في خطوة سياسية رجعية أجاز مجلس النواب اقتراح تشكيل لجنة للتحقيق في مهرجان «ربيع الثقافة« وللأسف الشديد صفق النواب وهللوا لصاحب هذه الخطوة وباركوها وكأنهم يحققون انجازا عظيما يضاف الى انجازاتهم للشعب البحريني المغلوب على أمره!
ما هذا الشيء الخطير الذي يستحق تشكيل لجنة تحقيق من أجله؟! هل هذا الشيء فيه انتهاك لدستور بلادنا؟ هل فيه ما يعكر صفو المجتمع ويقوض الأمن العام؟ أو هل فيه قذف وشتم لواحد أو أكثر من الشخصيات الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية.. أو حتى النيابية؟! هل انتهت المشاكل ولم يتبق سوى المشاكل الثقافية فما هذا الذي يفكر فيه النائب المحترم صاحب الاقتراح الجهنمي الخطير؟ ان دول العالم تعتز بثقافاتها ومثقفيها وتقدرهم وتضعهم في مقدمة الصفوف كونهم المبدعين الذين يصنعون الجمال من الصخر.. ويحولون حياتنا الرتيبة الى حركة وينعشون مشاعرنا بفنونهم.. لكن في فكر ونظر هذا النائب يصبح النص الشعري انتهاكا سافرا للقيم والتقاليد..! وهو يعلم ان اقتراحه مجرد جعجعة أو محاولة للظهور ويتناسى ان بلادنا أرض الحضارات والثقافات ومن يحارب مثقفا كأنه يفتك بالأمة.. فالثقافة ليست شعرا أو غناء أو رقصا أو مسرحية انها الدين والفلسفة والاقتصاد والسياسة والرياضة لكن النائب يحصدها في الشعر وهو بالتالي يجعل نفسه عرضة للنقد والرأفة بحاله ويريد ان يفرض آراءه على الناس.. وبئس بلد تحارب الثقافة والمثقفين أو تستمع لقوى الظلام لقيادة المجتمع والتأثير فيه.
*****
واكبت الجاليات العربية بكثافة فعاليات ربيع الثقافة، وخصوصاً ليلة الافتتاح، حيث تمايل الجمهور بمختلف جنسياته وشرائحه طرباً وشارك مرسيل الغناء ليرسم له حلمه وقد بدا إلى الواقع أقرب.
لطالما حلم مارسيل بخلق نوعية ذات دلالة إبداعية برؤية مميزة في الكتابة الشعرية، تتيح له تحقيق الفكرة الجوهرية لما يسميه بالتحول الموسيقي للنقد بعناصر إبداعية يمتزج فيها الشعر مع الأشكال التعبيرية المسرحية بالرقص والدراما الموسيقية والغناء الفردي والجماعي، بالإضافة إلى التوظيف التقني لآليات العرض الفني الممتع في ذات الوقت، مثلما حلم الشاعر القدير قاسم حداد بطرح جديد ومميز للشعر.
لم يخف من واكب ليلة افتتاح الربيع من مختلف الجاليات استنكارهم لمهاجمة بعض خطباء المساجد والنواب للربيع وتشكيلهم للجنة التحقيق، معتبرين أن اللقطات الاستعراضية لم تكن مجانية، بل اقتضاها العمل الإبداعي لتعبر عن واقع الحب.
ولم يخف مارسيل ما يخالجه من إحساس بالحزن الإنساني والخجل الحضاري، لما آلت إليه أحلام الربيع الوردية من تيه في دهاليز التحقيق،
موضحا أنّه سواء في أعماله الفنية أو في سلوكه الشخصي ينطلق دوما من الحبّ ويمضي بلا تردد نحو الحرية من دون أن يخالجه أي شك في نزوع الكائن الإنساني نظريا إلى الحب والحرية إلا إذا كان هذا الكائن غير سوي. وما أكثر غير الأسوياء بيننا! ولكن الجميل يخرج دائما من رماد الحرائق مثلما أخبرني مارسيل ذات لقاء.
