رجاء عالم
(السعودية)

من الطائرة المحلِّقة في أنشوطة على الخليج تمهيداً لهبوطها في المُحَرَّق استقبلنا الضوءُ، فالقمر الذي كان في خسوف ليلة البارحة هاهو الليلة (بلية) مدورة ساقطة في السماء بحُريِّة، (حتى القمر يسقط على البحرين ليستريح).
قالت ضياء يوسف: "ألم تلاحظوا، الوقت في البحرين بطيء."و صَدَمَتءني العبارةُ، أدركتُ للتو البؤرة التي سقطنا فيها بتحليقنا في دائرة بقلب الخليج، إذ ورغم تصريح أهل البحرين بأنهم لا يسهرون وغاية سهرهم العاشرة والنصف فإن الكثير يحدث في هذه الجزيرة:

كنتُ اليوم أُعِدُّ نفسي لزمن البحر الأحمر، متوقعة أن يسرقنا الوقت ولاننجز شيئاً، لكن حدث أن الصباح امتد حتى أنجزنا الكثير، بين تعليق اللوحات واستقبال القادمين المبكرين، ثم ومن الثانية ظهراً كنا قد أنجزنا الكثير من التسكع والحوارات الصحافية، والاستحمام، وغفوة قصيرة والاستعداد للافتتاح، كل ذلك والساعة لم تتجاوز الخامسة! كنتُ أرقب الساعة بيقين أن خللاً بعقربها، ولكن بشكل باطني كنا واعين بهذا الإيقاع الكثيف للزمن حولنا، ولم أتمكن من صياغته في كلماتٍ قبل الآن، يؤكد يوسف يوسف: "قدمنا في حافلة من الرياض للبحرين، حين تَلَقَّتءنا الصحراءُ شعرنا بأننا نغرق في المسافة التي بدت غير قابلة للقطع مهما داس السائق على دواسة البنزين، ظللنا نحن والحافلة والمكان لا نتحرك، كنا لا نقطع شيئاً، بينما الوقت يسرع حولنا، قال سائق الحافلة مطمئناً: لا تقلقوا سنكون في البحرين قبل التاسعة والنصف ليلاً. قلنا: مستحيل. وتراهنا على علبة بيبسي. وبالفعل، ففي اللحظة التي عبرنا فيها للجسر الممتد بين السعودية والبحرين توقف الوقت فجأة، وصرنا نتحرك نحن والحافلة في المكان بينما الوقت واقف. وبالفعل وصلنا وربح سائق الحافلة الرهان."

"عرفنا الآن أن الوقت يركض في كل الأرض ويجيء البحرين ليلتقط أنفاسه ويستريح.. ربما هذا هو المكان الذي يجب أن أكتب فيه ولا يُسابقني الوقت."

"لكن ما السر ؟ أهي الجزيرة ؟ تُذءهِلُ الوقتَ حولها، يطوف ولا يدخلها ؟ يُحوِّطها عازلُ الماء دون الوقت ؟"

صغيرة هي البحرين مثل قلبٍ يسترخي يتشمس على مياه الخليج، وتُحييه هذه العاصفة الربيعية (ربيع الثقافة2)، محتضنة لتجارب ثقافية من كل مكان، تجارب موسيقية وشعرية وفنية ومنها تجربة شادية في عملها التركيبي (أسلاك رحيمة) بصالة عرض (البارح) هذا العليل الذي هبَّ بنا لقلب تلك الدوامة، الذي بدأ بصور التقطتءها لقطرات مطرٍ على أسلاك شائكة، ومنها توالدت الرؤى، حيث شكَّلت قطرةُ المطر المحور أو العين التي أعادت خلق الأسلاك وتحويلها من حاجز في المكان لتجاوز، من (منعٍ) لبوابة خلق، حيث دخلت الأسلاك في سلسلة من التحورات، لتُشكِّل اللوحة التركيبية (النافورة) و(المكان هو اللون)، وأخيراً مُجَسَّم (قطرة مطر، من قمع بلاستيكي على تركيبة أسلاك) في بساطة واختزالٍ يقول لنا أن كل ماحولنا يتضمن الجديد، وحامل لمالا نهاية له من التحولات، على نظرتنا أن تتجدَّد وتتسع وتفتح أبواب الدهشة التي تحبل بها كلُّ لمحةٍ وكل عادي وبسيط. إذاً بالنهاية فإن العادية هي في العين حين نسمح لها بأن تتسطح وتموت، لا موت إلا في العين، وفي النبضة التي نفشل في استقبالها والسماح لها بالتغير وبتغيرنا.

وربما لم تُتح لنا رؤية البحرين عمرانياً، لكن بوسعنا القول بأننا قد جالسنا روح البحرين (قاسم حداد، أمين صالح، عباس يوسف، وخالد الرويعي، وناصر اليوسف ممثلاً في ابنه جلال النحات، وفي التجارب الفنية والشعرية التي تتجدد بإصرار).

مبكراً استقبلنا الضجيجُ الذي أثارته تجربة (المجنون) في البحرين قبل وصولنا مباشرة، حيث قرأنا هذا الخبر في جريدة الوطن (مارسيل خليفة الذي يريد أن يُري الناس أن الحب باستطاعته أن ينتصر على كل شيء، وقاد الجماهير إلى ريتا وأحمد العربي قاد جمهور الصالة الثقافية عشية افتتاح موسم (ربيع الثقافة2) إلى (قل هو الحب) لقاسم حداد الذي كان يروي وترافقه أميمة الخليل بصوتها المعهود).

هنا ربما لا شيء يشيخ، ونص (المجنون) يكبر ويزداد عنفواناً، ولقد بدأ مع الفنان العراقي المقيم بلندن (ضياء العزاوي) حين اختار (الحُبَّ) موضوعاً للتداخل مع شعر كل من أدونيس، ومحمد بن نيس في نص طوق الحمامة، حتى إذا جاء الحب لقاسم حداد أيقظ له أسطورة مجنون ليلى.

في صباح جاليري البارح، حيث تعرض شادية، يرشف قاسم حداد قهوته ويقول:

"كنا قد التقينا أنا والعزاوي لأول مرة في البحرين، وحين طلب مني العمل على موضوع الحبِّ رجعتُ لنص المجنون في كتاب الأغاني، اكتشفتُ أنني قد سبق وكتبت تهميشات قديمة على النص، مما يدل على أنه كان هاجساً أصيلاً لي، ولقد لفتَ نظري أنه بخلاف ثنائيات الحب في تاريخنا العربي فإن مجنون ليلى أقرب للأسطورة، أي غير مرتبط بسياقٍ تاريخي أكيد كغيره، مما حرَّض توقي لإطلاق هذا النص في أُفقٍ حديث حر"، فمن يقرأ شعر المجنون لا يسعه إلا اليقين بأنه صادر عن كيانٍ خاض تجربة الحب كاملة، وأن العذرية ما هي إلا قراءة مفروضة رقابياً للإيهام بأنه: هكذا يكون الحب، وعذرياً فقط !! راودني أن تصديق هذه القراءة أو الخضوع لها يُهددنا كجنس بشري بالانقراض (يضحك). من هنا جاءت قراءتي لهذه الأسطورة في سياقها الحي الجسدي."

التجربة التي احتضنها ربيعُ الثقافة 2في البحرين انطلقت في ثلاثية بديعة من الفنان مارسيل خليفة الذي وضع موسيقى النص، رافقتها قراءة جسدية راقصة للقصائد، مرافقة لتلاوة قاسم حداد التي بلغت ذروتها في خطاب ليلى ليلة زواجها من (ورد).

استعانت الشيخة مي آل خليفة، راعية ربيع الثقافة، بالمصمم المبدع عمَّار الذي قام بإعداد البهو بمدخل المسرح كمعبد بياضٍ تنيره ضربات فسفورية وكرات نور لعرض لوحات العزاوي (المجنون)، لتسري على أرضيات البياض لوعة المجنون شعراً صاعداً للقواطع متسلقاً للجدران لتتصدره لوحات العزاوي بألوانها القوية الصارخة من ماء ونار، في انعاكسات تتجاوب وتضيء حدة الصرخة في اللون وفي الكلمة.

وافتتاحاً تخرج الفتيات الصغيرات بسلال يوزعن (هدايا المجنون) أعدَّها قاسم حداد من رقع قماش صغيرة مُحَوَّطة بكتابة لمقاطع من شعره، وتَصرُّ بداخلها تركيبةً أسطورية (ريشة جناح مهيض، خوف، خرزة لازوردية مثقوبة بخيط، حبة هال، قلق، قطعة قند، جلد خرج قديم.)

نتساءل أهي تركيبة جنون استغرق إخراجها ما يزيد عن العام أم مئات الأعوام منذ الغدير الذي التقت عنده غنم قيس وليلى، نقف بما في هذا الإخراج من تحريك للساكن وتقليب الرماد على صفحة الغدير. إذ بوسعنا القول إن المجنون في كتابٍ بقصيدةٍ ولوحاتٍ كان وجوداً أوليِّاً يأتيه من يرغب في التوغل والكشف، بينما المجنون على خشبة المسرح أو مقروءاً بأجساد الراقصات وشحنة الشغف في موسيقى مارسيل وغنائه وإلقاء قاسم حداد وحواره العلني مع ليلى، كل ذلك ولادة حقيقية للمجنون فينا، خروجه من الورق للأضلاع، هي شحنة صادمة كان من الطبيعي أن تثير دوامة ردود الأفعال المتضاربة تلك. هذا التفاوت الذي يُشكِّل اختراقاً للمسكوت عنه والمهمل والمطموس في الطبيعة البشرية العاشقة: أو كما يقول قاسم: (هو نفض للغبار عن الجسد) ونستحضر كيف أن جويل عساف المؤدية لدور ليلى قالت: "أدائي لهذا النص أخرجني من بوتقة، فجَّر شحنته في علاقتي الخاصة بزوجي، اكتشفنا هذه الطاقة داخلنا على الحب."

أو كما قال جوني بشارة الذي لعب دور قيس: "كانت الآلات ترقص معنا، وكان الموسيقي يرقص مع آلته وقيس يرقص مع ليلى والشاعر يرقص مع شعره."

قالت فنانة تشكيلية شهدت العرض: "رجعت لمرسمي لأطلق ريشتي بحرية أكبر، بأفق أوسع من أفقي الحر..."

هذه النصوص المتحاورة شعراً ورقصاً وغناءً وموسيقى وإضاءة، هذه التجربة، شكَّلتَ صدمة، حررت موجةً من الإعجاب وأخرى من الشجب، قالوا:

"هي أفق جديد للبحرين، خرجنا محمولين بنشوة "

وقال البعض: "هو تعبير لا يليق بالبحرين."

ليجيب قاسم: "أظننا قادرين على أن ندافع عن حبنا أكثر من مزاعم الآخرين بالدفاع عن حروبهم... لكي نوقظ عقولنا لابد وأن يكون هناك قدر من الجنون لتبدو الحياة جميلة... فالإنسان لا يبدع بدون هذه الحريات التي تبدو مجنونة للوهلة الأولى..."

هذا الأخذ والرد، هو تمهيد مساحةٍ يتواجد فيها للحوار الرأي والرأي الآخر والمحايد بينهما، هي حراك للساحة الثقافية والاجتماعية على السواء، إذ لم يحرك الوقتَ في البحرين كما حركته ليلة المجنون.

مثل تلك المساحات (للتنفس والحوار) هي ما نحتاجه لإحياء ساحتنا العربية التي تميل للمهادنة والغياب وللمرور غير المرئي، بينما نتعلم من البحر ألا مرور بدون إثارةٍ للأمواج.

