قد صدرت أصلاً عن منشورات المجلة. والمراجعة تظلّ لافتة اليوم أيضاً، ليس لأنّ صبري/سعيد كانت سبّاقة إلي استكشاف النصّ الماغوطي وتسجيل إشارات نقدية مبكرة ولامعة تماماً حول خصائص شعره فحسب، بل لأنّها امتدحت فيه كلّ خصيصة... ما عدا الشعرية! وبعد أن اعتبرت هذا النثر الشعري شعراً ، استقرّت دون إبطاء علي أنّ قصيدة الماغوط عقد من الصور، ولو أنها غير مرتبة وفق اتجاه أو تسلسل معين ؛ وأنّ الصورة قوام التعبير الشعري عند محمد الماغوط، وتكاد تكون الوسيلة الوحيدة لولا لمحات من الأصوات الداخلية في قصيدة أو قصيدتين من المجموعة ؛ وأنه يعرف جيداً من أين يغرف مادة صورته (أو لعله لا يعرف) ، وأنّ صوره لا تكشف غالباً عن علائق جديدة تتخطي العلائق الشكلية ، وهي تبقي باردة لأنها إنما تنقل الواقع أو العلاقات الحسية المنطقية ...
كذلك فإنّ الصورة الماغوطية هذه مسطحة لا عمق لها، لأنّ العمق أو البعد الثالث في الصورة ينبع من العلاقة المعنوية التي توحي بما هو أبعد من الأشكال المحسوسة التي تمرّ في خيال القارىء ساحبة وراءها نهراً من الرؤى والخواطر والمواقف . وتضيف صبري/سعيد، في ما يشبه تجريد الماغوط من صفة الشاعر بعد منحه صفة المصوّر السطحي: ولو كان محمد الماغوط متمكناً من فنّ الشعر لاستفاد كثيراً وحوّل هذا التخلخل الناجم في نظرها عن عدم اعتماد الماغوط الخطّ المستقيم أو أسلوب السرد القديم ، ولا الأسلوب الدائري الحديث ف إلي أسلوب خاصّ . ثمّ تذهب أبعد فتقول: إنّ شعر الماغوط يفتقر إلي الحركة الداخلية، لأنّ الصوت في القصيدة يكاد يقتصر علي النداءات والأوصاف. الانفعالات في القصيدة تتموّج تموّجاً خفيفاً يكاد لا يبدو، مما يضفي عليها صفة الرتابة والتكرار، لأنه مهما كان الانفعال متوتراً عالياً سينتهي في نفس القارىء إلي البرود إذا لم يتموّج بعنف مماثل. شعر محمد الماغوط بحاجة إلي روافد جديدة من الأساليب والصور.(3)
صحيح أنّ الزمن، والتطوّرات الكبرى في النظرية النقدية حول البنية الشعورية للصورة الشعرية والصوت والهوية والحركة الداخلية في القصيدة، قد تكفّلت بتصويب أحكام صبري/سعيد القاسية المغلوطة تلك، إلا أنّ عدداً من السمات التي اعتبرتها الناقدة بين مثالب النصّ الشعري الماغوطي كانت ـ للمفارقة ـ تتصدّر الأسباب التي أكسبت شعره كلّ تلك الشعبية في تلك الحقبة، وجعلته شاعر مجموعة شعر الأعلى حظوة بالإجماع علي شعريته الفريدة، والأفضل استقبالاً عند القارىء العادي والقارئ النخبوي معاً، والأوسع انتشاراً خارج الدائرة الشامية اللبنانية ـ السورية. ونتذكر، في هذا الصدد، أنّ نصّ الإعلان التجاري عن صدور مجموعة حزن في ضوء القمر ـ والذي كانت تنشره مجلة شعر بوصفها الناشر، ولعلّ يوسف الخال نفسه هو كاتبه ـ كان يسير هكذا: هذه أوّل مجموعة تظهر لهذا الشاعر الفذّ الذي أوجد لنفسه طريقة جديدة في الأداء الشعري، فصادفت عند الشعراء تحبيذاً وعند القرّاء ترحيباً وحماساً. إنه وجه طالع مشرق في هذه المرحلة من نهوض الشعر العربي .