الوطن- 18 مارس
*****
في احدى الأمسيات الخاصة التي جمعتنا بالمطرب مارسيل خليفة قبل عامين تقريباً، وقد اشتملت الأمسية على عدد من فنّاني البحرين أيضاً، بدأ أحد المطربين البحرينيين، أو أحد المغنين البحرينيين كما يحلو للفنان البحريني خالد الشيخ تسميتهم،
بدأ بترنيم احدى أغاني كوكب الشرق أم كلثوم على العود، وقبل أن يبدأ هذا المغني بشدو أغنية (هجرتك يمكن أنسى هواك)، قفز مارسيل خليفة من كرسيه وقال: هذا يكفي، نحن نعرف هذه الأغاني ونحفظها عن ظهر قلب، بالله عليكم أسمعونا شيئاً من عندكم، نريد أن نسمع لوناً بحرينياً خالصاً، نريد أن نتعرف على فنونكم. هذه المصادفة وببساطة تعكس حال البرنامج الذي اشتمل عليه مهرجان ربيع الثقافة، ففي الوقت الذي نسعد فيه بوجود هذا الكمّ من الأدباء والفنّانين والمبدعين القادمين من شتى الأرجاء، ليقدموا ابداعاتهم على أرض البحرين، فإننا في الوقت نفسه نأسف لعدم اشراك الأدباء والفنانين والمبدعين البحرينيين المهمشين في مثل هذه الفعالية الضخمة، التي صرف عليها ومن دون شك مبالغ كبيرة كان بالامكان استغلال جزء منها لتوفير مناخ أفضل ودعم أكبر للمبدعين البحرينيين الذين يعيشون خريفاً دائماً وسباتاً أبدياً. رغم احترامنا وتقديرنا الشديدين للمبدعين قاسم حدّاد وخالد الشيخ وربما واحد من الفنانين التشكيليين، الذين يمثلون الحركة الأدبية والفنية في هذه الاحتفالية، فإن هناك أعداداً هائلة من المبدعين تمّ تجاهلهم واقصاؤهم تماماً. فما كان يمنع من أن يشتمل البرنامج على مسرحية أو أوبريت ضخم يشارك فيه الفنانون المسرحيون من الفرق المسرحية الأهلية؟ وأين دور أسرة الأدباء والكتّاب؟ ولماذا لم نقدم ابداعات الفنانين التشكيليين والمصورين الفوتغرافيين في معرض دائم خلال الاحتفالية؟ وأين ممثلو التراث البحريني من شعراء الشعر الشعبي، والفرق الفولكلورية البحرينية؟ أين فرقة البحرين للموسيقى التابعة لوزارة الاعلام التي يقودها الشاب البحريني خليفة زيمان، وأين المغنين البحرينيين من هذه الفعالية الثقافية؟ اننا بحاجة الى احداث توازن في الفعاليات القادمة بين ما لدينا من تراث ومخزون وابداع غزير الثراء، وبين ما يأتينا من تراث الغير. وهمسة أخيرة للمنظمين حتى يتحاشوا الوقوع في المحظور مثلما حدث في حفل الافتتاح، وحفل فرقة كركلا، أن عليهم تكوين لجنة وايفاد أعضاءها لمشاهدة العروض قبل دعوتهم الى البحرين، فباستطاعتهم التعديل والحذف وابداء الملاحظات. كما أنني أستغرب من دعوة شاعر في حجم (أدونيس) ليحضر أمسيته جمهور صغير في حيز مكاني ضيق!