هذه الطاقة التي تشعر بها في الهواء ربما ناجمة عن الحراك الروحي الذي تُثيره الفعاليات الثقافية التي تقف وراءها إرادةٌ عليا لجعل الثقافة ملمحاً وطنياً متأصلاً ومن تباشير الربيع. إذ لا نختلف على أن الأفراد هم من يصنعون الحركة الثقافية، وأن تَحَقُّق المبدع هو في دوامه خارج الرعاية كما غناها مارسيل عن ليلى:(ستبكي حسرة فينا إذا غفروا)، وهو أمر ناضل لتحقيقه المبدعون البحرانيون، لكن تحتاج الحركة لرعاية عليا تنقل نتاجها لقاعدة التلقي الأعرض، ليكون الإبداع ملمحاً يومياً وممارسة، تخرج من بيتك لتنتقل في القريحة البشرية، تأتي المسرح الذي أُغلقتء أبوابه وامتلأت مقاعده فتأمر الشيخة مي آل خليفة بفتح الأبواب وإدخال الجميع ليفترشوا الدرج والأرضيات فلا يبقى من موطيء لقدم.

"قلب الخليج بدأ يتسارع نبضه" الإعلان الذي يلتقيك في المطار عن سباق السيارات (الفورميلا 1) والذي يبدأ في البحرين بمنتصف إبريل، يُعَبِّر عن النبض الذي تُحاول البحرين بثَّه في الخليج. تُلخصه أيضاً العبارة الشخصية التي قدَّم لنا بها كُتيبه النحاتُ اللبناني نبيل بصبوص الذي ينحت خشب الزيتون، والمدعو من قبل المتحف الوطني للمشاركة في سمبوزيوم النحت مع نخبة من النحاتين العالميين، كَتَبَ: "ليبقى الفن منارة الحضارة في البحرين."

استدراك: الشيء الوحيد الذي يسرع في البحرين الأذان، يتلاحق النداء للصلاة ليسكت فجأة ويترك النهار طويلاً أمامك للصلاة أينما ذهبت وبأي عمل أتيتَ، تماماً كما عَبَّرَ موظفُ خدمات الركاب بالمطار مازحاً: "الصلاة معي بستين ألف صلاة."

الرياض- 2007/03/15

*****

البحرين بألوان الربيع

رأي جريدة الوقت

أثارت فعاليات ‘’ربيع الثقافة’’ جدلاً واسعاً بين أوساط معينة في البحرين، وصلت إلى مجلس النواب ما لبثت أن انتشرت حتى تجمعت في شكل طلب نيابي بالتحقيق في أحد عروض المهرجان.
كنا نتمنى لو أن المسألة توقفت عند حجمها الذي تستحق لا أكثر ولا أقل. فالأساس فيها أن المهرجان بحد ذاته، كفكرة وكممارسة، يعطي صورة حضارية عن البحرين. وجاء إحياء لألوان ربيع البحرين الذي كان يوما ما بألوان قوس قزح لكل لون لونه وأفقه وأمكنته وطقوسه. لكل مساجده وجوامعه وكتبه وندواته ومسارحه وصالاته.. الأصل التنوع والتعددية. والمساومة على كل شيء ما عدا ‘’البحرين’’ ربيعها وصيفها ومطرها وبحرها وبشرها.
كان يمكن أن يظل الخلاف في إطار الاختلاف في الرؤى والآراء والزاوية التي ينظر فيها للوطن. على الأقل من مبدأ الحرية والديمقراطية. وهو المبدأ ذاته الذي سارت عليه القيادة السياسية في البحرين، ومن خلاله وصل النواب إلى مجلس النواب ليشرعوا ويراقبوا أداء الحكومة ويهتموا بمصالح الشعب الذي انتخبهم. ونقول ‘’مصالح’’ لا ‘’أمزجة’’ ولا شكل ملابس أو طريقة الجلوس في مقهى أو أسلوب الحديث أو طريقة إلقاء تحية الصباح، طالما أن من يفعل هذه أو تلك بحريني بلا مواربة أو وصاية.
من الخطأ أن نغلق البحرين على لون واحد واجتهاد معين وأن نقول للناس سيروا في الطابور وإلا..! في البلد ثمة ثقافة وفنون ومثقفون ومفكرون يشهد لهم العرب والعالم. ثمة من يتلقفون آراءهم وتحليلاتهم ومن يترجمون أشعارهم إلى لغات عالمية ومن يرون البحرين من خلال عيونهم.
كان بودنا أن لا يصل بنا الأمر إلى أن ينشغل نوابنا الأفاضل بمقطع ما من عمل ما ليثيروا ضجة تطغى على هذا الجهد الإبداعي.. نقطة مختلف عليها جرى تكبيرها لتحتل المشهد كله..
لا يجوز إلغاء الآخر أو ترهيبه أو التحريض ضده. ولا يعقل أن نعود بالبحرين إلى محطات سابقة. نريد من ممثلي الشعب تسجيل سوابق تدفع بالبحرين إلى الأمام لا سابقة يجري بموجبها التحقيق في عمل إبداعي.

****

المنجز الإبداعي‮ ‬ونظام الهيمنة‮ ‬

حسين السماهيجي

لعل أخطر ما‮ ‬يمكن أن‮ ‬يبتلى به المنجز الإبداعي،‮ ‬سواء أكان متقدِّمًا لنيل الموافقة والإجازة كي‮ ‬يبصر النور أو كان قد تجاوز هذه المرحلة،‮ ‬وأصبح‮ - ‬بطريقة أو بأخرى‮ - ‬بحكم المتداوَل والمنشور بأيدي‮ ‬المتلقين‮.. ‬لعل أخطر ما‮ ‬يمكن أن‮ ‬يبتلى به هذا المنجز هو أن‮ ‬يتعرض من جديد إلى رقابة‮ »‬فقيرة‮« ‬إبداعيا هذا،‮ ‬بالطبع،‮ ‬إذا آمَنّا من حيث المبدأ بوجود مثل هذه الرقابة،‮ ‬وهو ما لا نوافق عليه أصلا‮.‬
أمّا موقفنا من رفض‮ »‬الرقابة‮« ‬فينطلق من كون مفهوم‮ »‬الرقابة‮« ‬مشتغلاً‮ ‬بتكريس جانبين ترفضهما الشعوب المتحضرة‮. ‬الأول ويتمثل بالوصاية أمّا الثاني‮ ‬فيتعلق،‮ ‬مباشرة،‮ ‬بمفهوم المصادرة والإلغاء وكلا الجانبين لهما تعالق معرفي‮ ‬بالذات القامعة،‮ ‬ومفاهيم اشتغال السلطة،‮ ‬وهو ما لسنا بصدد عرضه في‮ ‬هذا المقام‮.‬
إذن،‮ ‬فنحن نرى أن‮ »‬الرقابة‮« ‬في‮ ‬مجال الإبداع من حيث الأصل هي‮ ‬تعبير عن نظام للهيمنة وهو نظام مرفوض جملةً‮ ‬وتفصيلاً‮ ‬ولندع جانبًا مناقشة المواقف الرقابية المنطلقة من توجهات سياسية تخشى من قول المختلف،‮ ‬وفضح الزيف،‮ ‬ولنتأمل رقابةً‮ ‬أخرى هي‮ ‬أشد نكايةً‮ ‬بالنص الإبداعي،‮ ‬والمتمثلة بتعاطي‮ ‬غير ذوي‮ ‬الاختصاص في‮ ‬شؤون النص الإبداعي‮ ‬مع ما‮ ‬يترتب على ذلك من افتعال قضايا‮ ‬غير ذات بال،‮ ‬وانشغال المجتمع وفعالياته المختلفة بالهوامش من القضايا والتفاصيل،‮ ‬وترك شؤون الناس الأساسية المتعلقة بالدرجة الأولى بهمومهم المعيشية اليومية،‮ ‬واكتساب المزيد من الحقوق في‮ ‬المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية،‮ ‬وهو ما‮ ‬ينبغي‮ ‬أن تركز عليه المؤسسات المختلفة المعنية بهذه الشؤون‮.‬
إن انشغال‮ ‬غير المختص بالمنجز الإبداعي‮ ‬قد‮ ‬يكون له أثر‮ ‬غير محمود،‮ ‬خصوصًا إذا كان هذا الغير مختص في‮ ‬موقع مؤثر ضمن المؤسسة الرسمية فهو،‮ ‬أولاً،‮ ‬سيمارس تخريبًا‮ ‬غير مقصود في‮ ‬قضايا الإبداع والتلقي‮ ‬والكتابة وهو،‮ ‬ثانيًا،‮ ‬سيكشف عن ضعف فيما‮ ‬يتعلق بمعرفة هذه القضايا ذات الخصوصية الشديدة التي‮ ‬هي‮ ‬مثار اختلافات عقيمة لا طائل من ورائها؛ الأمر الذي‮ ‬يعني‮ ‬عدم المحافظة على المكانة الرمزية التي‮ ‬من المفروض أن‮ ‬يكون مطالبًا بالالتفات إلى جميع تفاصيلها وشؤونها،‮ ‬بما‮ ‬يضمن عدم اهتزاز مكانته وتعريضها إلى ما لا تحمد عقباه‮.‬
من هنا،‮ ‬فأنا أرى أنه من الأفضل حتمًا ترك القضايا ذات الاختصاص لمن‮ ‬يستطيعون التعاطي‮ ‬معها بآلياتها وأدواتها الخاصة‮.‬
الايام- 16 مارس 2007

