عبدالله ثابت
السعودية

يسمونها: فتنة..
أو أقول أنا كم مرة يمكن لجافلٍ مثلي عن الناس، أن يقطع 400 كلم مع رجلٍ اختار أن يخسر كثيراً ليكسب رعشات الجمال النادرة، حاملاً مصباحه بين جنبيه، مستسلماً لقوارب الصدف أن ترمي به هنا وهناك يفتش فيها كل مرةٍ عن معنىً آخر لهذا الوجود يواجه به هذا التصحّر الرهيب، ويحدث نفسه أنه ربما وجد قريته الأولى من جديد.. هذا هو معجب الزهراني، هذا هو ببساطة واضحة، كائنٌ جاهزٌ لدهس هذه الطرقات، والخراسانات البليدة، جاهزٌ ليقفز من فوقها ويغادرها في أية لحظة ليخطف نشوة الجمال وقشعريرته، وهكذا مدّ يده إليّ هامساً "هيّا.. لنهزم الموتى"، وهكذا انطلقنا شادّين على قلوبنا بوعدٍ حلوٍ من الهواء الذي لا شروط عليه..

وإلى من!
إلى ليلةٍ يمشّط تفاصيل فتنتها اثنان.. اثنان مجبولان من حكايا المدن المطمورة تحت المحيطات.. اثنان من نوع مرسيل خليفة، وقاسم حداد.. لا، لا، بل هما ذاتهما، قاسم ومرسيل!

ويا لذاك السحر الرهيب، لقد كان المسّ الذي أصاب قيس هناك، وكانت أنفاس ليلى الشقية تضرب جباهنا، كانت تنفثها كل أشياء تلك اللحظات، وكانت المعازف، وقفزات الرقص، وكانت ذكرياتي العربية هناك، بنسائها الجميلات، بفتيانها الساهرين كل ليلةٍ بجوار النبع، وكانت هناك ثياب وطيورٌ وحكاية، وكنت أشم الرابية الحزينة، وأكاد أتحسس الفقد الذي يغمر وجوه الصخور وبقايا الأثر، تسأل عن الذين كانوا هنا يتحاضنون الحياة.. أينهم، ولماذا ما شردت الخيل، ولم ترجع بغير رئة المجنون، وشهيق ليلى!
آهٍ.. هل مرّت تلك الليلة حقاً!
لا، لم تمرّ، أعني أن شيئاً ما في نفسي خُرق، شيئاً صارت الرياح تمهره وتهلكه جيئةً وذهاباً بعنف، ولم يكن هنالك من زمن.. كأن أسطورةً كاملةً بكلّ شكاياتها تتأرجح فجأةً في نفسي، كأن رسماً بكامل مسحاته تمثّل منحوتاً وقائماً في نحري، وكأن أحلام القرويات صارت الحلفان الحزين في دمي، وكأن.. كأن كل شيء يقبض بكلتا يديه ليخلع صدره ويقول "ها أنا!"
إذن.. هي الفتنة، وهذا هو طبعها.. بقدر ما هي خاطفة، بقدر ما تقلّب كفيها وتتفحصها لترى الوقت، كي تهرول إلى العدم، لكنها تبقى بكل كل تفاصيلها تحت اللحم والعظم، مخبئةً كورقة حبيبة تحت رئتها، تبقى حيّةً.. وخالدة،
هي الفتنة.. ليست عمراً، إنما هي سحقٌ للوقت، خروجٌ كونيّ عليه،، إنها حكّة حارة في الصدر، تختفي سريعاً من سطح الجلد، لكنها تستقر في القلب للأبد!
ووالله ما عدت أحتاج من كل أيامي إلا لحناً،
فيا ربي، امنحني حياةً كبيرةً، حياةً بأشياء حيواتٍ قُدّت.. للفتنة فقط، ولأحترقْ، لا بأس.. لأحترقْ!
وكذاك كان كل شيء تلك الليلة في ربيع البحرين.. معموراً بهواء الله، محاطاً بنوايا المخضرّين بالحب..