*****
قبيل المشروع الإصلاحي المبارك بقليل، وقعت فاجعة طيران الخليج المشهورة، وحين حاول بعض الصحافيين تغطيتها عن قرب كما يفعل أي صحافي يكسب قوته بالحلال، تقدم منهم أحد (الربع) المدججين بالأوسمة والمنوط بهم حفظ النظام وأمن الدولة ، وسألهم ، بترفع مارد، من شناق بن عناق ، على حفنة شاردة من يأجوج ومأجوج: من تكونون ؟!.. قالوا : صحافة، فرد: اغربوا من هنا، بلا صحافة ولا سخافة؟
قبل أيام، جرت حادثة ربيع الثقافة التي يجري مثلها الكثير يومياً هنا وفي كل أمكنة العالم ولا يكاد بيت هنا أو في غير مكان، يفلت من مشاهدة مثلها عبر شاشة التلفزيون أو صفحة جريدة أو كتاب ، فلا تستثير رؤيتها في الناس البالغين ، غير همة جنسية - ربما - موتورة بأقواس الكبت أو الشعور بالذنب، الذي حين لا يعالج بنفس الداء، يخلق المزيد من الهمم الموتورة ، كما ينبئنا فرويد.
حين جرت الحادثة ، سئل بعض (الربع) المدججين بأوسمة العمل الوطني والخيري سألوا: ماهذا ؟ فقيل لهم ، ثقافة !، فرد ثلاثون منهم داخل المجلس ، ومثلهم خارجه، ممن أوصلناهم إلى مواقعهم (بتخالفات سياسية فذة!) ، وأنطنا بهم مهام تشريع الأنظمة وحفظ أمن المجتمع ورفاهيته، قالوا بصوت واحد : بلا ثقافة ولا سخافة ، وزادوا على هذا بأن نصبوا محكمة تفتيش، للبحث في ضمير أبو الكلام البحريني الشاعر قاسم حداد، لينكلوا بضميره وضمير كل ما يتصل به من مسرح ومسرحيين وفن وفنانين، وشعر وشعراء، بأكثر مما نكل بهم سلفاً بطل حادثة طيران الخليج وربعه ، إبان أمن الدولة الذي استوى هؤلاء النواب والوعاظ والمتفقهين على كراسيهم ومنابر خطابتهم، من ريع تنكيله بقاسم حداد وأمثاله ممن أفنوا أعمارهم في خدمة البحرين ، حين كان هؤلاء الربع الأطياب ، يصمتون على ضيم أمن الدولة ، أما بتلفيق عن حرمة الخروج على ولي الأمر، أو حرمة الخروج على دولة بني أمية، لأنها تبطش! .
ثمة قواسم وأجراس مشتركة تقرعها الحادثتان، فإضافة لرنين السجع الكامن بين مفردات السخافة والصحافة الثقافة والربيع والربع ، فإن هؤلاء بصدفة تواقع الطيور على أشكالها (!) حققوا اجماعاً منقطع النظير في أيامنا هذه، خصوصاً أن هؤلاء تحديداً هم من شتتوا إجماع الناس على أي شيء خير إطلاقاً ، فهم لا يتفقون سائر أشهر أي سنة قمرية ، على موعد هلال الشهر لأن في الاتفاق عليه فرحاً للناس جميعاً ، أوعلى موعد شروق الشمس وغروبها لمجرد أن بعضهم لا يطيق سماع صوت البعض الآخر، ولا أدري من أين لهؤلاء أن يطيقوا سماع صوت قاسم حداد أو أي صوت جميل آخر!
القاسم الأكبر والأهم ، هو أنه يخطئ الذين يعتقدون - وما أفدح ما ندفع نظير خطئهم - أن علتنا كانت في قانون أمن الدولة الذي جاء المشروع الإصلاحي، وصاحبه ، ليعمل على أن لا تقوم له قائمة ، فبالغ بجسارة تاريخية نادرة تحسب لصاحبه، في نزع أظافر سدنته وأطلق الحريات، وسوى غير قليل من المظالم، التي خلفها أمن الدولة فينا، فإذا نحن نكافئه بتسخيف عطاياه، تسخيفاً يومياً ، لا أظن تسخيف ربيع الثقافة أوله، أو آخره، لسبب بسيط هو أن السخافة ليست في الربيع، ولكنها في الربع!.
الوطن- الخليج- 20 مارس 27
*****
السجال الدائر حالياً حول فعاليات ربيع الثقافة ولاسيما حول العمل الذي تبناه قطاع الثقافة والتراث الوطني الذي يحمل عنوان «مجنون ليلى» للفنان اللبناني الملتزم مرسيل خليفة والشاعر البحريني المبدع قاسم حداد هو عمل إنساني بحت وليس كباقي الأعمال العربية الأخرى التي تميز عنها من حيث الفكرة والطرح الجديد.