والحال أنّ الصورة، أو بالأحرى تلك الشبكات التشكيلية الأقرب إلي الصورة العميقة في تعبير نوام شومسكي، كانت في طليعة العدّة التعبيرية الجبّارة التي يسّرت صعود نصّ الماغوط وعبوره إلي شرائح واسعة من القرّاء، وبالتالي أتاحت تكريس هذه الشعرية الجديدة الطازجة النضرة غير المألوفة. كذلك كانت قد أسبغت ـ ليس دون مفارقة كبري، هنا أيضاً! ـ شرعية عالية علي ذلك النثر الشعري أو الشعر المنثور أو النثر الفنّي الذي سيجتمع بعدئذ تحت تسمية ملتبسة بدورها هي قصيدة النثر ، أكثر ممّا فعلت نماذج توفيق صايغ وأنسي الحاج وأدونيس ويوسف الخال وتيريز عواد وجبرا إبراهيم جبرا. كان الماغوط يقول:
أنا طائر من الريف
الكلمة عندي أوزة بيضاء
والأغنية بستان من الفستق الأخضر
فيدخل الحسّي الطبيعيّ في فضاء مفتوح من ترجيح العلاقات الشعورية والبصرية وحتى الصوتية، دون أن تخامر القارىء المنخرط في هذا الفضاء التخييلي أيّ أحاسيس بأنّ شيئاً من عناصر التصوير قديم عنده أو مرّ في ذاكرته، والأرجح أنه بذلك لن يشعر برتابة من أيّ نوع. وكان الماغوط يقول:
يا قلبي الجريح الخائن
أنا مزمار الشتاء البارد
ووردة العار الكبيرة
فتضرب هذه النبرة الغنائية الطافحة في جذور عميقة من وجدان الندب الذاتي العربيّ، وتستفيق انفعالات جامحة ليست بمنأى عن تراث الحزن التلقائي الدائم الأشبه بطبيعة ثانية، وتتحفّز الذات المتأهبة أصلاً للجرح النرجسي، فكيف إذا كانت مترادفات هذه السطور تجمع ما يُجمع عادة دون كيمياء مزج شعرية ـ شعورية عالية البراءة! ثمّ يقول الماغوط:
مَن رأي ياسمينة فارعة خلف أقدامي؟
مَن رأي شريطة حمراء بين دفاتري؟
إنني هنا فناء عميق
وذراع حديدية خضراء
تخبط أمام الدكاكين
والساحات الممتلئة بالنحيب واللذة
إنني أكثر من نجمة صغيرة في الأفق
أسير بقدمين جريحتين
والفرح ينبض في مفاصلي
إنني أسير علي قلب أمّة.
فتنكسر كلّ محظورات المنطق الدلالي الذي لا يُبقي الشريطة الحمراء محض شريطة حمراء، ويطلقها بالتالي في ما كلّ يحلو للقارئ أن يستولده من حقول استدلال؛ ولا يجعل زجّ الآدمي في صورة الفناء العميق يمرّ في الذهن دون مضاعفات متعددة، بصرية ومادية ومجازية؛ والأرجح أنه يهزّ بصيرة القارىء، وانفعالاته غير المسطحة أبدا، إذ يعيد ترسيم صورة السير علي قلب أمّة، ولكن ليس دون أن يدخل البصيرة في استكشافٍ نشط لما يمكن أن يتحفّز في الباصرة بدورها.
وإذا كان البعض، علي مثال خزامي صبري/خالدة سعيد في الواقع، قد عدّ الصوت في قصيدة الماغوط يكاد يقتصر علي النداءات والأوصاف ، (رغم وجود فارق كبير بين النداء والوصف ومن الصعب أن يترادفا ضمن مأخذ واحد)، فإنّ مزاج النداء كان بدوره أحد الأسلحة الجبّارة (ولا أقول أبداً: الخفية!) التي جعلت شعر الماغوط، وربما النصّ الماغوطي عموماً، قريباً إلي نفوس القرّاء (علي اختلاف مستوياتهم، للتذكير ثانية)، وقادراً ربما علي استدراج الذائقة وتطويعها، عن طريق مناشدتها بوسيلة أحرف النداء تارة، أو استفزازها بأدوات التمنّي طوراً. ومن المعروف أنّ قصيدة من الماغوط يندر أن تخلو من يا ، أيها ، أيتها ، و ليتني ، الأمر الذي ينبع أوّلاً من حقيقة أنّ هذا المزاج الصعلوك الشريد الهامشي، وهذه الروحية النقيضة للبطل وللسوبرمان وللأسطورة، نزيلة الشوارع والأزقة والسعال والقرفصاء... لا تملك رفاه التنازل عن النداء والمناشدة، ولا ترغب في ذلك أصلاً.
بل إنّ مزيجاً، حادّاً بالفعل وعنيفاً، من هذا كلّه يجعله في بعض النماذج يقارب نكراناً للذات لا يشبه أيّ طراز سلبي من الخيانة الطوعية للهوية، لأنه في الواقع يبدو أشبه باحتضان العالم بأسره كما كان فرانز فانون يقول، من جهة؛ ويبدو، من جهة ثانية، مازوشياً ينطوي علي جلد الذات، والتطهّر عن طريق القسوة؛ ولكنه، من جهة ثالثة، يظلّ إنسانياً علي نحو كوزموبوليتي صارخ، كما في قصيدته الخطوات الذهبية :
آه كم أودّ أن أكون عبداً حقيقياً
بلا حبّ ولا وطن
لي ضفيرة في مؤخرة الرأس
وأقراط لامعة في أذنيّ
أعدو وراء القوافل
وأسرج الجياد في الليالي الممطرة
وعلي جلدي الأسود العاري
يقطر دهن اللوز الأحمر
وتنثني ركب الجواري الصغيرات
إنني أسمع نواح أشجار بعيدة
أري جيوشاً صفراء
تجري فوق ضلوعي.
وبذلك فإنني، وهذا ما شدّدت عليه مراراً في مناسبات مختلفة، أعتبر الماغوط الرائد الحقّ في ما نسمّيه اليوم قصيدة النثر العربية، ليس بمعني أنه كان شاعر النماذج الأولي والأبكر في هذا الشكل من الكتابة الشعرية (وهو شرف قد يصحّ أنّ الكثيرين يتنازعونه، من مصر إلي سورية إلي لبنان...)، بل في مستويات ثلاثة، تنضمّ إلي ما جاء من خصائص في السطور السابقة، وإلي اعتبارات أخري ليست أقلّ أهمية.
المستوي الأوّل أنّ الماغوط كان الرائد الأبرز في تفجير الطاقات الإيحائية والتعبيرية الهائلة التي ينطوي عليها النثر، بوصفه نثراً أوّلاً وأساساً، ثم في انقلاباته واستقلاباته الشعرية بعدئذ. وكانت فطرة الماغوط في هذا، هي فطرة الشعر الخالص، والشعر الطبيعي، والشعر الأعجوبة البسيطة التي لا يضلّ القارىء طريقه إلي عبقريتها. ورغم أنّ الماغوط لم يكن مصاباً بأيّ من فيروسات الشعر الفرنسي التي أصيب بها مجايلوه من شعراء قصيدة النثر العربية أواسط الخمسينيات، فإنّ نثره كان بحقّ نثر الحياة اليومية ، تماماً كما حلم به الشاعر الفرنسي بودلير منذ أواخر القرن التاسع عشر.
المستوي الثاني أنّ الماغوط تكفّل بنقل موضوعات قصيدة النثر العربية الخمسينية من الذهني والميتافيزيقي والتأملي الصرف، وهي الموضوعات التي كانت قد تسللت وهيمنت من خلال التأثر الطاغي بقصيدة النثر الفرنسية، إلي شؤون الصعلكة والتسكع والحرمان والحزن، والرعب من رجل الأمن ومن رمز لمقدّس سواء بسواء. ولسنا نعرف شاعر قصيدة نثر غاص إلي قاع الشارع كما فعل الماغوط، ونقل هواجس وأحلام ومخاوف وآمال مواطن الشارع؛ كما لا نعرف أنّ رائداً سواه نال مثوبته الكبرى في إقبال قارئ الشارع علي استقبال قصيدته بترحاب شديد، دونما جوازات سفر ووسائط بين النصّ الشعري والذائقة.
وفي المستوي الثالث كان الماغوط رائداً في الانتماء إلي حقبة الحديث والحداثيّ، وفي تجسيد طراز من الحداثة مركّب ومتعدد وتعددي ومستقلّ، فضلاً عن انطوائه علي حسّ ما بعد حداثي مبكر، في آن معاً. وأما الفضيلة الكبرى لتلك الحداثة فهي أنها لم تكن بالضرورة مطابقة لأيّ من الحداثات الغربية الشائهة المشوَّهة أو الناقصة المنتقَصة، التي شاع ابتسارها وتقليدها وتكريسها في خمسينيات وستينيات القرن الماضي. وفي هذا المقطع من قصيدة الماغوط الشهيرة أغنية لباب توما ، من مجموعته الأولي حزن في ضوء القمر :
ليتني حصاة ملوّنة علي الرصيف
أو أغنية طويلة في الزقاق
هناك في تجويف من الوحل الأملس (...)
ليتني وردة جورية في حديقة ما
يقطفني شاعر كئيب في أواخر النهار
أو حانة من الخشب الأحمر
يرتادها المطر والغرباء (...)
أشتهي أن أقبّل طفلاً صغيراً في باب توما
ومن شفتيه الورديتين،
تنبعث رائحة الثدي الذي أرضعه،
فأنا ما زلت وحيداً وقاسياً
أنا غريب يا أمّي.
ثمّة نصّ ينتمي إلي ذهنية الحقبة الحديثة في أنه يلتقط حالة اغتراب الوجدان عن العصر، مردّها ـ بين عوامل أخري ـ طغيان العقل وتراجع الروح وحيرة الكائن في ذلك كله؛ وينتمي إلي الحداثة في ثورته الشكلية واللغوية والاستعارية؛ كما ينتمي إلي الرومانتيكية (خصم الحداثة!) في أنّ نبرته الإجمالية تنهض علي حنين إلي الإنصهار في عناصر الطبيعة، وعلي توجع حزين ومرهف يخصّ الذات وفي أغوار الذات.
وتبقي إشارة إلي أنّ جميع الاقتباسات الشعرية السابقة (4) هي من مجموعة الماغوط الأولي، وذلك لأسباب ثلاثة: أنها كانت فاتحته الشعرية الأولي والأهمّ في تقديري، وتظلّ بالتالي الأرشيف الأفضل لتثمين شعريته؛ وأنّ إشكاليتها البدئية، في الموضوعات واللغة والشكل، كانت أكثر شدّة ـ أي: أكثر ثراءً وحيوية ـ في إطلاق السجال حول شعرية النثر وشرعية ما سيستقرّ بعدئذ تحت تسمية قصيدة النثر ، بما لا يُقارَن مع مجموعتيه التاليتين: غرفة بملايين الجدران 1960، و الفرح ليس مهنتي 1970؛ وأنّ المقام، هنا، يضيق عن الوقوف عند نتاجه الشعري كاملاً، ويقتضي دراسة مفصّلة مطوّلة.
القدس العربي- 2006/04/15