****

المكارثية تبعث ‮ ‬من جديد في‮ ‬مجلس النواب

علي الشرقاوي

إذا كان الفنان الأمريكي‮ ‬يصاب بشيء من القشعريرة حين تمر عليه كلمة لجنة تحقيق او اسم المكارثية،‮ ‬فإن تلك الحقبة التي‮ ‬راح ضحيتها الكثير من الفنانين والشخصيات المفكرة‮ ‬،‮ ‬العائلات،‮ ‬الأطفال،‮ ‬الأحلام والطموحات،‮ ‬فإن لجنة التحقيق هذه ظهرت بوادرها عبر لجنة التحقيق التي‮ ‬اشتغل عليها مجلس النواب في‮ ‬البحرين لإدانة ربيع الثقافة الذي‮ ‬مثّل قفزة نوعية في‮ ‬التعاطي‮ ‬مع السياحة الثقافية والفنية الراقية والتي‮ ‬تعبر كل التعبيرعما وصلت اليه المملكة من خلال المشروع الإصلاحي‮ ‬للملك حمد‮ .‬
ونقول لمن لا‮ ‬يعرف معنى المكارثية من النواب،‮ ‬إنها منسوبة إلى السيناتور‮ ‬
‮(‬الشيخ‮ - ‬عضو مجلس الشيوخ‮) ‬الامريكي‮ ‬جوزيف مكارثي‮ ‬الذي‮ ‬تزعم في‮ ‬الخمسينات(عام ‮٣٥ ) ‬في‮ ‬القرن الماضي،‮ ‬حركة لملاحقة وتجريم الشيوعيين في‮ ‬الولايات المتحدة الأمريكية‮. ‬وتستخدم هذه الكلمة للإشارة إلى كل حركات الملاحقة البوليسية لكل من‮ ‬يشتبه‮ -‬مجرد اشتباه‮- ‬لانتمائه لأحد التيارات المراد التخلص منها(مثل ملاحقات بعض النواب لربيع الثقافة او للثقافة بصورة عامة‮) ‬وطبقاً‮ ‬للمكارثية فإن المتهم مذنب حتى تثبت براءته‮.‬
إن النواب الذين‮ ‬يتعاملون مع الفن والثقافة كتحصيل الحاصل اوكشيء زائد عن الحاجة،‮ ‬يعون ذلك او لا‮ ‬يعون،‮ ‬انهم لولا الثقافة في‮ ‬البحرين لما كان لهم أن‮ ‬ينهضوا من سباتهم العميق‮ ‬،‮ ‬في‮ ‬الواقع أن كل الذين‮ ‬يدينون مهرجان الربيع لم‮ ‬يصحوا بعد من هذا السبات‮ .‬
على النواب ان‮ ‬يعوا جيداً‮ ‬ان الثقافة في‮ ‬البحرين ليست شيئاً‮ ‬لقيطاً‮ ‬اولا أب له‮ .‬
ان الثقافة هي‮ ‬رمزنا وشعارنا الوطني‮ ‬والذي‮ ‬نرفض ان‮ ‬يزايد عليه النواب اوغير النواب،‮ ‬بشعارات المحافظة على الأخلاق تارة والمحافظة على الدين تارة أخرى اوغيرها من الكلمات التي‮ ‬لا تمت له بصلة لأحلام المواطن الحالم بالحرية الفكرية والحياة الكريمة الخالية من شوائب السياسة‮ . ‬
واذا فكر نائب ما أن‮ ‬يلعب على ورقة الثقافة والفن والتي‮ ‬لم‮ ‬يقرأها جيداً‮ ‬فعليه أن‮ ‬يعي‮ ‬انها هي‮ ‬الأخرى خط أحمر عليه ألا‮ ‬يتجاوزه‮ . ‬
وإن كنا سكتنا على هروب النواب من طرح القضايا المعيشية للمواطن البحريني‮ ‬
واضاعة وقت المجلس في‮ ‬ما لا جدوى منه،‮ ‬فليعِ‮ ‬النائب اننا لن نسكت أبداً‮ ‬حين تمس كرامة الثقافة والفن،‮ ‬لأنها معنى وجودنا ومعنى حريتنا الذاهبة أبداً‮ ‬الى فضاءات أخرى من الإبداع‮ ‬أكثر اتساعاً‮ ‬واكثر جمالاً‮ .‬
على النواب أن‮ ‬يعوا انهم ليسوا أكثر قوة من مكارثي‮ ‬السيء الصيت‮ .‬
المكارثية انتهت وانتهى معها مكارثي
وسينتهي‮ ‬كذلك النواب الذين‮ ‬يحاولون إعادة المكارثية الى الحياة‮ .‬

الوطن- 18 مارس

****

إنهم يهددون الثقافة

عبدالله الأيوبي
(البحرين)

ليس مجنون ليلى هو السبب الذي طير عقل بعض القوى التي تسيطر على مجلس النواب ودفعها لتشكيل لجنة تحقيق برلمانية مستعجلة «لانقاذ« عادات وتقاليد شعب البحرين من المس والضياع، فقبل مجنون ليلى الذي هو عنوان ثورتهم، فقد سبق للقوى نفسها
أن وصفت مهرجان ربيع الثقافة الذي نظم العام الماضي بربيع السخافة، وبالتالي ليس مستغربا أن تكرر القوى الدينية موقفها من مثل هذه الفعاليات ومن إبداع الإنسان سواء أكان مكتوبا أم مجسدا على خشبة مسرح، فالفكر الرجعي الإقصائي لا يستحمل أي إبداع يتجاوز منظوره الفكري أو الاجتماعي، فالمتشددون يكرهون الصباح وما يحمله من معان تحفز في الإنسان مشاعره وتفجر طاقاته الابداعية. لقد ترك نواب المجلس النيابي كل القضايا التي تهم جميع المواطنين ووجهوا جل جهودهم وطاقاتهم لمحاصرة الثقافة تحت حجج العادات والتقاليد التي شبعنا من سماع ترديدها في الكثير من المناسبات، فإذا كانت السينما على سبيل المثال هي دخيلة على عاداتنا وتقاليدنا، والغناء والموسيقى هما في نظر القوى المتشددة لا يمتان بأي صلة لهذه العادات والتقاليد، مع أنهما من الفنون التي خرج من رحمها زرياب، فليس غريبا هنا أن تحشد القوى السياسية التي تحتل المجلس النيابي قواها للتصدي لهذا الربيع الذي أنعش رئة البحرين وأعاد إليها الحيوية بعد العديد من الهجمات التي تعرضت لها مختلف البرامج الانفتاحية من هذه القوى. فوفق أجندة القوى المتشددة فإن أي نشاط لا يتماشى مع هذه الأجندة فهو معرض للمساءلة، فهذه القوى وبحكم تركيبتها الفكرية الإقصائية تريد أن تهيمن على عقول الجميع وأن تخضعهم لسطوتها، فقد تعودت هذه القوى وعودتها السلطات الحاكمة في العديد من الدول وعندنا أيضا، خاصة في الفترة الأخيرة على أن تعطيها اهتماما وتوفر لها ظروفا تفوق ما تستحقه، بل ان هذه القوى وبسبب المحاباة التي عودتها عليها السلطات فإنها تتمادى في مطالبها وتتفرعن في مواقفها الحقوق الشخصية معتقدة أنها تملك حق تحديد ما يجب علينا سماعه وما يجب علينا الامتناع عنه. وبحكم الحق الدستوري الذي تتمتع به هذه القوى في البرلمان، فإنها تستغل هذا الحق لتكميم الأفواه وقتل كل شكل من أشكال الإبداع الإنساني الراقي، حتى لو صدر عن الشاعر الملتزم قاسم حداد ومن المبدع الوطني الأمين مرسيل خليفه، فالالتزام في نظر القوى المتشددة هو الانضواء تحت لوائها الأيديولوجي والعقائدي، أما خلاف ذلك فليس مقبولا مهما كانت أهدافه وتوجهاته، وهذا ما يؤكده التجييش والحشد البرلماني لهذه القوى ضد المهرجان الذي أثبت حتى الآن أنه من أكثر المهرجانات نجاحا على المستويين الوطني والخليجي. فالدستور الذي أعطى لهؤلاء النواب حق المساءلة والتحقيق في أي قضية يريدونها هو الدستور نفسه الذي أكد حماية وصيانة الحقوق العامة والخاصة، وإذا كانت القوى المتشددة ترى في فعاليات مهرجان الثقافة ما يتعارض مع توجهاتها الأيديولوجية فليس ذلك يعني أن هذه الفعاليات تتعارض مع قناعات وتوجهات الآخرين، وما تقوم به من محاولات لوأد الفعاليات والمهرجانات التي لا تتماشى مع توجهاتها إنما هي في حصيلتها النهائية مصادرة وتعد على حقوق الآخرين. على القوى المتشددة أن تفهم حقيقة واحدة شبه مطلقة وهي أن الحرية والحقوق ليست مفصلة على مقاس توجهاتها الأيديولوجية والعقائدية، فنحن هنا لا نتكلم عن الدين على الإطلاق ذلك أن بين هذه القوى نفسها اختلافات كثيرة وعميقة في المواقف من الكثير من القضايا، وبالتالي فحين نتحدث عن حقوق الفرد فيجب عدم إخضاع ذلك لمعتقدات هذه القوى وتوجهاتها المنافية لكل شكل من أشكال الحداثة والانفتاح والتقدم. لقد برهنت هذه القوى من خلال مواقفها من الكثير من القضايا الاجتماعية، ليس عندنا في البحرين فحسب وإنما في الكثير من القوى التي سنحت لها الظروف ووفرت لها السلطات هامشا واسعا جدا من الحرية ليس متاحا أمام غيرها من القوى، أنها تحمل برامج وأجندة غريبة وبعيدة كل البعد عما تمور به الساحة العالمية من تطورات على المستويات المختلفة، فإذا كانت الكلمة لم تسلم من سوط هذه القوى فكيف نتوقع أن تخرج الصورة كاملة الجمال من دون ضرر أو تشويه كما هو الحال الذي يتعرض له مهرجان ربيع الثقافة في بلادنا هذه الأيام؟

****

‬ جمهور ربيع الثقافة

حسن مدن

الجمهور الكثيف الذي‮ ‬يواظب على حضور فعاليات ربيع الثقافة التي‮ ‬تقام حاليا في‮ ‬البحرين،‮ ‬سواء كانت حفلات موسيقية أو أمسيات شعرية وفنية،‮ ‬أو محاضرات وندوات فكرية ومعارض فنية،‮ ‬يشكل ظاهرة تستدعي‮ ‬التوقف أمامها لأنها تقدم مؤشرات مهمة بحاجة إلى رصد ومتابعة‮:‬ أولا‮: ‬يعكس هذا الإقبال مزاج شريحة واسعة من المجتمع البحريني،‮ ‬تتعطش لهذا النوع من الفنون الراقية والأنشطة الفكرية التي‮ ‬تتوجه نحو الرقي‮ ‬بالذوق وبالوعي‮ ‬الثقافي‮ ‬والاجتماعي،‮ ‬وهي‮ ‬أنشطة تتسم مع نمط الحياة ومستوى الثقافة التي‮ ‬تتميز بها هذه الشرائح،‮ ‬التي‮ ‬نصنفها على أنها فئات مجتمعية حديثة‮. ‬وهذه الشريحة بأعدادها الواسعة تعاني‮ ‬من تغييب متعمد،‮ ‬وجاءت نتائج الانتخابات البلدية والنيابية الأخيرة،‮ ‬وحتى السابقة لها أيضا،‮ ‬لتعطي‮ ‬انطباعا‮ ‬غير دقيق عن قلة عدد هذه الشرائح ومحدودية تأثيرها،‮ ‬ولم‮ ‬يجر التمعن في‮ ‬الأسباب العديدة المركبة التي‮ ‬أدت وتؤدي‮ ‬إلى تغييب هذه الشرائح في‮ ‬أن‮ ‬يكون لها من‮ ‬يمثلها في‮ ‬المجالس المنتخبة،‮ ‬البلدية منها والنيابية،‮ ‬ومن ضمنها،‮ ‬على سبيل المثال وليس الحصر،‮ ‬النظام الانتخابي‮ ‬المعمول به والذي‮ ‬يحول دون تمكن قوى عديدة من أن تجد لها تمثيلا،‮ ‬وهو أمر تحدثت عنه على مدار ثلاث حلقات من مقالي‮ ‬هذا منذ فترة،‮ ‬وستكون لنا عودة قريبة إليه‮.‬ ثانيا‮: ‬هذا الإقبال‮ ‬يعكس حاجة موضوعية في‮ ‬البلد إلى تنظيم مثل هذا النوع من المهرجانات الثقافية والفنية التي‮ ‬تسهم في‮ ‬كسر رتابة الحياة وتجهمها وركودها الاجتماعي‮ ‬والثقافي،‮ ‬لأن الثقافة،‮ ‬والفنون ضمنها،‮ ‬تقدم الوجه الآخر الأكثر رهافة للوعي‮ ‬الإنساني‮ ‬الذي‮ ‬نحتاجه،‮ ‬في‮ ‬مسعانا لأن نجد بلدنا تتقدم في‮ ‬اتجاه ثقافة الحداثة والنهضة والذوق الرفيع،‮ ‬بديلا لثقافة الاستهلاك والتفاهة‮. ‬وهذا‮ ‬يضع على عاتق الدولة مسؤولية كبيرة في‮ ‬التفكير في‮ ‬استمرارية مثل هذه الأنشطة وتطورها،‮ ‬ومراعاة ما في‮ ‬المجتمع البحريني‮ ‬من تنوع وتعدد في‮ ‬أنماط الوعي‮ ‬والسلوك الاجتماعي‮ ‬الذي‮ ‬يجب احترامه،‮ ‬لا السعي‮ ‬لفرض نمط واحد بعينه على المجتمع برمته كما ترغب بعض القوى‮.‬ ثالثا‮: ‬على خلاف الانطباع الذي‮ ‬ساد لفترة في‮ ‬الأذهان من أن أجواء الانفراج السياسي‮ ‬في‮ ‬البلد ومستوى الحريات العامة المتاح،‮ ‬قد أدى إلى انصراف الناس عن الأنشطة الثقافية والفنية لصالح الأنشطة السياسية،‮ ‬للدرجة التي‮ ‬جعلت البعض‮ ‬يشكو من التسييس المبالغ‮ ‬فيه للمجتمع،‮ ‬فان إقبال الجمهور على أنشطة ربيع الثقافة‮ ‬يدل أن النشاط الثقافي‮ ‬النوعي‮ ‬قادر على استقطاب الجمهور نحوه،‮ ‬وان لا تناقض البتة بين أن‮ ‬يظهر المجتمع حيوية سياسية تظهر ما فيه من طاقات ومن نضج،‮ ‬وأن‮ ‬يشهد،‮ ‬في‮ ‬الآن ذاته،‮ ‬إقبالا على الثقافة‮. ‬بل لعل العلاقة تبدو جدلية بين الوعي‮ ‬الثقافي‮ ‬والوعي‮ ‬السياسي،‮ ‬فكلما تعمق وعي‮ ‬الناس العام،‮ ‬كلما ازدادت قابلياتهم في‮ ‬التذوق الفني‮ ‬والاستمتاع بمنتجات الثقافة الراقية،‮ ‬وان الحديث الذي‮ ‬يكثر ترداده عن التناقض بين الثقافة والسياسة‮ ‬يبدو حديثا مصطنعا إلى حدود كبيرة.