إن صدى هذا العمل وصل إلى عواصم شتى بما فيها الخليجية التي تتنافس اليوم على عرضه مرة أخرى في برامج ثقافية ضمن مهرجاناتها السنوية بينما نحن في البحرين وللأسف يحاول نفر من النواب الأفاضل المحسوبين على تيار عقائدي مؤدلج تشويه وتجريم هذا العمل بحجج يريدون منها إغراق البلاد بأفكار ظلامية لأن في فكرهم علاقة طرد «تصادمية» بين الفن الإنساني وبين الفكر المتزمت... هذا الفكر الذي يذكرنا بما قام به طالبانيون في أفغانستان عندما دمروا تماثيل بوذا بحجة أنها أثار كفر وضلالة لا تراثا ترتقي به الإنسانية تحفظه ضمن تاريخها الذي هو ليس ملكا لأحد.
«مجنون ليلى» هو أيضاً عمل تملكه الإنسانية في وقت أصبح للكره مكانا في نفوسنا بدلا من المحبة والوئام.
لن أخوض في تفاصيل أكثر عن العمل فقد كتبت ما يكفي لكن نقول لهؤلاء النواب وبعض المواقع الإلكترونية والصحف الصفراء بما فيها الناطقة باللغة الانجليزية التي يبدو أنها تريد أن تطفش السواح والمقيمين الأجانب أن واقع مجتمعنا تعددي فهناك مجتمعات داخل المجتمع البحريني العام ولكل مجتمع عاداته وأنشطته التي يقدمها لجمهوره ويتفاعل معها وهي ليست بالضرورة تجذب الطرف الآخر من المجتمعات الأخرى، لكن الاحترام كان ومازال هو العامل القائم في هذا الجانب على مر الزمن فلا احد يعتدي على نشاط الآخر.
نفس الشيء ينطبق مع ربيع الثقافة فهناك محبوه من مجتمع البحرين الذي يعشق فعاليات هذه التظاهرة الثقافية وبالتالي فالخيارات متوافرة ومتاحة أمام الجميع وهي ليست أمرا مفروضا فمن يحب أن يحضر فمرحباً به ومن لا يريد فأيضاً المسألة تعود لقرار الفرد الشخصي... فهناك المطعم الراقي وهناك المطعم الشعبي والخيار متروك للشخص ليقرر ما يريد لا أن يفرض ذوقا واحدا من المطاعم بحجة هذا وذاك من الأمور.
ففي الوقت الذي يريد فيه البعض من النواب إجهاض حركة ونشاط الثقافة في البحرين نجد دول الجوار بصدد وضع مدنها في برامج تستنهض الثقافة بكل أشكالها دون قيد، وهي البرامج التي ستضع مدينة مثل أبوظبي على خريطة الثقافة العالمية وليس الإقليمية فقط وهو الأمر الذي شجعه وصرح به حديثا رئيس دولة الإمارات سمو الشيخ خليفة بن زايد.
أبوظبي بصدد افتتاح نسخة مماثلة لمتحف اللوفر الفرنسي، وذلك ضمن اتفاق تستمر على مدى ثلاثين عاماً بين الإمارات وفرنسا، إذ تصل ميزانية مثل هذا التبادل الثقافي إلى 524 مليون دولار أميركي مقدمة للحكومة الفرنسية من أجل استخدام اسم اللوفر ومعروضاته مع متاحف أخرى فرنسية، وذلك بحسب ما جاء في مجلة ميد الاقتصادية الثلثاء الماضي.
دول الجوار تبحث اليوم عن مفهوم آخر لمدنيتها المواكبة للعصر على غرار نيويورك ولندن وطوكيو بينما نحن هنا سنغرق في ثقافة الفرض والعودة إلى الوراء وعدم ترك الخيار مفتوح للجميع.
الوسط- 15 مارس 2007