لكن ما الذي كان بعد ذلك؟
فزعت أنه يعتدى على ليلتي الجميلة، وأن تنثال صدورٌ محشودةٌ بالريبات وتصبّ حممها على قاسم ومرسيل، وعلى الشعر والأغنيات، والرقص، والراقصين!
فها أنا هنا.. لا أدافع إلا عن ليلتي، وعن العالم الذي أنتمي إليه.. فما أقول أكثر من: ما لكم ولنا بالله عليكم! ما لكم ولنا وكأن الدبابات وخوذات العسكر، والفتاوى والمناشير، وخطابات هدر الدم لم تملأ عليكم عالمكم، وكأنكم ما عدتم تجدون فيما يتحاصد به العراقيون واللبنانيون والفلسطينيون فيما بينهم ما تقولونه.. كأنه لا شيء لديكم في مواجهة كل ذلك الخذلان، وكأنكم لم تروا في الأنظمة والبلدان التي تتقاسمونها عيباً ولا عاراً يستحق منكم هذه الوثبة الشجاعة التي تحفزتم بها على لحظاتنا هذه!
إننا نرجوكم أن لا تخدشوا سماءنا الوحيدة، سماء الفن.. سماءنا التي لم يبق لنا ملاذٌ آمنٌ سواها بعد أن تشاطرتم القوميات والملل والسكاكين، وأعلنتم على أنفسكم وعلى بعضكم وعلى العالم شؤم الكراهية والنزاعات..
لا أعرف حقاً بأي يمينٍ نتحلفكم أن لا مساس.. لا مساس فقد أخذتم كل شيء، ولم يبق لنا سوى هذا الأفق المختصر، فاصرفوا أعينكم عنه لأننا لا نريد سواه!
وماذا عسانا أن نقول ولا شيء مما تلوكونه خطر ببالنا، ولا تخيلنا أن أحداً ممن جاء لنسكٍ فنّيٍ كذاك لن يرى الرقص بغير كبته وغريزته، فلم يلحظ في الأداء إلا تماسّ الأجساد، ولم يسمع في اللحن والكلمات إلا صياح عمائمه!
ونعرف أنكم لن تجيبونا، وتعرفون أنا لن نجادلكم، ولن نصيح عليكم بغير أمنيةٍ واحدةٍ..
سنغني ونرقص، وغنّيا أكثر وأكثر يا مرسيل وقاسم، غنّيا غنّيا فالعالم مكتظٌ بالسفاحين والأنياب.. غنّيا فنحن نحتاج لأمانٍ صغير!

***

ربيع الثقافة المجنون بهواء الحرية

عبدالله السفر
(السعودية)

عرض تلفزيون الفضائية اللبنانية (إل. بي. سي) مساء الأحد؛ الأول من أبريل 2007 برنامج " أنت والحدث " وقد خُصصت حلقة هذا الأسبوع لمناقشة الجدل الدائر حول عمل مجنون ليلى؛ شعر قاسم حداد وموسيقى مارسيل خليفة، والذي قدم في افتتاح ربيع الثقافة في البحرين على مدار ليلتين (الأول والثاني من مارس) حيث قامت قيامة " الإسلاميين " وطالبوا في البرلمان بلجنة تحقيق حول عرض هذا العمل الذي أثار لغطاً كبيرا بسبب التجسيد المسرحي لرؤية المجنون (الرقص من تصميم نادرة عساف )، وبسبب بعض الكلمات الواردة في النص .
إذا، البرنامج يأتي لمناقشة هذا الحدث، في إطار علاقة الشرع بالفن. فاستضاف من البحرين نائب رئيس البرلمان الشيخ عادل المعاودة، ومن القاهرة المفكر الإسلامي جمال البنا. إلى ذلك شارك عن طريق الهاتف جمال فخرو والفنان عمّار الشريعي. وكما حدث في قناة الجزيرة حين استضافت الشيخ المعاودة مع خالد الرويعي، خرج الشيخ بالصور التي يرى أنها تزكّي رأيه وتدين ربيع الثقافة المجنون. الصور ذاتها خرجت في " أنت والحدث " وكأنها اليقين الذي يدفع أي شكٍّ إلى أن يطاول برأسه ويقول لماذا.. كيف ترى بالنظر الحديد إلى شبهة " القذى " ولا تنظر إلى " خشبة " الوالي المنتصبة بين العينين، ورائحتها تفوح كل مساء. الآراء نفسها تتكرّر وفق الآلية المعروفة من الجزئية الصغيرة يخرج التعميم، ثم التضخيم، يلي ذلك الادّعاء أنهم صوت المجتمع، المرفوعة عقيرته للدفاع عن الأخلاق وحمايتها، واستعداء السلطة لوجوب المساءلة والتحقيق. ولا بأس بالعقاب بعد ذلك.
جمال البنا أتى إلى البرنامج بلا خلفية تخصّ الموضوع المطروح، لديه آراء تنويرية إزاء الفن والخيار الشخصي في المشاهدة ودعوة إلى انفكاك الفن عن سلطة الوصاية. ورغم هذه الآراء إلا أن البنا بدا بعيدا عن ربيع الثقافة وما يعنيه. ما في ذهنه هو مسرح القطاع الخاص القاهري بمنحاه الاستهلاكي الغرائزي في غالبه الآن، وليس الفن الذي يتجّه إلى الروح وإلى العقل. لذا مرّت بعض كلماته مرورا ثقيلا غريبا، عن صور العرض المجتزأة والمضخّمة، نحو الابتذال (!) وأن لكل ساقطة لاقط (!!)، وعن الحسنات التي تمحو سيئات المشاهدة (!!)؛ بما يعزّز مقولة الطرف الآخر، وإن كان على الضد في المنطلقات، لكن الصورة المعطاة من البنا هي صورة فقه تبريري؛ تثير الابتسام أحياناً.
ما بدا صلبا وأساسيا في البرنامج هي مداخلة جمال فخرو، من البحرين، ينقض بها مقولة الإجماع على رفض العرض، وتأكيده على حرية الفكر المكفولة دستوريا. وأحسب أن هذا هو التوجّه الذي ينبغي أن ينبني إزاء الممانعة لربيع الثقافة. المسألة في إطار حرية الفكر مقابل سلطة الوصاية ورِهاب الإجماع، وليس نقل النقاش إلى ساحة ليست للفكر ولا للثقافة؛ ساحة المحاكمة بين حدَّي الحلال والحرام.
لنا أن نتحدث عن الصواب والخطأ وعن مساحة الاختلاف بما لا يلغي أحدٌ الآخر، لكن ليس لأحدٍ أن يحملَ مشرطاً يختبر به الثقافة فيما إذا كانت حلالاً أو حراماً، لأن هذه الطريقة لا تلغي عملاً معينا محدودا في الزمان والمكان؛ إنها تجر ذيولها بأثر رجعي يمسح الذاكرة الثقافية من جذورها. هي الوصاية التي تفترض طفولة دائمة في البشر، ولا بدّ من الرعاية والحماية والتأديب.
الوصاية قيد، فيما الحرية هواء لا يمكن للثقافة أن تزدهر بغيره وأن تصنع لها ربيعا بسواه.

* * *

مجنون من يسيء إلى "مجنون ليلى
ليس دفاعاً عن مرسيل خليفة وقاسم حداد

د. عبدالإله بلقزيز
(المغرب)

من قال إن الإسلام يتعرض للإساءة من خصومه وأعدائه في الخارج اكثر مما يتعرض لها من بعض المنتسبين إليه؟

من يشك في هذا، يكفيه ان يقرأ بعض ما يقال “باسم” الإسلام في هذه المسألة أو تلك من مسائل الدنيا والدين، في هذا المصر أو ذاك من أمصار العرب والمسلمين، لكي يقف بالدليل الاقطع على فداحة فعل الإساءة وخطبه الذي يقترفه في حق هذا الدين نمط من البشر يستسهل إتيان الفتيا على غير دراية وتبين؟ ويرتفع مستوى الخطب والهول في “النازلة” هذه كلما استعار هذا النمط من الناس مفردات الفقه في معرض دور سياسي يؤدونه مضاعفاً: باسم من يمثلونهم في مؤسسات الدولة، وباسم من يدعون تمثيلهم عقديا وشرعيا! فكأنما الناس رعية لهم منقادة وهم عنها مسؤولون في الدنيا والآخرة! من خولهم هذا السلطان وأنزلهم في الناس منزلة الهداة الذين لا يكون سواء مسلك في الدنيا ومذهب في الدين من دونهم؟ من أحل لهم دماءنا وحرم عليهم حريتنا وأوعب لهم بسوسنا على مقتضى نظرهم وتقديرهم الذي ليس فيه شوب “ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه”؟

لست أعني بهذا الكلام بعضاً ممن يختطفون الإسلام باسم الجهاد (الذي لا ينهضون بأمره في فلسطين والعراق!) فيغرّمون العرب والمسلمين أعظم الغرامات وأفدحها بجريرة ما يفعلون، وانما أعني به جمهورا من أهل السياسة دخل الى السياسة حديثا  بعد طول تشنيع عليها ونكير  ولكن ممتشقا عدة من “الأفكار” والمفردات شديدة الغربة عن السياسة والمجافاة لتقاليدها المدنية! وسيكون فعلاً شنيعاً من أفعال الخطباء ان يتصرف المرء إزاء ما يقولون ويفعلون بحسبانهم ناطقين باسم الدين أيا كان موقع الواحد منهم في حركته “الدينية”  أو أياً كانت مرتبته الفقهية (إن كانت له مرتبة وإن كان بين يديه فقه)  قبل الولوج الى ميدان السياسة، بل الأصوب أن يرى إليهم  مثلما هم  أصحاب رأي في السياسة وإدارة الشؤون المدنية وإن أتى رأيهم على ألسنتهم بلغة أهل الفقه. فذلك أجدى وأنفع للدين الذي يساء إليه بتعلة “النطق باسمه”.

سبق لرجال دين محافظين ان أبدوا رأيهم الفقهي في آراء ونصوص اجتهادية وصل الى حد التكفير وتأليب الدولة والقضاء ضد أصحاب تلك الآراء؛ وذلك  مثلاً  عين ما عرض لمفكرين ومثقفين ومبدعين مثل طه حسين (ضد كتابه: في الشعر الجاهلي)، والشيخ علي عبدالرازق (في كتابه: الإسلام وأصول الحكم)، وخالد محمد خالد، وصادق جلال العظم، وفرج فودة، ونجيب محفوظ، ونصر حامد أبوزيد، ونوال السعداوي، وحسن حنفي، وحيدر حيدر، وحسن الترابي، والصادق النيهوم، وسيد القمني، ومرسيل خليفة (تجريماً “فقهياً” لأغنية “أنا يوسف يا أبي” مرتين متعاقبتين)... لكنها المرة الأولى التي سيجترئ فيها المكفرة على تسخير المؤسسات التمثيلية للدولة قصد تصفية حساباتهم مع الفكر والثقافة والاجتهاد والابداع!

حصل ذلك في البحرين: بلد الأحرار والديمقراطيين. وكان الضحايا أربعة من أجمل من أثثوا ذاكرتنا الجماعية في الحاضر والماضي: مرسيل خليفة، وقاسم حداد، وقيس، وليلى. والتهمة ضبط “عصابة الأربعة” متلبسين بالجرم المشهود: الحب، والجهر به، والترويج له في أوساط الناس! وقد يقال ان المكفرة ما أزعجهم الحب القيسي  الليلائي إلا لكونه اقترف التعبير عن نفسه في لوحات راقصة توحي بشبهة التحريض على “كبائر” الأمور: استثارة الغريزة الحسية من خلال تظهير نداء الجسد. وجوابنا ان التعبير الانساني والأدبي عن الحب في تاريخ البشر لم يهدر صلة حارة ودائمة بين هذا الشعور الانساني الرائع (الذي اسمه الحب) وبين الوعاء المادي الذي ظل يصب فيه منذ بدء الخليقة: الجسد. فهل لهؤلاء من سلطان على الطبيعة والخلق حتى يحدثوا إحداثا فيهما فيعيدوا توزيع الصلة بين الحب والجسد على مقاس افتراضي يفك بينهما الارتباط ويهبط بمعنى الثاني الى حضيض الدلالات وخسيسها؟

قد يصح هذا المعنى الطهراني والعذري والعفيف للحب عند الصوفية المأخوذين بهاجس التطهر النفسي من أدران المادة. لكن المكفرة ليسوا من هؤلاء المتصوفة، لأنهم منغمسون في المادة، بل في أسوأ أنواع المادة المسماة سياسة وسلطة: المادة الحاضة على البراغماتية والكذب والرياء من نوع الكذب على المؤمنين بتصوير الحب لهم وكأنه رذيلة على نحو ما يفعلون اليوم في هذه “النازلة”.

حين يتعلق الأمر بعمل أدبي  فني لمرسيل خليفة وقاسم حداد، يختلف التقدير. الرجلان من مدرسة أخرى: مدرسة الابداع والعقل والالتزام، مدرسة تراقب وتحاسب بلغتها الخاصة (الحضارية)، وتجدف ضد تيار الخلاعة “الفنية” و... السياسية. مدرسة تخيف المتلاعبين بمشاعر الناس وترفع من منسوب هواجسهم من فقدان القدرة على الإمساك بأزمة أمورهم. لذلك، يسوغ للمكفرة ان يصوبوا عليها سهامهم. يختفي المفكرة احيانا وراء الدين (والدين منهم براء)، وفي أحايين أخرى يرابطون في حصون السياسة. أما المبدعون الأحرار، مثل هذين اللذين حفظا لقيس وليلى حرمة ذكراهما في النفوس، فلا يختفون إلا وراء ثيابهم، ولا يرابطون إلا في حصون الصدق الشفاف مع النفس والناس.

لا أعرف أحداً من هؤلاء المكفرة، ولم أسمع باسم أي منهم قبل هذه “النازلة”. ربما لتقصير مني في المعرفة، وربما لغمور من تنطعوا للإساءة الى مرسيل وقاسم. لكني أعرف ان لا أحد من العرب العاربة والعرب المستعربة يعرفهم. أما “عصابة الأربعة” (قيس، ليلى، مرسيل، قاسم)، فمعروفون لدى سواد الأمة الأعظم وسيظلون كذلك لمئات السنين. فهل يستوي الذين يعرفون والذين لا يعرفهم أحد؟

الخليج
7-4-2007

أقرأ أيضاً: