رؤى - عبدالله السعداوي / تحرير- مهدي سلمان:
على خلفية ما حدث بعد عرض "أخبار المجنون" للشاعر قاسم حداد والموسيقي مارسيل خليفة من صدام في الساحة البحرينية، ومن محاولة لقمع الثقافة من قبل بعض النواب، يطرح المخرج المسرحي البحريني الفنان عبد الله السعداوي وجهة نظره حول هذا الموضوع، ويخصّ رؤى بهذا الطرح، الذي يحاول فيه أن يقيّم الموضوع بشكل دقيق حسب رؤيته فيضعه في سياقات خمسة، هي الشعر والموسيقى والرقص والشرع والجهة التي هرّبت صور العرض، ويضع في مقابل هذه السياقات التلفزيون بما يمثله من كونه أداة "مصلحة تبحث عن الإعلان"، ويضع في هذا الاتجاه كل ما هو خارج عن حدود ما دعاه بالحكمة، وفي مقابل الحكمة التي يفترض السعداوي أن تكون أساس أي فعل أو ردّ فعل في هذا الموضوع، تقع أخطاء كثيرة، سواء من هذا الطرف أو ذاك، يرصدها السعداوي ويحللها، ويبحث فيها في هذا الموضوع:
أريد أولاً أن أذكر بأنني لم أشاهد عرض "أخبار المجنون" الذي أثار كل هذه الضجة والجلبة، غير أنني رأيت بعض الصور الفوتوغرافية التي استعرضها النواب في جلستهم الشهيرة، وتابعت في التلفزيون بعض المقتطفات الصغيرة من العرض، ولنضع كل ما حدث في خمسة سياقات، السياق الأول أن هناك شعرا، والسياق الثاني بأن هناك موسيقى، والسياق الثالث أن هنالك رقصا، أو فلنقل تعبيرا حركيا، السياق الرابع أن هناك "شرعا"، وهناك سياق خامس هو الجهة أو الشخص الذي هرّب الصور، وهو الجانب غير المعروف، وثمة أسئلة تُطرح في هذا السياق ولا إجابات، فهل أخذ "مهرّب" الصور مبلغاً ما مقابل نشره لهذه الصور، أم أن ثمة نوايا مبيّتة أخرى مقابل هذا النشر، وهذه أسئلة لا يمكننا الإجابة عنها أو البحث فيها لأننا نجهل من قام بهذا العمل وبالتالي فإننا نجهل نواياه وأغراضه، وفي مقابل هذه السياقات ثمة جانب آخر هو "التلفزيون" الذي حاول استغلال هذه الحادثة من أجل التكسّب من ورائها.
تداخل السياقات.. وإشكاليات الفهم
ولنأخذ الآن السياقات بشيء من التفصيل، فأول الأمر هو تقاطع سياقين في هذه القضية هما سياق الشعر وسياق الحركة التعبيرية عبر ما يُدعى بتداخل الفنون والذي يفترض أن يكون مبنياً على أساس أن يخرج هذا التداخل أو التقاطع عبر خلق رؤية مختلفة للمجنون الذي يحمله قاسم عن المجنون الذي يعبّر عن الرقص أو الحركة التعبيرية، أو الموسيقى، ومن المعروف أن الشعر دائماً ما يكون في اتجاهين، أي داخل وخارج، أي أنه يشكّل حالة دائمة من التناقض مع نصوص أخرى، فالشاعر لا يكتب بقدر ما هو ينسخ، والشعر يحاول بقدر الإمكان أن لا يلتزم باللغة القاموسية، إنما يحاول أن يرفع اللغة القاموسية إلى لغة تُعرف بالمجاز، فهم يرفعون هذه اللغة إلى مرتبة أعلى من مستواها العادي، وبالتالي فإننا حين نقرأ لقاسم حداد عبارة "أيها الباب الموارب" فهو هنا ليس أي باب، إنه باب قد يفتح خيالنا على أبواب عدة متباينة ومتنوعة، وكذلك الشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي حين يتخذ من اسم "عائشة" كاسم ملازم في نصوصه، فإنه بذلك قد حوّل هذا الاسم من مدلوله الأحادي إلى عدّة مدلولات، فعائشة البياتي قد تنبعث، وقد تتشتت، وقد تتحوّل إلى اوزيس أو أوزوريس، وتتشظى الدلالات التي قد يطرحها اسم عائشة لدى البياتي.
فالكلمة في الشعر لا تحدّها الدلالة لأنها تأخذ أبعادها من المجاز وهي بذلك منفتحة الدلالات، ومن هنا وقعت الإشكالية بين الشعر وبين الرقص أو التعبير الحركي، أي بين الشاعر وبين مؤدي الحركات التعبيرية ومصممها، فالمؤدي الراقص هنا قد سمع الكلمة، غير أنه لم يعطِها مجازها الشعري، ولم يذهب بها إلى خلق حالة في "الرقص"، وبالتالي فقد منحها حالة تعبيرية واحدة، ما منحها حالة "لاهوتية صغيرة وأحادية"، وذلك بسبب أنه لم يكن لديه وعي إدراكي بأسلوب التعامل مع الشعر، وبذلك فقد استسهل المؤدي الراقص "ومعني به هنا مصممة ومؤديّ الحركات التعبيرية" أن يتناول أقرب الدلالات في سبيل أن يوصل المعنى السهل للمشاهد معتقداً بأن هذه الدلالة تعني هذه المفردة، ومن هنا فيظهر أنه لم تكن ثمة خبرة وإلمام واطلاع لدى "المؤدي" بفلسفة الحركة، ففلسفة الحركة في اليابان مثلاً تقسم الحركة إلى ست عشرة حالة، وتناول أي حالة من هذه الحالات قد لا يوجز في كتاب، والحركة قائمة أساساً لديهم على الاعتماد على الذات، فالطفل مثلاً لا يمكن وصف ما يقوم به بالحركة إلا بعد أن يعتمد على ذاته، أي أن يتخلّص من الاعتماد على أبويه، والراقص في "أخبار المجنون" لم يستطع التعامل مع الشعر لأنه لم يستطع التعاطي مع مفهوم المجاز في الشعر، والإشكالية الثانية التي وقع فيها الراقصون كانت إشكالية مع الرقص نفسه، فهم عوضاً عن أن يرتفعوا بالرقص إلى حالة فلسفية وأن يصطادوا من قاموس الرقص حركات تستطيع أن توحي ولا توحي، أي أن تكتب وتمحو في ذات الوقت كما يذهب التفكيكيون، اختاروا أسهل الحركات وأقربها إلى الذهن وعبّروا من خلالها.
ولذلك فإنك حين تشاهد الصور التي عُرضت، تُدرك أن الرقص أو التعبير الحركي في العرض كانت تنقصه الفلسفة الحركية، ولندلل على هذه الفلسفة الحركية بمسرحية للفنان جمال الصقر هي "مختار المخاتير" حيث يرفع المختار الظالم من قبل أهل البلدة بالرماح، كانت هذه الحركة جميلة وتحمل فلسفتها الحركية، وهي بذلك أقوى بكثير من حمل الراقص الذي يأخذ دور قيس على الأكتاف في عرض "أخبار المجنون".
بين الشرع والعرف.. المحرّم والاحترام
والسياق الثالث هو الشرع، حيث تعاطى من يعتبرون أنفسهم المنافحين عن الشرع، تعاطوا مع الحركة باعتبار أنها ناقضت الشرع، أي بمعنى أنها دخلت إلى منطقة المحرّم، وهي لم تدخل في هذه المنطقة، لأن الشرع دائماً وأبداً وضع محرماته كاملة، ولم يترك لأحد الخيار في أن يزيد من هذه المحرمات أو أن يضع محرّماته الخاصة على الشرع، وحتى الأنبياء لم يسمح لهم الشرع أن يضعوا محرّمات، ذلك أن هذه المسألة مسألة خطيرة، وبالتالي فإن الشرع قد حرّم محرماته وأتى بها واضحة لا لبس فيها، وبدأ يدّرج تحريماته، من الزنا إلى اللواط إلى الخمر، إلى آخره، إلى أن وصل إلى الربا، الذي حرّمه تحريماً قطعياً، وذلك لأنه ليس ذنباً شخصياً، بل هو مسألة تطال المجتمع ككل، وها نحن نرى الآن أنه "يمسك من رقبة العالم ككل"، وها نحن نرى أيضاً أنه حتى الإسلاميين قد دخلوا فيه تحت مسميات عدة من بينها "التوريق" و"التورّق".
إذاً.. وإذا كان العرض لم يتصادم مع الشرع، فإنه قد تصادم مع "عرف المجتمع"، ولكل مجتمع أعرافه وعاداته، فالإنجليزي مثلاً لديه عرف بأن ينظر لمحدثه في عينيه لأنه بذلك يخلخل تمثاله، ويكون أقوى منه، أما الشخص الياباني فإنه لدى الحديث لا ينظر لمحدثه في عينيه، ولذلك فإذا ما نظر له أحد ما في عينيه فإن بذلك سيفهم من ذلك شيئين، فإما أن هذا الشخص لا يفهم أعرافه وعاداته وتقاليده وموروثه، وبالتالي فإنه ربما يتسامح معه، وإما أن هذا الشخص يعرف موروثه وعاداته وأعرافه، ويعني بهذه الحركة أنه يتحداه ويكرهه ويستثيره.
وهنا لا بد أن نلحظ أن الرقص في أخبار المجنون لم يدخل في إشكالية مع الشرع ولكنه دخل في إشكالية مع عرف المجتمع، وحتى لو كانت نسبة الرافضين لهذا النوع من الرقص نسبة قليلة، فإن هذه النسبة قد تشكّل عرف من أعراف المجتمع، ولكننا هنا لا بد أن ننتبه إلى أن الراقصين والمؤدين لم يكونوا عارفين بأعراف هذا المجتمع، وهم ببراءة أرادوا أن يؤدوا رقصاً يوصل فكرة الشعر إلى الجمهور.
الموسيقى.. الوهم واستدعاء الخلق الأول
السياق الرابع هو سياق الموسيقى، والموسيقى "وأتحدث هنا عن الموسيقى الراقية - وليعذرني مارسيل خليفة فأنا لا أقلّل من شأنه، ولكني أتحدث عما أعرفه عن الموسيقى الراقية - والموسيقيين الكبار" هذه الموسيقى تحاول أن ترفع الإنسان من أردان الأرض إلى المطلق الأول أي البدء الأول - ولا أعني به الله فالله ليس كمثله شيء - بل أعني به الإنسان الأول قبل أن تلوّثه أردان الأرض، فهي عندما تنساب في أذني الإنسان تذهب مباشرة إلى وجدانه، وأنت إذا ما صنعت للموسيقى صورة، فإنك بذلك تقضي على الموسيقى، لأنها فن جمالي، وفن جارٍ كالنهر، والإبداع الموسيقي في جوهره هو إبداع ديني صرف، فهو إرادة يسكنها الاتحاد بالمطلق، وهي إرادة مجنونة تتقدم عبر توترات وتقطعات الجسد، وبفضلها نتمكن من الدخول في تواصلات حميمية مع الزمن - إطار الكائن واللا كائن - ونتحمل ولو إلى حين الشروط "السيبرية" للوجود، العزلة، السقوط في الزمن، اليأس، اللا معنى، الألم، الكآبة، الخواء، والإحساس المر بنوستالجيا الأصول - حسب "هيبة ابراهيم" - فنحن نتحد مع الموسيقى كتجربة أنطولوجية لأن الغوص في الموسيقى غوص في الكينونة، والتجذر في ما هو أنطولوجي، بشروط التجذر في ما هو موسيقي، إذ تنقلنا الموسيقى في زمانية ربيعية، وزمانية خريفية، أو العكس أيضاً، تبعاً لأحوال الروح وتقلبات القلب، لذلك فإن الموسيقى هي خطاب يبشّر بالترحال.. أي السير اللا متناهي، إنه خطاب لا يرتب الزمن في اتجاه مستقيمي خطي.
بعض الإسلاميون يتعاملون مع الموسيقى بحسب حكاية قديمة تقول بأن الشيطان حين أراد أن يفسد الناس، تهيأ بهيئة شاب أمرد جميل وعمل راعياً، وبعد ذلك أمسك بقصبة وصنع منها ناياً، وشرع في العزف وحين سمعه الناس أعجبوا به، وأعجبوا بالصوت، وهنا دخلت إشكالية بعض الإسلاميين مع الموسيقى، غير أننا يجب أن ننتبه هنا إلى أن الشيطان يخلق الوهم، بينما لا تريد الموسيقى الراقية أن تخلق وهما بل تريد أن تستدعي الإنسان الأول من أردان هذه الأرض، وهي بذلك تريد أن تذهب إلى الخيال، وما يذهب إلى الخيال يذهب إلى تأثير ما فوق العقل، فنحن في النهاية لا نستطيع أن نتعاطى مع الدين عبر العقل فحسب، والإسلام لم ينزل فقط من أجل العقل فحسب، وكذلك لم ينزل من أجل الحالة الروحانية فحسب، ولكنه نزل بالحالة الشمولية، أي الإنسان شاملاً وكاملاً، ولذلك قال في سورة الإسراء "ولقد كرمنا بني آدم"، أما الشيطان بحسب الحكاية فإنه لم يصنع ما صنع من أجل الموسيقى بل من أجل الوهم، وهذا يدلّ على أن هناك أنواعا من الموسقى منها ما يرقى بالإنسان ومنها ما يحطّ من قيمته وهذه موسيقى مرفوضة.
التلفزيون غير معني بنا جميعاً.. على الإطلاق
بعد عرض هذه السياقات يأتي الدور الأخطر للجانب الآخر الذي تعامل مع هذه القضية وهو "التلفزيون" بما هو أداة تحولّت من أداة تسلية في ساعات محددة، إلى أداة إشهار تعمل على مدى زمني مفتوح، وبذلك فصارت هذه الأداة تدخل الأشياء في الاستعراض، و"التلفزيون" بذلك لا يعني له قاسم حداد بشيء، ولا عبدالله السعداوي، ولا مارسيل خليفة، ولا عادل المعاودة، ولا علي سلمان، ولا الشرع، ما يعني التلفزيون هو مدى استفادته من هؤلاء الناس، وأعمل هذه الضجة في سبيل أن أحصل على الإعلانات، ونحن الآن نعيش داخل هذه السوق، وكل ما حولنا أصبح داخلاً في حالة التسويق هذه، منذ الصباح حتى المساء، وأنت تتجول في الشارع، في البيت، وتأتي أمام التلفزيون، والإعلانات موجودة وحاضرة، وفي منتصف ما يطرحه في أي قضية، يتوقف ليقول للشيخ المعاودة.. اسكت، أو يقول لجمال البنا.. اسكت، "فاصل إعلاني.. وبعدها نعود"، وهكذا تمر خمسة.. ستة.. سبعة.. إعلانات، ثم يسلّم هذه القضية لتلفزيون آخر، ومن خلال إدخال أية قضية - ومن بينها قضية أخبار المجنون هنا - بمن فيها إلى حالة الاستعراض، تتزايد الإعلانات، وتربح التلفزيونات، وكل شيء خارج الاستعراض.. يجب أن لا يكون موجوداً، وهكذا فإن الاستعراض هو الذي يحكم هذا الواقع الذي نعيشه، فهي إذاً حرب الكل ضد الكل.
وهنا أيضاً استطاع التلفزيون أن يرفع سقف إعلاناته على حساب هذه القضية، وعلى حساب الشيخ عادل المعاودة وغيره - وأنا لا أشكك في مصداقيته أو إيمانه - ولكن المشكلة التي وقع فيها الشيخ استفاد منها هذا الجهاز الثرثار والكاذب، ذلك أن مذيعي التلفزيون حين يحدثونا، حين يقولون سيداتي سادتي، فنحن ندرك أنهم لا يرونا وأنهم ينظرون للكاميرا، ويتكلمون للكاميرا، وهذا الجهاز يبحث عن الإعلانات وحسب، ولذلك لم يسمح لمن أثاروا هذه القضية بأن يتذكّروا بأن لله اسم يُدعى به هو الستّار، وقد كان بإمكان من أثار هذه المشكلة أن يأخذوا هذه الصور، وأن يذهبوا للوكيل المساعد لشؤون الثقافة والتراث الوطني - على اعتبار أن قطاع الثقافة هو الجهة القائمة على العرض- ويستدعي قاسم حداد، ويتحاور معهم بما يراه من وجهة نظره، غير أن هذا الجهاز لا يمكن أن يسمح بحدوث ذلك ويضيّع على نفسه فرصة التكسّب من وراء هذه القضية.
العلمانيون.. وفهم الساحة
يبدو أن الكل يفتقدون لحالات الذاكرة والتذكّر، فالإخوة العلمانيون حينما دخلوا على الخط، وحاربوا باسم التنوير وغيره من المصطلحات، وهم للأسف يستخدمون مصطلحات انتهى منها الزمن، وأخذت مفهوما آخر، وبعدا آخر، فالتنوير إن كان قد صحّ في أوروبا في فترة من الفترات، فهو هنا لا يصحّ، وكذلك الظلامية إن صحّت في أوروبا، فهي لا تصّح كمصطلح هنا، والكنيسة وتدخّلها في الحياة العامة شيء، والإسلام وتعامله مع الحياة العامة أمر آخر، وكذلك الرجعية التي لا تعني في مفهومها الأصلي نوع من الشتم أو السب، بل هي توصيف لحالة معينة، وإذاً فالرجعية التي تعني العودة أو الرجوع للماضي قد لا تعني ما يريده البعض أن يفهم منها، فليس كل ماضٍ هو أقل قيمة من الحاضر، وأنت حينما تقرأ كتاب "عربات الآلهة" فأنت سترى أن هذا الرجل يحاجج بأن أنكيدو وصف الأرض بوصف دقيق، وأن الناس كانوا يعتقدون بأن هذا الوصف الخيالي الذي وصف به أنكيدو الأرض كان وصف شاعر وفنان وفي نهاية المطاف أسطورة، غير أن هذه الأسطورة تريد أن تأخذك إلى البدء الأول - وهي بذلك تلتقي مع الموسيقى-، ولكن حينما اخترع الإنسان طائرات معينة تصل إلى بعد معيّن عن الأرض، وجدوا أن ما قاله أنكيدو عن الأرض، هو كلام دقيق جداً، ما جعلهم يتساءلون إن كان أنكيدو قد رأى الأرض من هذه المسافة، وكيف استطاع إن كان فعل أن يصل إلى هذه المسافة، وإذا ما قرأت الملحمة الهندية "المهابهاراتا" حين تصف المعارك والقذائف، فلسوف تضع يدك على رأسك، وتقول بأنه يصف القنبلة النووية، فلماذا عرف هذا الرجل القنبلة الذرية قبل أن تُخترع، وهنا يثبت أن الخيال أرقى بكثير من العقل.
للأسف الشديد نحن في البحرين لدينا عقول كبيرة وشهادات عليا، غير أننا تنقصنا الحكمة، والسوق يستفيد ممن تنقصهم الحكمة، وهذا يجعل الناس تتوه في متاهات لا معنى لها، ولو أن العلمانيين رجعوا لعام ٥٨٩١م حيث عقد المؤتمر الثاني لوزراء التربية، وقد اجتمع في هذا المؤتمر خمسمائة مفكر، كانوا كلهم علمانييين، وقالوا أشياء كثيرة من بينها أن أحد هؤلاء استدعى جون بول سارتر في مقولته: "إن المثقف هو الشاهد على المجتمعات الممزقة التي تنتجه، لأنه يستبطن تمزقها بالذات، وهو بالتالي ناتج تاريخي، وبهذا المعنى لا يسع أي مجتمع أن يتذمر من مثقفيه، من دون أن يضع نفسه في قفص الاتهام
الايام- 14 ابريل 2007
***
ربيع الثقافة ليس شأنا ثقافياً وحسب، بل قضية من قضايا التحدي والتغيير الإجتماعي، أو هكذا تم تصميمه كمهرجان فني، وأريد له أن يكون كذلك من خلال المجابهة المفروضة على المثقف البحريني كاستكمال لمعركة تاريخية ممتدة في الحياة العربية، بمعنى أن رسالته الضمنية قد وصلت، وإن بشكل صدامي. ولكي لا يتحول إلى مجرد ضجة عابرة، يتم من خلالها تمرير الزائف من المنتج الثقافي، وتأخير لحظة الاستحقاق في الحياة السياسية والاجتماعية يفترض أن يكون المثقف العربي، وليس البحريني وحسب، على درجة من الفطنة والانتباه والموضوعية قبل التورط الدوغمائي في هذا الحدث، والاصطفاف الآلي إلى جانب فريق نكاية بتيار مضاد.
المهرجان ليس مجرد فسحة ترفيهية للترويح عن النفس بالفلامنجو والكوريغرافيا والجاز، أو للإجابة بكسل (المستلقي) لا بوعي (المتلقي) على سؤال الأجندة اليومية (أين تذهب هذا المساء!!؟) ولكنه حدث إبداعي يأخذ تداعياته في عصر يؤكد على الأهمية الفائقة للصناعات الثقافية، ويحتم شيئاً من التوجيه الإستراتيجي لمفهوم ومعنى ووظائفية الثقافة، حيث تتم إعادة ابتكار الحياة الإجتماعية، عبر عمليات معقدة، بتخليق وسائط فاعلة
بين الثقافة والإقتصاد والسياسة، وهو ما يعني أن يكون لدى المثقف رؤية منفتحة لمفهمة هذا الحدث واستتباعاته.
إثر الاحتجاج النيابي على عرض (مجنون ليلى) لقاسم حداد ومرسيل خليفة، توالت البيانات الاستنكارية المضادة ضد محاولات قمع حرية التعبير الفني. وكالعادة، تناوب المثقفون العرب على تصدير بيانات التأييد المجانية المؤكدة على حرية الرأي والإعتقاد، فيما يبدو محاولة بائسة من محاولات المثقف المستنقع في أيدلوجيا الفراغ، لنصب حائط مبكى جديد، والدخول في نوبة من الانتحاب، رثاء للحريات المهدورة، وتأسيساً لزارٍ من المزايدات على القيم والعناوين والشعارات البراقة، دون أن يبدي أي مثقف استعداده لطرح المعنى السوسيو-ثقافي لحدث بحجم (ربيع الثقافة) أو تصعيد المعنى الرمزي لهذا التجابه الذي يكرر نفسه بشكل دوري، باختلاف المواقع والأسماء مع الاحتفاظ بنفس العناوين واللافتات، أي الإتكاء على مفهوم ثقافي أحدث، وأكثر فاعلية، كرد جمالي على ما يحاوله الطرف المتحفظ من مساءلة مشروعة في حدها الموضوعي عندما تلامس حتى مفهوم الاستثمار في الإنسان.
ولفهم بعض مجريات الحدث لا بد من التفاتة إلى الوراء، ففي العام الماضي انقسم المثقف البحريني على نفسه إثر الإعلان عن الفصل الأول من ربيع الثقافة، إحتجاجا على ما اعتبر حينها تهميشاً للثقافة البحرينية، وإهداراً متعمداً لمعنى الثقافة، أو تبخيساً مقصوداً لدور المثقف البحريني، إذ لم يتضمن البرنامج أي فعالية تتناسب مع دوره وفاعليته وريادته الحداثية في الخليج، حتى صار المهرجان مجرد محاولة استعراضية لإسقاط ثقافة نخبوية نائية في قلب المشهد الثقافي البحريني لقهره بحداثة غير متأتية ضمن ذلك المشهد، وهو أمر تم تفاديه هذا العام، أو الالتفاف عليه بمعنى أدق، بترصيع برنامج المهرجان بأسماء ذات سمعة ابداعية تعصمه من تهمة التهميش، ولكنها لا تسبغ عليه صفة الثقافة الجماهيرية التفاعلية، ولا تطبعه بالسمة الصدمية للفن المنذور لخلخلة الأنساق الثقافية والاجتماعية.
ولأن المشهد الثقافي البحريني لا يخلو من حيوية أصيلة ارتفعت بعض الأصوات المنادية بتأوين السجال في مواضعاته الثقافية وعدم حرفه عن استتباعاته الموضوعية، لكشف حيلة (البحرنة الشكلية) لدرجة أن الفنان أنس الشيخ خاف في مقالته اللافتة (وطني... استعد... استرح... للخلف در) أن تتساوى الأمور في لحظة بين أخلاقيات قاسم حداد وأخلاقيات السلطة فطارده بوابل من الأسئلة الودودة (ألا يعلم قاسم أن هناك كثيرين شعروا أن حب قاسم هو حب أناني وذاتي؟ وألا يعلم قاسم أن كثيرين أيضاً لم يشعروا بتاتاً بدفاعه عن الحب واعتبروا دفاعه هذا مزيفاً ودعائياً واستعراضياً). لكن تساؤلاته المشروعة لم تجد لها مكاناً في وعي المتجابهين الذين أخذوا السجال - بمكر - إلى هبائية الثنايات الحادة.
وإذ تم تجاوز الجدل حول جدوى ومعنى ذلك الربيع الثقافي وسط بهجة التجذير للمهرجان، واعتماده كحدث إبداعي حولي، انتفى السجال الثقافي، وركن المثقف كعادته إلى محاولات المؤسسة لاستدماجه في كرنفال استعراضي، يحيله من مثقف فاعل ومنتج إلى مجرد مستهلك يتنزه على حافة الحدث، ليفاجأ بقوة محافظة كامنة، لا تتربص بالمهرجان كحدث وحسب، بل بمعنى الثقافة كرافعة للتغيير، والمفاجأة الأكبر أن المثقف البحريني انتبه على أكذوبة التسالم الاجتماعي، ووهم الاستبشار بوجود تيار ديني يؤمن بالتعددية والاختلاف والحداثة، على حلفية ربيع البحرين الديمقراطي، وهو ما يعني أن (استملاك الشارع) الذي حاول نادر كاظم تفكيك تداعياته الطائفية والمذهبية في كتابه (طبائع الاستملاك: قراءة في أمراض الحالة البحرينية).
مسألة تتجاوز المقروئية التاريخية والعقائدية، إلى استراتيجية على درجة من التعقيد الاجتماعي، لا يفترض أن تهب المؤسسة الرسمية صك البراءة، ولا تنفصل بحال عن طبيعة الصراع السياسي الذي يراد له أن يراوح في بؤر التوتر الهامشية والمضائق المفتعلة، بحيث لا تنفتح مشاريع التغيير على اتساعها.
يمكن فهم حالة الاصطفاف السريعة والمتماسكة حد التحالف بين القوى المحافظة على اختلاف توجهاتها وانتماءاتها المذهبية، ولكن يصعب تفهم المغزى من وراء دفاع المثقف البحريني بحماس عن مشروع لا يمثل وعيه لمفهوم الفعل الثقافي، ولا يحقق تطلعاته الاستراتيجية، بل يبدو من الغرابة استماتة بعض المثقفين في السخرية من الطقس الديمقراطي لتمرير مشروع يمارس فيه أقصى درجات الإقصاء على المثقف، ويقصى منه رموزه الفكرية أو من يعرفون بمنتجي المعرفة. ويزداد الأمر غرابة عندما يقع هذا المثقف بسرعة خاطفة في محرقة (الثنائيات الحادة) تغافلاً عن طبيعة الصراع، واصطفافاً آلياً في جبهة تراهن على مبيان القوة، وهي لعبة قديمة تتقنها التيارات المحافظة بالتواطؤ مع مفاعيل على درجة من الجاهزية لتأخير الاستحقاقات السياسية والإجتماعية والحقوقية، بإلهاء المثقف على حافة التقدمي والرجعي، العلماني والسلفي، المتنور والأصولي وهكذا.
ثمة محاولة ملتوية لتثبيت عنوان مضلل لما يحدث من اشتباك تتواطأ عليه المؤسسة الرسمية، بالتعاضد مع تحالف التيارات الدينية المحافظة، وفصيل من المثقفين المطبّعين، إذ يحاول كل أولئك تسمية ما يحدث خارج واقعيته، فهو حسب مخططهم حالة صراعية بين مفاعيل الحداثة والقدامة، أي تقديم المثقف ككبش فداء قبالة قوى تمتلك من الرغبة والقدرة على تأسيس محاكم تفتيش للضمائر، بحيث تعمل كماكينة تعطيلية للحظة الاستحقاق، فهذا الحلف الخفي بين القوى المعطّلة لا يعي أثر المثقف الحقيقي ودوره في تعجيل الاستحقاقات وحسب، بل يجيد ابتكار طراز ثقافي مضاد واستثماره على الدوام لفصل الأداة عن المعنى الثقافي.
www.m-alabbas.com
m_alabbas@hotmail.com
الايام- 14 ابريل 2007
***
كل نهار يعقبه ليل.. الليل ظلام وحلكة وسواد
الهدوء يستبعد..السكينة تنهار
في فصل الصيف يطول النهار.. تقل ساعات الليل
ويبدو أن ليلنا يتساوى في كل الفصول ولربما لن يكون هناك نهار أبدا ، سينعدم الضوء ..سينطفيء النور.. سيكون ليلةٌ ليلاء.
ذات مرة كتبنا عن خشب المرشحين حينها اقترحنا أن يجمع كل الخشب المصروف على الحملات الإعلانية خلال فترة الانتخابات المتناثرة هنا وهناك وقتها وبصورة عشوائية قميئة غير حضارية أن يجمع ويعمل منه نصبا أو نصبا للمرشحين ، هاهم وبدون أخشابهم التي ولّت إلى مناطق منسية كنسيهم لمهماتهم الأساس ،هذه المرة يشمرون عن سواعد رفعت على الأخشاب ضد الحب والجمال، كانت ذات يوم تبشر بالحياة السعيدة والكريمة ورغد العيش ومحاربة الفساد والظلام والجهل والفقر والضلال.
كل هذه الشعارات والوعود والرعود رفعت على ( أسنة ) الخشب .. على الخشب فقط وما أدراك ما الخشب ، هذا الخشب الذي استحال حديدا ، صنع من حديده الصدئ وهما.. رماحا.. وحرابا ، رفعوا على رؤوس أسنتها في وضح النهار ظلامهم وضلالهم
ليطفئوا النور وليقشعوا النهار
ويحطوا مكانه الليل والحلكة
الغلو والظلمة والتهديد والوعيد والزجر والمحاسبة وكسر الصورة وخلق الظل حتى في ظلام الليل الدامس باعتباره صباحا نحن موعودون به، لكننا في غفلة أمرنا...
الله ما أجملها من غفلة نتمتع بها وفيها رغم قصرها بالجمال والحب والصورة والرقصة المعبرة والموسيقى والكلمة الصادقة واللوحة المعبرة والمنحوتة الصارخة في وجه الكفر بالحب والحياة وبريح الصبا تهب من كل الجهات تغسل الجهل وتعيد من على عيونهم غشاوة إلى الرؤية والرؤى .
خشب.. ضلال.. ظلام.. ليل بلا قمر ولا نجوم.. جعجعة بلا طحين .. مجرشة بلا قمح .. عيون لا ترى الجميل إلاّ قبحا والحب إلاّ ضلالا وفسقا وفجورا.. ذهب بلا بريق وشهد بلا طعم ولون بلا كنه.
من الحب كنا ومن الحب سنكون وبه سنعيش وإليه سنرجع وبه سنحتفي بالوجود.. سنصرخ بالبياض بوصفه ابتهاج
سنرمي السواد القادم من السواد بالبياض وبالزبرجد الناصع القادم من وإلى الحب
من الشعر والموسيقى
من اللوحة والمسرح
من ضحكات الأطفال
من قل الحب يراك
من اللوحات الراقصة التي حرضتنا على الطمأنينة
من قاسم حداد الإنسان والشعر
نتسيّج بـ " قل هو الحب يراك "
من مارسيل منذورا للفتنة والجمال
تسع وعشرون مدية فقط رفعت لقتل الموسيقى ووأد الشعر
إنها ذات الخشب التي قلنا– ذات تأمل لئلا نقول ذات وهم - تمنينا أن تصير نصبا فصار نصبا.
***
المُفارقُ في الإتهامات التي أطلقها النواب الرجعيون بخصوص العرض الإفتتاحي لمهرجان ربيع الثقافة شهر مارس المنصرم بالبحرين، أنها أصابت شاعرا رقيقا مبتلا بالصدق و الرقة كقاسم حداد، وموسيقيا غنى بلسان ملايين الناس بمصداقية قلما كسبها موسيقي عربي مثل مارسيل خليفة. وبالمقابل يثير الإنتباه كم أحسنوا اختيار الهدف لما كانوا يستهدفون الحرية و الحب و الإبداع الإنساني، فالشاعر و الموسيقي هما حقا صوتان لكل ذلك.
أجدني ميالا أحيانا للبحث عن أعذار للأغبياء. و يكفي هنا أن نتصور حجم الكارثة في أن يكون المرء برلمانيا عربيا و ظلاميا رجعيا في نفس الوقت. أكيد أنه سيفكر في إدانة الحب لأنه لا يُدركه، و الحرية لأنه يخافها ، و الإبداع لأنه لا يفهمه. الرجعي كائن مرعوب؛ يخشى أن يحب في الطريق إلى المسجد، أو أن تستفرد به فكرة بين آيتين ، يخشى أن تحِب ابنته أو ترقص زوجته. و لديه قوالب جاهزة لكل شيء، يخاف عليها كما يخاف على شرف بنات العائلة، و هو يعيب على الماء نفسه أن يسيح خارج قوالبه.
خليفة و حداد يدافعان عن الحياة و يعملان لتستمر أرواحنا جميلة وعاشقة، كما الماء يعمل طول الوقت لتنبُت الأزهار و تتشابك خصلات الشعر وينوجد الخرير.. و هما ضروريان لعالمنا العربي الذي عاد مرعبا بما يعانيه من قحط روحي. ننصت إليهما بجوارح مفتوحة و ذلك ما لا يستطيع أحد أن يمنعنا منه. و حين يلزم الأمر أشكالا أخرى للفعل نكون جاهزين. إن دفاعنا عن الشاعر و الموسيقي هو دفاع عن الشعر و الموسيقى بما يحملانه من حقائق إنسانية عميقة لا يُدركها إلا ذوو القلوب المشرعة.
الرجعية ضد الإبداع، هو خلخلة و هي تأبيد. لذا لا يحاكم في عالمنا العربي إلا الإبداع الحقيقي الذي يخلخل و يمضي نحو الجِدَّة بماض مفتوح على الحاضر و الآتي، فيما تطلق المؤسسة الرسمية العربية عشرات ممن يحسبون أنفسهم على الفن ليعيثوا تشويها في ثراثنا و أرواحنا.
"أخلاقهم" تهتز حين يُحمل الحب محمل شعر و موسيقى و رقص، والأصابع التي لم تتصور قط أن الأصابع تعزف أو تكتب الشعر تشرع في القيام بأقصى ما يمكنها أن تبلغه: أن تكون أصابع اتهام.
لكننا، من جهتنا الحُرّة، نرى الأصابع التي تقطر شعرا و موسيقى تشير إلى قلوبنا و أجسادنا فنكتشف فينا السماء، و نرى الحب ذائبا في الأزرق والحياة تهب كما ظلت تفعل منذ الأبد. و ننقر مع العصافير التي ماتزال تعنيها السماء قضبان القفص العربي الشاسع، بنظرة تلامس الأفق، وبإيمان مطلق بالحرية.
كثيرون نحن، مجانين حرية و حب و جمال. نريد دائما من يذكروننا بإنسانيتنا حين يفتك بنا العصر، وبأجسادنا حين يحاصرنا العهر الرسمي، و بالحب حين لا ينظر إليه بعد أحد. نحب خليفة و حداد لأنهما معنا، واقفان جنبا إلى جنب مع أحلامنا التي تختلف لتقول الحرية. أخلاقنا الحب و الحرية والجمال..و نحن دائما نحميها.
نحن نعرف قاسم حداد و مارسيل خليفة الذين اختارا دائما أن يحملا رسالة الإنسان و دفعا ثمن ذلك كلٌّ حسب حظه. و لا نعرف هؤلاء النكرات الذين يخافون الحب و يرعون الغباء. لدينا كثير من النواب البرلمانيين ، و هم من التشابه حتى ليمكن عدهم الرجل نفسه. و لدينا قاسم حداد واحد ومارسيل خليفة واحد، نحبهما ولانقبل أن يُمسا بسوء.
المجد لكما، خليفة و حداد، إذ تقلقان راحة الغباء.
المجد لكما و انتما تضعان الحب في واجهة الحياة.
mouniri@maktoob.com
خاص موق (كيكا)