الايام

****

مارسيل خليفة

حسين مرهون

.. إذن، ها إننا على موعدٍ اليوم مع مارسيل خليفة. سيتحدث مارسيل. سيُطوّفُ بشأن موضوعاتٍ شتى في المؤتمر الصحافي. سيغادر القاعة وهو في كامل جهوزيته للّيلة الموعودة. لكن مانشيتات الصحف ستأتي بعد ذلك على النحو التالي ‘’مارسيل الملتزم’’. والالتزام؟. حسبما يقتضيه التبسيط الصحافي الضافر، ليس أكثر من تماسٍّ مع حزمة مواقف سياسية. في البدء مارسيل اليساري الأممي. وفي المنتهى مارسيل العربي واللبناني وحتى.. أضيق دائرة قطرية مشتعلة.

وفي أجواء التبسيط هذه، من المرجح أننا سنشاهد، كما كل الإطلالات ‘’المارسيلية’’ على هذه الجزيرة الصغيرة، اليساريين عندنا يحجزون المقاعد الأمامية. الأمر نفسه ينطبق على الإسلاميين، أولئك المتجوّزون بالفتوى الاستماع إلى ما يُدعى ‘’الطرب الملتزم’’.

والجميع سيقفون في ختام الأمسية، ليصفقوا أو ليغنوا معاً في كورال جماعي واحد: ‘’بين ريتا وعيوني بندقية’’ و’’أحن إلى خبز أمي’’ و’’يعبرون الجسر خفافاً’’ و.. السلام.

من جانبه، لا يجهد مارسيل على إلغاء أفق التوقع هذا. وهو قد سمح، بقصد أو بغير قصد، طيلة مسيرته فناناً، بأن يُؤخذ على محمل البساطة. على رغم أنه، وتلك هي المفارقة المريرة، يُعدُّ اليوم من فناني الندرة، المواظبين على التأسيس بجدّية لمشروعية الاختلاف وعلى تجديد المقترح الجمالي. فإذن، ثمة ‘’مارسيلان’’ اثنان، مارسيل المنصرف إلى إعادة ابتكار الجماليّ، وفتحه على آفاق أكثر رحابة وتعددية، ومارسيل المؤتلف - أو هذا ما هو ظاهر على الأقل- مع طبيعة التلقي ‘’الشعبوي’’ الطامح إلى استبقائه.. وإلى الأبد، بين جدران الالتزام وآلائها.
ويأتي عمله المُنتظر مع قاسم حداد يوميّ الخميس والجمعة، بمثابة اختبار عسير إلى ذائقة المتلقي الذي سيتوجب عليه أن يتخفف كثيراً من تطلعاته ومن استيهاماته المسبقة عن مارسيل. فالعمل هذه المرة عن ‘’أخبار المجنون’’، وقضية التزامه الوحيدة، هي الحب، التي لاتزال في سياقاتنا الاجتماعية قضية لا نعرف أين نصنفها: هل نصنفها بالقياس على الدين أم بالقياس على أنظمة الرّغبة والذاكرة الإنسانية!.
وأما أبطال العمل، فهما قيس وليلى الأسطورتان، لكن أيضاً، قيس وليلى الكامنان في كل واحد منا. أو كما يقول قاسم حداد نفسه في ديوانه ‘’مجنون ليلى’’: ‘’قل هو الحب هواءُ سيّدٌ، وزجاجٌ يفضح الروح وترتيل يمام. قل هو الحب ولا تصغي لغير القلب، لا تأخذك الغفلة، لا ينتابك الخوف على ماء الكلام’’. تلك هي القصة!

الوقت- 26 فبراير 2007

*****

توجهات التيار الإسلامي واقعية أم طوباوية؟

عباس المرشد

لا يختلف أحد في تطلع الحركة الإسلامية بكافة أطيافها إلى إيجاد المجتمع الإسلامي بغية إسعاد البشرية وتحقيق العدالة الاجتماعية. لقد شكلت هذه التطلعات بنية الحركة الإسلامية المعرفية وتوسلت بسبل متعددة لإنجاز ما تتطلع إليه. وفي الوقت الذي كان هذا القدر المشترك والدافع الأكبر لتنظيمات الحركة الإسلامية في القرن العشرين، حيث وفر الغطاء الأيديولوجي ؟وسهل سبل ابتكار الوسائل، بيد أنه من جهة أخرى أربك الحركة الإسلامية إرباكا لا نبالغ إذا قلنا إنه أعاق إنجاز الحركة الإسلامية في تطلعاتها. وما من شك إنها مقولة خطيرة جدا أن نوصف ذلك التطلع المشروع على أنه أعاق نفسه بنفسه، وسيكون من المشروع لنا أن نعيد صياغة العبارة على هيئة سؤال نقدي لجذور البنية المعرفية للحركة الإسلامية، مما يعني ضرورة تقديم مبررات معرفية تسمح بطرح السؤال من جهة وتقديم إجابة صالحة من جهة أخرى، وقبل ذلك تحديد أو تحرير الموضوع المطروح للسؤال -أعني بالحركة الإسلامية- مجموعة التنظيمات الاجتماعية والسياسية التي ولدت منذ بداية القرن العشرين وحتى اليوم وسعت إلى تقديم خطاب إسلامي يدور بشأن فكرة النهضة والعودة إلى الذات. أما التطلعات فهي تشير تحديدا إلى جملة الأهداف الغائية والمرحلية التي استندت إليها تلك التنظيمات على المستوى السياسي والاجتماعي؛ في حين أن مفهوم الإعاقة يعني إجرائيا عدم القدرة على تلبية الطموح والعجز عن تحقيق الأهداف انطلاقا من فقدان المنظومة المعمول بها من دون اللجوء إلى الواقع الموضوعي والظروف المحيطة. والإعاقة بهذا المعنى تعني أن هناك أزمة داخلية تعيشها المؤسسة يقتضي علاجها الاعتراف بها وتوصيف التأهيل المناسب لها، كما أنه يشير أيضا إلى سلامة أجزاء من جسم المؤسسة قد تكون كثيرة أو ضئيلة أو جميعها، ولكنها تفتقد إلى التماسك في ترابط أجزائها. وسيكون من السهل لنا تعرف ذلك إذا ما أخذنا الخطاب على أنه يعكس المعيارية والنظام والمؤسسة، والخطاب يعني ممارسة أيضا، بمعنى مجموعة من القواعد الموضوعية والتاريخية المعنية والمحددة دوما في الزمان والمكان والتي حددت في فترة زمنية بعينها وفي نطاق اجتماعي واقتصادي وجغرافي ولساني. والخطاب يعني أيضا مجموعة من المنطوقات (لغة، قول، كتابة) مضافا إليه كمية من الأفعال. فعندما نتكلم عن الخطاب لا نقصد الجانب النظري أو التأملي فقط وإنما مضافا إلى ذلك الأفعال والنتائج المترتبة على تلك المنطوقات الخطابية، وهذا يعني دراسة الموضوع من حيث الداخل والخارج معا للخطاب نفسه. بعد هذا التوضيح سنرى أن المنطوق العقلاني يحتم علينا القيام بطرح السؤال النقدي حول تطلعات الحركة الإسلامية وهل أنها قابلة لإعادة البناء في إطار نظرية عامة للمجتمع. في الواقع لقد جاءت تطلعات الحركة الإسلامية في إطار شعاراتي عام جدا مشبعاً بتفاؤلية ومغيبة للواقع وصعوباته وفي الوقت نفسه سعت أدبيات الحركة الإسلامية إلى تكرار هذه الشعارات من دون القيام بمراجعة نقدية لها، ولعل ذلك يعود إلى هيمنة الفترة المشار إليها، والتي شهدت تكاثرا هائلا في التنظيمات الإسلامية مع توحد المرجعية الفكرية لها، ما أدى إلى فقدان فضاء الحركة الإسلامية إلى الحقل التعددي. لقد أملى هذا الجو الأحادي على تنظيمات الحركة الإسلامية بأن تتوحد في تكوين تطلعاتها، ويرد ذلك إلى أن هذا التطلع هو منطوق ومفهوم النص القرآني، ولا خلاف في ذلك بين فصائل الحركة الإسلامية كافة. ما أدى إلى ضياع الخطاب المعرفي في الحركة الإسلامية، وهو الجانب الثاني من الخطاب، أي الواقع الذي هو بمثابة المتحول والمتغير وما يكفل السند الشرعي للنقد الذاتي. ثمة تجارب إسلامية عدة من الممكن إدراجها في سياق النقد الذاتي الملتفت إلى تحديات الخطاب وأبرز تلك التجارب حركة حزب الله في لبنان. من الطبيعي أن تكون هناك خصوصيات ساعدت حزب الله على النجاح ولكن اللافت للنظر هو تطلع حزب الله نفسه منذ بداية تأسيس خلاياه بعد الاجتياح الإسرائيلي 1982 وحتى نهاية الثمانينات، إلى اتخاذ شعار الثورة الإسلامية في لبنان وتحقيق الدولة الإسلامية. ولكن لتعقد الاجتماع اللبناني تحول هذا الشعار إلى المقاومة الإسلامية في لبنان. هذا الاختلاف الشاسع بين الثورة والمقاومة والانحياز ناحية المقاومة كان وليد الواقع الذي أملى تخفيف الطموح من الثورة إلى المقاومة ما أدى إلى تناسب الخطاب (اللغة كتواصل) والواقع كمؤسسة تعمل عمل السلطة. إنه ليس مطلوبا من أي تنظيم إسلامي أن يمر بالمرحلة نفسها حتى يكتشف بعد سنين من العمل والجهود الجبارة أن عليه مراعاة الواقع وضرورة التخلي عن بعض التطلعات التي لا يستطيع إنجازها فيحّمل نفسه تبعات تلك التطلعات العالية. والمتابع لكثير من فصائل الحركة الإسلامية يعرف أنها تعيش هذا المأزق أو الإعاقة؛ إذ كيف لها أن تنزل سقف التطلعات العالية إلى ارض الواقع. وهذا ما يدفعنا إلى طرح السؤال التالي على توجهات الحركة الإسلامية: هل إنها عالية الطموح أم واقعية التحرك.

22 مارس 2007

أقرأ أيضاً: